روضة بشارة – عطا الله: عمارة الثّقافة وثقافة العمارة / عبد بدران
أدركت الدّكتوره أنّ اعتناق الثّقافة الفلسطينيّة وتشييدها يكتمل بالعمارة، وليس هناك أروع من أن يكون للمؤسّسة بيتٌ يكمل الحلقة المفقودة.
| عبد بدران |
كان ذلك موعدًا حتميًّا، في شتاء 2008، عندما التقيت بروضة لأول مرة بمكتبها في جمعيّة الثّقافة العربيّة في شارع توفيق زيّاد بالنّاصرة. كان اللّقاء مرتّبًا ومخطّطًا له مسبقًا، كنت حينها في زيارةٍ للبلاد للبدء بمسحٍ ميدانيٍّ لبحث الدكتوراه.
كان اللّقاء واجبًا، لا سيّما أنّ موضوع البحث يرسم الاتّجاهات المعاصرة في العمارة الفلسطينيّة، وأنّني كنت على علمٍ مسبقٍ بنجاح مشروع منتدى المعماريّين الّذي أنشأته وأشرفت عليه روضة بنفسها. لقد استطاعت بهذا المشروع أن تجعل الخطاب المعماريّ الفلسطينيّ في الدّاخل يتجاوز حدوده المبتدعة والوهميّة.
عند وصولك المكان، كان لا بدّ أن تشعر بروحه وروح القاطنين فيه، فللأماكن أرواحٌ لا تتناسخ. ظهر لي بوضوحٍ ذلك المبنى العربيّ، أصالةٌ تتوسّط التّشرذم والإرهاق المعماريّ والعمرانيّ للأبنية في شارع توفيق زيّاد، كأنّه يعلن وجوده كلّ يوم، ويلعن الكتلة الأسمنتيّة حوله.
كوني معماريًّا، أطلعني استكشاف المكان على روح روضة ومكنّني من رسم صورةٍ بذهني لفكرها الثّقافيّ، فبعد أن صعدت عن الرّصيف بدأ يتجلّى البيت أمامي بريعانه رغم قِدَم حجارته الّتي ترفض النّسيان؛ أمّا أدراجه فتقودك بلا خيارٍ إلى شرفةٍ واسعةٍ تطلُّ على الأفق من جهة الغرب، وعلى بواقي البساتين من الشّرق والجنوب، يرسم لك في ذهنك ما كان يجب أن يكون؛ وأمّا في الشّمال، فيقف أمامك بابه الواسع، يلبس حلّته الخضراء، ولا يبقي لك مجالًا إلا الدّخول مُرَحّبًا بك. ما أن دخلت القاعة الرئيسيّة حتّى استحضرني قول الأديب والفيلسوف المكسيكيّ فرانسيسكو دي إيكاثا عندما قال: “ليس في الحياة أقسى من أن يكون المرء أعمى في غرناطة”، كذلك الأمر، ليس في الحياة أقسى من أن يكون المرء أعمى أمام تكوينات موروثنا المعماريّ والعمرانيّ.
بيت جمعيّة الثقافة العربيّة يتّضح لي الآن بطرازه الشّاميّ المدينيّ، أمّا روضة، بتصميمها للمكان، فقد جعلت جدران القاعة العالية تحتضن بدفء كلّ من دخل وخطا إلى الدّاخل، فالكتب المختلفة والمرتّبة في هذا الفضاء كأنّها تنظر إلى حركة الدّاخل بإعجابٍ وبلا حياء، حتى تتوقّف أنفاسك فتُضفى عليك هالةٌ من الرّفعة والجرأة، فتكون عندها قد جهزت للقاء.
وإذا دخلت مكتبها اكتشفت حيّزًا آخر ليس مستقلًّا عن باقي المكان، لكنّه امتدادٌ لروحه وجسده، فالدّكتورة روضة أبقت وحافظت على تصميم البيت العتيق، البلاط التقليديّ، والشّبابيك، والأباجورات الخشبيّة، والزّجاج الملوّن؛ فقد كانت تؤمن أنّ العمارة امتدادٌ للقاطنين فيها: هويّتهم ولغتهم، حواسهم وروحهم، ملبسهم وأجسادهم. عندما رأتني تبسّمت وسلّمت عليّ، ثمّ قادتني مرحّبةً إلى مقعدينا، أنا ورفيقي أبو العلاء.
هذه هي روح الدّكتوره روضة، وهذا هو فكرها، فالعمارة عندها موطّدة العلاقة بالثّقافة، ولا بناء للثّقافة دون العمارة، شأنها شأن الشّعر، والأدب، والموسيقى، والفنون، المرئيّ منها واللّا مرئيّ.
