الرّسالة ما قبل الأخيرة/ وسيم عبّاس
من منكم رأى من قبل جنازةً يواسي فيها كلّ واحدٍ الآخرَ؟ لا تريد “الأخذ بالخاطر”، تشعرُ أنّه من الأجدر بك أنْ تكون في صفّ الّذين يتلقّون التّعازي، لا المُعزّين. يمنعك الحياءُ من أن تضيف في جملة “سلامة راسكم”: “وراسي”.
حدّثوني عنك كثيرًا قبل أن ألتقيكِ.
“جبّارة، قاسية وحنونة…” كلمات تصدّرت القائمة الّتي يحفظها عنكِ مَن عايَشوكِ وكانوكِ. ولم أكن أفهم كيف يمكن دمج القسوة، الحزم والحنان معًا، وما معنى أن تلتقي التّناقضات فيكِ مرّةً واحدة فتميّزكِ لتكونين حالةً استثنائيّةً عصيّةً على الفهم لأوّل وهلة، سريعة الحُبّ من أوّل كلمةٍ.
“تعال لهون يا حلو”، كان أوّل ما سمعتُهُ منك في لقائنا الأول، ثمّ قُبلةٌ (قبل حتّى معرفة أيّ تفاصيل عنّي سوى اسمي وبعض ما ذكرتُهُ على ذلك المنبر).
“دايمًا منحبّ نشوف وجوه جديدة…”، ثمّ تلا هذا الحنان الدّافئ إلقاء مهمّة:
“بدّي تكتب ليش انتسبت للتّجمّع”، فوجدتُني أردُّ بحماسة “ولدٍ” يرغب بإرضاء أمّه طمعًا بمزيدٍ من الحُبّ: “طبعًا”.
أنت “أستاذة” كبرياء، إذ لا يمكنني نسيان ذلك الموقف الّذي قمتِ بسرده على مسامعنا في دورة القيادة الشّابّة في الجمعيّة، ممّا ترك أثره عليّ، بقصدٍ أو غير قصد.
هل تذكرين؟ أنا أذكُر ذلك جيّدًا، تلك الكلمات الّتي تعلّمتُ منها: “كان من المقرّر أنْ أشترك في مقابلةٍ مع (القناة الثّانية) أثناء انتفاضة هبّة الأقصى، تعذَّرَ عليّ الذّهابُ إلى تل أبيب من أجل القيام بالمقابلة، فقمت بسؤالهم: “هل يمكنكم القدوم إلى النّاصرة؟”، رفضوا، قالوا: “نخاف القدوم إلى النّاصرة.”
فكان ردُّكِ الحازم هو ما شدّ وثاقي ورفع قامتي بكثيرٍ من كبرياء وفخر: “تحتلّوننا، تنهبون أرضنا، تغتصبون شعبًا كاملًا.. تقتلوننا وفوق هذا كلّه نحن مَن نخيفكم؟ أرفض الاشتراك بالمقابلة”. ثمّ قمتِ بإنهاء المحادثة دون تلقّي الرّدّ (“سكّرت الخَطّ بوجهن”). استفزّكِ آنذاك أن يعتبرنا الجلّادُ “منخوّف”.. لكنّني أدركُ كم يُرعِبُ أمثالُكِ الجلّادَ فيصير أكثر وحشيّةً أمام الحقّ.
لا أدري كيفَ استعارتني الذّكريات فغبنا بها، ولكن لحظة.. هل حقًّا غبتِ؟ ولكن كيف؟ ماذا سأقول لعدن؟ لا طريق يرشدني إلى أطراف الكلام. كيف أعزّي عدن الحزينة الّتي تبكي فراقك الّذي لم يسبقه لقاء؟! / لا حاجة للقاءٍ حتّى ندركَ فداحة الفراق والفَقد، أظنّ أنّه يكفي عدن – وسواها - رؤيتُك في وجوهنا، حين تتسلّل ملامحك إلى ملامحنا فنشبه بعضنا، أصدّق مَن يدّعي أنّنا حين نحبّ بعضنا نتشابه، نحمل ملامحنا، نتبادل – أحيانًا – نبرة صوتنا، وحين نفترق، لأيّ سببٍ كان، نصيرُ أكثر حرصًا على استعارة بعضنا بعضًا. لذا، لن تكوني خالدة الذّكرى فحسب، بالنّسبة لنا أنتِ فينا، ليس هذا كلامًا يليقُ بمهرجانات الرّثاء، ففي كلٍّ منّا خصلةٌ اكتسبها، تعلَّمها أو تعزّزت لديه منك.
