عن روضة واحتفاليّة فلسطين للأدب / أهداف سويف
بدت لي ليلتها عليها مسحةٌ من جمالٍ خاصّ، وبدت أعمق وجودًا وأكثر رهافةً في الوقت نفسه، وخطر لي أنّني ربّما لا أراها ثانيةً، وطردت الخاطر من ذهني.
| أهداف سويف |
سمعت بالدّكتورة روضة - طبعًا - قبل أن ألتقي بها.
حكى لي عنها الصّديق والمفكّر الفلسطينيّ الكبير، إدوارد سعيد، حين كنت أستعدّ لزيارتي الأولى لفلسطين مع بداية الانتفاضة الثّانية، ولم يتح لي أن ألتقي بها، حيث اقتصرت تلك الزّيارة - وما تلتها وما تلتها - على المناطق المحتلّة عام 1967، وليس قبل ذلك، فمرّت السّنين وأنا لا ألتقيها، لكنّني ألتقي سيرتها، كثيرًا، عند الأصدقاء، وفي المقالات والكتب؛ سيرةٌ لست بحاجةٍ لأن أذكرها هنا بما تتضمّن من معانٍ ومواقفَ نضاليّة، وأكاديميّة، وتربويّة، وأسريّة. أقول فقط إنّ كلّ ما كنت أسمعه كان يزيدني احترامًا لها، ويضع في نفسي – للأمانة – نوعًا من التّحسّب للقائها.
وجاء اليوم الّذي قرر فيه مجلس أمناء احتفاليّة فلسطين للأدب - بناءً على توصية الأصدقاء والمستشارين الفلسطينيّين - أن يتّجه بفعاليّات الاحتفاليّة إلى فلسطين المحتلّة عام 1948، وكان هذا لاحتفاليّة عام 2011، وكان القرار بالنّسبة لنا محفوفًا بالأخطار والمشاكل، وكان من الطّبيعيّ أن نتوجّه للدّكتورة روضة، ولجمعيّة الثّقافة العربيّة، نطلب النّصح والمساعدة. سأذكر دائمًا أوّل مرّةٍ اتّصلت بها، واستأذنت في أخذ دقائق من وقتها، وبدأت في التّعريف بنفسي وبالاحتفاليّة، وبسرد تاريخنا وشرح الأسباب الّتي تحثّنا على الاتّجاه إلى النّاصرة … وتركتني أكمل ما عندي ثمّ قالت ببساطةٍ شديدة: ”أهلا فيكم، احنا في انتظاركم من سنين”! طلبت موعدًا فقالت إنّ عليّ أن أتفضّل وقتما شئت.
احتوتني روضة وفريقها المدهش، ثمّ احتووا الاحتفاليّة. ذهبت إليها في النّاصرة فاستقبلتني بدفءٍ وترحاب، ودخلت إلى جمعيّة الثّقافة العربيّة فوجدتني في بيتي ووسط أهلي. وفي عام 2011 عقدت احتفاليّة فلسطين ندوةً في جمعيّة الثّقافة العربيّة، كانت - بفعل جمهورها - من أكثر النّدوات حيويّةً وإثارةً لنقاشاتٍ صعبةٍ وغنيّة.
ثمّ صادفتها بعد أيّام، مع أسرتها، على معبر الشّيخ حسين، وعرفت أنّها - إلى جانب كلّ الجبهات الّتي تكافح فيها - تكافح أيضًا على جبهة الصّحّة.
وفي العام التّالي، 2013، عادت احتفاليّة فلسطين، مع جمعيّة الثّقافة العربيّة، إلى حيفا، وأقمنا أمسيةً كبيرةً في مسرح الميدان. افتتحت روضة الحفل وقدّمته، كان وجهها قد رقّ، وكانت شاحبةً، وألقت كلمتها جالسة، مضطّرةً أن تمدّ ساقها على كرسيٍّ صغير تحت طاولة المنصّة؛ أمّا الكلمة الّتي ألقتها فلم تفتقد مثقال ذرّةٍ من الحماسة والحيويّة ووضوح الرّؤية، وكانت المشاعر الموجّهة لها من الجمهور تدفئ المسرح الكبير كلّه.
وتلك اللّيلة، لم تكتف روضة بكلّ ما قدّمته، بل استضافت الاحتفاليّة على العشاء في بيتها.
سأذكرها دائمّا هكذا: بيتٌ شَرِحٌ بأثاثٍ جميلٍ ومفروشاتٍ زاهية، دافئٌ بالحضور والمحبّة والأحاديث، وعشاءٌ كريمٌ مجهّزٌ بعنايةٍ وفنّ، تدور أطباقه على الضّيوف بلا انقطاع، وروضة لا ترتاح، تدور تحادث وتلاطف وتعزم، وزوجها، وأصدقاء الأسرة، وفريقٌ من الشّباب يحوّطونها بالاهتمام والحبّ والرّعاية - يتركون لها مساحة الحركة، ويُخْفونَ القلق. بدت لي ليلتها عليها مسحةٌ من جمالٍ خاصّ، وبدت أعمق وجودًا وأكثر رهافةً في الوقت نفسه، وخطر لي أنّني ربّما لا أراها ثانيةً، وطردت الخاطر من ذهني.
مناضلةٌ، ومعلّمةٌ، وإداريّةٌ، وإنسانةٌ راعيةٌ دافئة مُحِبّة - معرفتها مكسبٌ ونعمة، وفقدانها خسارةٌ فادحة.
القاهرة في 14 يناير 2014.
(أهداف سويف: روائيّةٌ وناشطةٌ سياسيّةٌ مصريّة).