لفتت انتباهي قدرتها الرّائعة على قراءة المشهديّة المعماريّة بتفاصيلها، فازدادت لقاءاتنا أبعادًا وتعدّدت، فذكّرتني مشاهدتها للعمارة بأعمال المفكر الإنچليزيّ جون راسكن، وطريقته في النّظر والإصغاء للمشهديّات المعماريّة في البندقيّة.
هذه القدرة حضرت بقوّة عندما ابتدأنا العمل سويًّا على مشروعها المعماريّ الكبير وحلمها العظيم، بيت جمعيّة الثّقافة العربيّة في حيفا، فكانت دقيقةً في وصف فراغات المشروع، ودقيقةً في تسميتها. هذا المشروع الّذي اعتبرته روضة الأوّل من نوعه منذ تهجير الثّقافة الفلسطينيّة من المدن التاريخيّة، عندما أجبر الشّعب الفلسطيني على النّزوح تاركًا وراءه ما لم يكن في القدرة حمله، فبقيت العمارة خارج الخطاب والممارسة الثّقافيّة لعقود.
أدركت الدّكتوره أنّ اعتناق الثّقافة الفلسطينيّة وتشييدها يكتمل بالعمارة، وليس هناك أروع من أن يكون للمؤسّسة بيتٌ يكمل الحلقة المفقودة.
**********
(المُحرّر/ علي مواسي) - أشرفت الدّكتورة روضة بشارة – عطا الله على مشاريع هامّةٍ تتعلّق بالعمارة العربيّة والإسلاميّة، ونظّمت أنشطةً وفعاليّاتٍ عديدة حولها، منها:
* استضافة وفدٍ طلّابيٍّ ألمانيٍّ من كلّيّة الهندسة المعماريّة في جامعة ميونيخ للعلوم التّطبيقيّة (2009)، عملوا على تطوير مشاريع معماريّة لإعادة تأهيل وترميم البلدة القديمة في مدينة رام الله، بمرافقة البروفيسورة دنيا كارتشر، عراقيّة الأصل. وأجرى الوفد جولاتٍ معماريّةً في المدن الفلسطينيّة التّاريخيّة: يافا، وحيفا، والنّاصرة، وعكّا. استمع الوفد خلال زيارته إلى مقرّ جمعيّة الثّقافة العربيّة في مدينة النّاصرة، لمداخلةٍ قدّمتها الدّكتورة روضة بشارة – عطا الله حول مشروع “العمارة والهويّة” في الجمعيّة، وكذلك لمداخلةٍ للمعماريّ نظمي حبيب الله حول إشكاليّات وعوائق إعادة تأهيل المراكز القديمة للمدن الفلسطينيّة التّاريخيّة في ظلّ السّياسات الإسرائيليّة. واصطحب المعماريّ شريف صفدي الوفد في جولةٍ بالبلدة القديمة بالنّاصرة، تعرّفوا خلالها على معالمها المعماريّة، والتّاريخيّة والدّينيّة.
* يومٌ دراسيٌّ بعنوان “في مفهوم المدينة – دراساتٌ معماريّة” (2007)؛ نُظّمَ في فندق “جولدن كراون” بالنّاصرة، وشارك فيه عشرات المعماريّين والمهتمّين. تحدّثت في اليوم الدّراسيّ الدّكتورة روضة بشارة – عطا الله حول مشروع “العمارة والهويّة” و”منتدى المعماريّين العرب”، وكذلك حول جهود المعماريّين في العالم العربيّ؛ ثمّ تحدّث الدّكتور يوسف جبارين حول “مفهوم المدينة”، متطرّقًا إلى تطوّر الحيّز المدينيّ، وإلى الحداثة والمدينة العربيّة الفلسطينيّة وإعادة هيكلتها، وفكرة بناء مدينة عربيّة؛ ثمّ تحدّثت مخطّطة المدن هناء حمدان مستعرضةً أطروحة الدّكتوراه الّتي كانت تعدّها في حينه بعنوان “الانتماء والمدينة عند النّساء الفلسطينيّات في يافا”؛ وتحدّثت بعدها المعماريّة ريم قندلفت حول المعماريّين العرب في الدّاخل الفلسطينيّ بين الماضي والحاضر؛ ثمّ المعماريّة فاتن ابريق – زبيدات حول مشروعها “نوستالجيا”.