على كلٍّ… من الطّبيعيّ أن يكون لديك مكانٌ خاصٌّ في عدن.
29.12.2013
كيف يمكن أنْ تجدَ خيطًا، دقيقًا، أصفرَ، من الفرح يتسلّل إلى فضاء قلبك العابس وسط الغيم القاتم؟ تأبى الاعتراف بوجوده. سيؤنّبك شيءٌ ما فيك لاعترافك به، ضميرك أو قلبك أو ذاكرةٌ حيّةٌ ربّما! حتّى ندركَ أنّكِ تعلّميننا أنّ فكرة “الفرح بحياة شخصٍ ما لدى وفاته” هي ليست فكرة من الأساطير.
أنظرُ إلى وجه حلا، وئام، حنّا، سهير وغيرهم كثيرين، أراكِ فينا جميعًا. ترى جئنا نودّع مَن؟! تركتِ فينا ولنا ولهم ولكِ ما يكفي لتنامي قريرة العين، وما من شأنه أن يجعلنا نشعر أنّه يمكننا الاحتفال في حياتك. لقد بكى الجميع حزنًا ذلك النّهار، وحدكِ لم تبكي، كانت ابتسامتك مهيمنةً على المكان، أقسم أنّي رأيتها. من منكم رأى من قبل جنازةً يواسي فيها كلّ واحدٍ الآخرَ؟ لا تريد “الأخذ بالخاطر”، تشعرُ أنّه من الأجدر بك أنْ تكون في صفّ الّذين يتلقّون التّعازي، لا المُعزّين. يمنعك الحياءُ من أن تضيف في جملة “سلامة راسكم”: “وراسي”.
كان الأطبّاء يقولون: نمهلك شهورًا، فأمهلتِ نفسكِ سنينًا، قالوا: أسابيع، فزدتِ عليها شهورًا، قالوا: “يومًا أو بعض يوم”، لم يدروا أنّك تفكّرين “ربّكم أعلم”، فزدتِ عليهم أسابيعَ أخرى، قالوا: ساعات! فزدتِ عليهم أيّامًا أخرى. خرج الطّبيب في الثّامن والعشرين من كانون الأوّل (أوّل كانون دونك) من غرفتك ليقول: “دقيقتان”! فأبيتِ إلاّ أن تطلقي المقاومة الأخيرة حتّى ينطفئ الرّمق، تتخطّين “المهلة” ليتفاجأ الأطبّاء الّذين لا يعرفونكِ حقّ معرفة: “قلبها قويّ”، لتظلّي مشرقةً ساعاتٍ. أبيتِ إلاّ أن تهزمي الوداع وتوقّعه وانتظاره. هكذا هم العظماء، يقولون “وداعًا” بطريقتهم. سنفسّر النّضال هذا بتفاسير عديدةٍ، لأنّه لم يكن نضالًا للتّمسّك بالحياة ولا استعجالًا في مغادرتها، ولكن.. ما أدرانا؟ هل هو الجبروت؟ هل هو الكبرياء (حتّى أمام الموت)؟! هل هو تحدٍّ للموت: “لن أكون لقمةً سائغة، عليك العمل بجهدٍ أكبر للنّيل مني”؟!
دكتورة روضة، أمّنا الغالية، لا أظنّك تتوقّعين شيئًا محدّدًا في هذه الرّسالة لأختم به، لن أقول “وداعًا” في هذه الرّسالة، تخيّلي أن أقول وداعًا! ستغضبين.. أعرفكِ جيّدًا.. وأنا أصلًا لم أعتدْ بعدُ أن أتحدّث عنك بصيغة الماضي، ولا أريد أن أعتاد! سأرسل لك الرّسالة الأخيرة عندما…
إلى اللّقاء.