طبيبةُ إنسان / إياد برغوثي
اللّقاء الأخير. قبل أسابيع. في المستشفى. قال الطّبيب: “قلبها قويّ. كسرت كلّ القوانين. تتمسّك بالحياة.” قلنا له: “أخبرنا من فضلك أمورًا لا نعلمها.” بكينا لألمكِ وأُعجبنا فيكِ أكثر.
| إياد برغوثي |
منعني الحزن من إتمام جمل الرّثاء، فطويت شاشة الحاسوب الشّخصيّ. كان فعل “كانت” وحده يدفعني بعيدًا عن لوحة المفاتيح لأجلس قرب المدفأة. تأخّرت عن تسليم المادة. أخشى اتّصالًا منكِ يلومني على التّأخير ويرفض الحجج. يسخر منّي الموت وأشعر بالبرد أكثر. رسالة تذكيرٍ أخرى تصل، موعد النّشر يقترب. لا أستطيع أن أعتذر عن الكتابة عنكِ.
اللّقاء الأوّل. في المكان نفسه، في الجمعيّة، حيث الأرض المزخرفة، والشّبابيك المقوّسة والزّجاج الملوّن، والذّكريات الّتي كانت قد بدأت تختبئ هناك في الثّنايا. قبل عقدٍ ونصف، أو أقلّ قليلًا. قالوا لي إنّك صرت مديرة الجمعيّة. لم أكن أعرفكِ. تغيّر المسار منذ وطأت قدميّ المكان، سألتني إن كنت أنا أنا ولم أكن أتوقّع الكفّ المحبَّ على رقبتي، ولا عناقًا دافئًا سأعلق فيه. أخبرت أمّي، بعد فترةٍ ما، أنّ لديّ أمًّا أخرى، فأسعدها الخبر.
لقاءاتٌ كثيرة. في المكان نفسه. عناقٌ وبهدلةٌ حنونةٌ وتحفيز. كرم ضيافة. غرفةٌ خشبيّةٌ منفتحةٌ على المعارف والأفكار والشّمس الفضوليّة، تحاورنا فيها عن كلّ ما أرادته هي أن يُشغلنا فصنعنا؛ تمعّنا في تشكّل الهويّات، ونجاح القيادات، وسرنا في مساحات التّفكير النقديّ، وخضنا في تفاصيل الوطن الّذي لنا، سُرق منّا ولم نعد نعرفه، وجرّبنا كتابتنا لذاتنا بحدّ ذاتنا، وفيها تعلّمنا أن نضع الهمزات في مكانها، وننثر الشّدّات فوق النّصوص لتحلّق كالعصافير في أواخر الكلمات المنسوبة، وفوق الأحرف المضاعفة، وأن لا نتهاون مع الممنوع من الصّرف!
لقاءاتٌ يوميّة. في المكان نفسه. قبل أربع سنوات. أو أقلّ قليلًا. طلبت منّي أن أترك الهيئة الإداريّة للجمعيّة وأنضمّ للطاقم. تركت الغرفة الخشبيّة ودخلت المكتب. كنت أظنّها جمعيّةً نشطة، لكن سرعان ما تأكّدت أنّها مصنعٌ لكلّ شيء، لا تتوقّف ماكناته عن العمل. أبحاثٌ، مؤتمراتٌ، مهرجاناتٌ، دوراتٌ، ورشٌ، إصداراتٌ، صالوناتٌ أدبيّةٌ، منحٌ، ائتلافاتٌ، تواصلٌ، مسابقاتٌ، احتفاليّاتٌ، عرائضُ ومطالبات. كانت تخترع العمل، لم تكن تنام، فعلًا.
تصلني رسالةٌ تقطع الكتابة، يطلب منّي الزّملاء في لجنة التّأبين تزويدهم بصورٍ، وفيديوهاتٍ، ونصوصٍ لتكونَ مواد لحفل التّأبين تُظْهِرُ الأثر الباقي منها. أتنقّل بين ملفّات الصّور، إنّها تبتسم فيها جميعًا، وجميعنا كنّا صغارًا فيها. كم كبرنا، كيف رحلتِ هكذا؟ أبدّل أقراص الفيديو، إنّها ترحّب بالجميع في بداية الفيلم، تؤكّد الأهداف ثمّ تختفي في التّفاصيل خلف الكواليس. لم تكتب كثيرًا. قلت لهم: أصدقائي، الأثر في البشر، انسوا النّصّ، انسوا الصّور. انظروا فقط في عيون الشّباب والصّبايا.
لم تكُ د. روضة عطا الله في سنيّها الأخيرة، طبيبة أسنان، بل كانت طبيبة إنسان، جرّاحة تجميلٍ تجري عمليّاتها الثّقافيّة مجّانًا لإزالة التّشويه عن بشرٍ اقتحم العدوّ وعيهم على غفلةٍ من ليل نكبتهم الطّويل.
اللّقاء الأخير. قبل أسابيع. في المستشفى. قال الطّبيب: “قلبها قويّ. كسرت كلّ القوانين. تتمسّك بالحياة.” قلنا له: “أخبرنا من فضلك أمورًا لا نعلمها.” بكينا لألمكِ وأُعجبنا فيكِ أكثر.
كنت مثلك، لم أصدّق أنّكِ سترحلين فعلًا، بأنّي سأخسر مديرةً وأمًّا في مساءٍ شتويٍّ باردٍ واحد. أنكرت حتميّة توقّف القلب الكبير عن بثّ الحياة في الجسد المنهك. لقد وعدتني أنّك ستتحسنين وسنجلس مرّةً أخرى لنكمل أحاديثنا الّتي لم تنتهِ، ومشاريعنا الّتي بدأناها وأردتيها أن تكتمل، هذا الوعد الوحيد الّذي لم تفي به. وعدي لك بأن نستمرّ، حتّى نهايتنا الحتميّة، بالطّريق ذاتها.
(إياد برغوثي: قاصٌّ فلسطينيٌّ، عمل مديرًا للمشاريع في جمعيّة الثّقافة العربيّة).