* “جولةٌ معماريّةٌ في يافا” (2007)؛ نظّمها منتدى المعماريّين العرب التّابع لجمعيّة الثّقافة العربيّة، في إطار دورة “العمارة والهويّة”؛ التقى المشاركون خلالها المدير الفنّيّ لمسرح “السّرايا”، أديب جهشان، وتعرّفوا على مبنى المسرح العثمانيّ؛ والتقوا أيضًا بالمعماريّ أمنون بار الّذي تحدّث عن عمران المدينة القديمة في يافا وخطّته المقترحة لإعادة ترميمها وبنائها؛ ثمّ أجروا جولةً مع الباحث والمرشد سامي أبو شحادة للتّعرّف على معالم المدينة؛ والتقى المشاركون أيضًا بالمستشار التّنظيميّ فتحي مرشود، الّذي قدّم لهم ورشةً حول تنظيم المعماريّين في الدّاخل الفلسطينيّ وأهميّة منتدى العمارة.
* “العمارة في ظلّ القهر والاحتلال: جولةٌ معماريّةٌ في مدن الضّفّة الغربيّة” (2007)، مدّتها يومان؛ وشملت زيارةً إلى مدينة الخليل، حيث التقى المشاركون مجموعةً من المعماريّين العاملين في “مركز إعمار الخليل”، وعلى رأسهم المعماريّان وليد أبو الحلاوة ونهى دنديس، اللّذين قدّما مداخلاتٍ حول العمارة في المدينة والتّحدّيات الّتي تواجهها. ثمّ رافق السّيّد رافع المحتسب والمعماريّ جلال أبو الحلاوة المشاركين في جولةٍ للتّعرّف على معالم مدينة الخليل العمرانيّة، وأثر سياسات الاستعمار الإسرائيليّ الاستيطانيّة والتّهويديّة عليها، ومشاريع حمايتها وحفظها والصّعوبات الّتي يواجهها القائمون عليها.
وزار المشاركون مدينة بيت لحم، حيث التقوا السّيّدة كريستيان ناصر، مديرة “مركز حفظ التّراث الثّقافيّ”، الّتي تحدّثت عن معماريّة مدينة بيت لحم وقوفًا على المجسّم الكبير للمدينة في “مركز السّلام”، وهو مشروع لنيل درجة الماجستير؛ ثمّ أجرى المشاركون جولةً في المدينة بمرافقة المعماريّين طارق الكرد، ومحمود عيسى، ومحمّد أو حمّاد، ومؤيّد زبون، ومهنّد فتيان، ومحمّد عليّان، وأماني عزّت.
وزار المشاركون أيضًا مدينة رام الله، حيث التقوا بالدّكتور نظمي الجمعيّ في مؤسّسة “رواق – مركز المعمار الشّعبيّ”، والّذي قدّم مداخلةً حول مشاريع المؤسّسة لترميم وتوثيق المواقع والمباني الأثريّة الفلسطينيّة؛ ثمّ أجرى المشاركون جولةً في رام الله برفقة المعماريّة ربى سليم، ليزوروا بعد ذلك “مؤسّسة عبد المحسن القطّان” ويتعرّفوا على مبناها التّاريخيّ، وليلتقوا في المؤسّسة بالفنّان التّشكيليّ جواد إبراهيم، والّذي كان يعرض أعماله في المؤسّسة في حينه.
* دورةٌ في “العمارة والهويّة” بالقاهرة (2007)؛ عُقِدَت على مدار أسبوع، وشارك فيها العشرات من المعماريّين العرب في الدّاخل الفلسطينيّ. شمل برنامج الدّورة لقاءاتٍ مع معماريّين مصريّين مشهورين، ومثقّفين، وفنّانين وموسيقيّين، وجولاتٍ في مواقع معماريّة في أنحاء القاهرة والإسكندريّة برفقة محاضرين مختصّين بالعمارة ومرشدين، وحلقات نقاشٍ وتلخيصات، وأمسياتٍ ثقافيّة وفنيّة.
التقى وفد المعماريّين خلال زيارتهم البروفسورة سهير زكي حوّاس من جامعة القاهرة، متحدّثةً عن “توثيق العمارة وضرورتها”؛ وكذلك الدّكتور بهاء الدّين حافظ بكري، عميد كلّيّة العمارة في جامعة القاهرة ورئيس حزب الخضر، متحدّثًا عن “عمارة الطّاقة، وعمارة الإيمان، وعمارة البيئة”؛ ثمّ المعماريّ الدّكتور عبد الحليم إبراهيم عبد الحليم، متحدّثًا حول “التّراث المعماريّ الإسلاميّ، وأثر السّياسة بالشّرق الأوسط في العمارة ودراستها وتدريسها”؛ والتقى الوفد أيضًا بالدّكتور علي جبر، المحاضر في كلّيّة العمارة في جامعة القاهرة، إذ رافق المشاركين في زيارتهم لجامع السّلطان حسن المملوكي ومسجد الرّفاعي في منطقة ميدان صلاح الدّين؛ وفي الإسكندريّة، التقى الوفد بكلٍّ من المعماريّين مصطفى مكّي وممدوح حمزة، اللّذين تحدّثا عن مشروع بناء مكتبة الإسكندريّة ودلالاته المعماريّة.
وكانت للوفد لقاءاتٌ ثقافيّةٌ عدّة، مع كلٍّ من الشّاعر الفلسطينيّ هارون هاشم رشيد؛ والرّوائيّ علاء الأسواني؛ والشّاعر المصريّ أحمد فؤاد نجم في بيته بحيّ “الزّلزال” الشّعبيّ بالقاهرة؛ والموسيقار العراقي نصير شمّة، في مبنى “بيت العود” بمنطقة الأزهر وخان الخليلي، حيث تحدّث عن إنتاجاته وعلاقة العمارة الوثيقة بالموسيقى؛ وكان لهم لقاءٌ أيضًا بمندوب فلسطين الدّائم لدى الجامعة العربيّة والأمين عام المساعد، محمّد صبيح، وذلك في مقرّ جامعة الدّول العربيّة.
زارد الوفد أيضًا مبنى دار الأوبرا المصريّة بالقاهرة، وشاهدوا عرض باليه “زوربا”؛ والأهرامات؛ وإحدى مدارس صناعة السّجّاد المصريّة؛ وحديقة الأزهر الحديثة في الإسكندريّة، حيث يقع قصر الملك فاروق.
* يومٌ دراسيٌّ حول “العمارة والهويّة” (2006)؛ نظّمته جمعيّة الثّقافة العربيّة بالتّعاون مع “رواق – مركز المعمار الشّعبيّ”، وشارك فيه عشرات المعماريّين العرب والمهتمّين. تحدّث فيه الدّكتورة روضة بشارة – عطا الله عن مشروع “العمارة والهويّة” و”منتدى المعماريّين العرب” في جمعيّة الثّقافة؛ ثمّ الدّكتور نظمي الجعبي، المدير المشارك لـ “رواق” والمحاضر في جامعة بير زيت، حول علم الآثار والعمارة والهويّة والصّراع مع الاستعمار والمستكشفين الأجانب في فلسطين؛ ثمّ المعماريّة ربى سليم حول تجربة “رواق” منذ العام 1994 في ترميم وتوثيق المواقع والمباني الأثريّة الفلسطينيّة؛ ثمّ المعماريّ سنان عبد القادر حول علاقة العمران بالمدينة والفكر، وحول مشاريعَ عَمِلَ عليها وما يزال، منها: مشروع المتحف التّاريخيّ (أمّ الفحم)، وبيت السّناسل (واحة السّلام)، وبيت الحوش والبستان (الطّيبة)، وعريشة المدينة (بيت صفافا)، وبيت المشربيّة (بيت صفافا).
* أيّامٌ دراسيّة في عمّان حول “العمارة والهويّة” (2006)؛ عُقِدَت على مدارِ ثلاثة أيّام، وشارك فيها وفدٌ من 63 معماريًّا فلسطينيًّا. التقى الوفد خلالها ثلاثة معماريّين عرب، هم: جعفر طوقان، وعمّار خمّاش، وراسم بدران. تحدّث طوقان عن العمارة والهويّة في سياق مدينة القدس، وتحدّث عمّار خمّاش، الّذي التقاه الوفد في “مركز البيئة الأردنيّ”، عن رؤاه ومشاريعه المعماريّة بصفته فنّانًا تشكيليًّا ومهندسًا في الوقت ذاته، وتحدّث راسم بدران حول مشاريعه وتصوّراته لما يجب أن تكون عليه العمارة في العالم العربيّ ومراعاتها للبيئة المحيطة. والتقى الوفد في مقرّ أمانة العاصمة – عمّان، بأمين عام العاصمة، عمر المعاني، ثمّ استمعوا إلى مداخلةٍ حول “مشروع المخطّط الشّموليّ للعاصمة عمّان”، قدّمها كلٌّ من مدير المشروع، المعماريّ سمير صبحي، والمعماريّة ميساء البطاينة، وممثّل الشّركة الكنديّة الّتي ترافق المشروع، جيري بوست.
وأجرى وفد المعماريّين العرب جولةً في الصّحراء الأردنيّة، حيث زاروا اثنين من القصور الصّحراويّة العربيّة الإسلاميّة، وهما قصر الحرّانة وقصر عمرة.
(عبد بدران: مهندسٌ معماريّ، أوكلت إليه جمعيّة الثّقافة العربيّة هندسة مركزها الثّقافيّ العربيّ في حيفا).