خطوات مع “الستّ” إلى الخلود/ سيد محمود حسن
على الصعيد الشخصي لم أشعر بحضورها في حياتي إلا وأنا على أعتاب الجامعة عندما بدأت “سيرة الحب”
خطوات مع “الستّ” إلى الخلود/ سيد محمود حسن
|سيد محمود حسن|
كلما كان “السنجق” يطرق أبواب بيتنا الصغير، يفرح أبي ويتهلل وجه أمي بالبشر لأسباب لم أكن أعرفها في طفولتي. لكن جهلي بالأسباب لم يحرمني أبدا من البهجة. فهذا “السنجق” العجوز لم يكن جيب جلبابه الأبيض النظيف يخلو من الحلوى. وبعد أن يرتاح من صعود السلم، يستردّ أنفاسه ثم يخلع عباءته الصوف الصفراء ويقلب في جيبه إلى أن يعثر على “الملبس” ومعه تخرج قروش قليلة يضعها في يدي ثم يطلب مني أن اشتري له “الأهرام” من بائع قرب منزلنا. وفي مسافة العودة من محلّ البائع إلى بيتنا أكون قد التهمت العناوين كلها وعبثت بالصفحات بطريقة تفضح فضولي، لكنها لم تضعني أبدًا في مواجهة غاضبة مع عم “محمود السنجق” الذي كان أخي الأكبر مني ينزعج من الاوقات الطويلة التي يقضيها في بيتنا ويخترع معه مبررات للخلاف.
وفي كل مرة يغضب أبي من ازعاج ضيفه ويصرخ في وجه أخي: “إرحموا عزيز قوم ذلّ”، لم يكن عمري يسمح لي بكتابة تلك المأثورات العائلية لأنها بدت لي كجبال شاهقة عجزت دائما عن تسلق معناها وادراكه إلى أن جاء يوم ولمس أبي في بهجتي بلقاء السنجق مساحة من الأمان جعلته يروي لي حكاية السنجق وكيف دارت به الدنيا.
علمت من أبي أن السنجق لم يكن إلا وجيها صعيديا مثل هؤلاء الوجهاء الذين تحفل بهم أفلام الأربعينيات، ورث لقبه من مكانة جده الذي كان يتولى ادارة زمام قريتنا في صعيد مصر وما يجاورها من قرى أيام عصر محمد علي. لكنه بخلاف هؤلاء الوجهاء لم يكن مثل “كشكش بيه” ينفق أمواله على الراقصات بلا حساب، فقد كان يملك صوتا جميلا ومزاجا جعله ضحيه موهبته التي لم يحسن استغلالها فقضى سنوات شبابه يبحث في كيفية تحققه إلى أن جاءت ثورة يوليو 1952 وناصرها انتقاما من رفض عائلته لرغبته في احتراف الغناء وأنفق ما تبقى من شبابه في التأريخ الشفهي لتجربة عبد الناصر، التي لم يملك منها إلا وظيفة صغيرة في المصانع الحربية حيث كان يعمل أبي.
ليلتها فقط أدركت سرّ غضب السنجق الشديد من السادات ومن كامب ديفيد التي كان يلعنها بصوت عال كلما انخرط في قراءة مقالات “الأهرام” التي فهم تدريجيا سرّ عبثي بصفحاتها، فلم يغضب، لكنه بدأ يلفت نظري إلى المقالات التي ينبغي قراءتها. وقادني بمحبة إلى مقالات أحمد بهاء الدين ورسوم صلاح جاهين وتعليقات كمال الملاخ عن الحياة الفنية، وهي التعليقات التي كانت تسمح لي دائما بسؤاله عن الفن وأحوال الفنانين لأتلقى اجابات وافية من السنجق الذي بدا مثل معلم يقيم فروض الطلاب ويعطي العلامات ويؤكد على ضعف مستوى الجميع، الا واحدة كانت تنجو دائما من أحكامه القاسية ويمنحها الدرجات النهائية، فهي الأولى ولم تكن هذه النجيبة سوى أم كلثوم.
وفي أيام كثيرة كانت الساعة الخامسة تفاجىء “السنجق” وهو في بيتنا فيطلب من الجميع الصمت لتغني، من الإذاعة التي تحمل اسمها، وبتواضع نادر كان السنجق يخفي صوته الجميل حتى تحين وصلتها الأخيرة، يغني معها: “إنت الحب اللي ماليش غيره”، وتضحك أمي على حفيد أولياء الله الذي يضيع هيبته من أجل أغنية. تمتلئ عيناه بالدموع فيطلب مني أن أرافقه إلى بيته القريب، وهناك أرى بناته العوانس اللواتي كن يتعاملن معه بقسوة فسّرت لي الساعات الطويلة التي يقضيها في بيوت أقربائه.
وفي حجرته التي طلب مني دخولها ليمنحني هدية وجدت عشرات الأسطوانات التي يرتبها بعناية قرب سريره وكلها تحمل صورة أم كلثوم ولا مكان لأيّ صوت آخر. وأمام السرير مئات المجلات الفنية التي أدمن قرءاتها كمن يطارد لصًّا في دروب عمره التي راقبت أنوارها وهي تطفأ.
لم تكن هدية السنجق في تلك الليلة سوى كتاب أحمد بهاء الدين “أيام لها تاريخ”، الذي أوصاني بقراءته ووعدني حال فعلت ذلك بأن يمنحني هدية أحسن.
الحوافز التي وعدني بها جعلت من عملية التهام الكتاب في ليلتين مهمة سهلة جدا. كنت أقرا من دون أن أعي نصف الحكايات التي يوثقها الكتاب بجمال أدركته بعد ذلك بعشر سنوات على الأقل وأنا اقرأ الكتاب وأحسم أمري في دراسة التاريخ وليس الأدب.
فاجأت عم محمود بقراءة الكتاب كاملا فمنحني كتابا جديدا لبهاء هو “محاوراتي مع السادات”، وهو كتاب بدا صاحبه مُحبًا حقيقيا للسادات لكنه موضوعيّ لدرجة القسوة عليه وإدانة كل ممارساته السياسية، ومن هنا كان ادراكي للفخ الذي كان السنجق يرغب في وضعي فيه؛ فهو يحرضني على كره السادات قبل أن أدخل المدرسة الثانوية حيث بدأت رحلة تشكيل وعيي وهي رحلة لم تكن بعيدة عن أم كلثوم التي ازدادت قربا مني في ليالي السهر للمذاكرة برفقة أصدقاء مولعين بالأدب والفن وبفضل هذه الرفقة كانت تحضر دائما سيرة أم كلثوم كما عرفتها من “السنجق” الذي كان مفتونا بها، لدرجة أنه حكا لي ذات ليلة حكاية غريبة عن رجل من بلدتنا أحب “الستّ” بجنون وكان يأتي من الصعيد ليحضر حفلاتها ويجلس مع علية القوم وفي الصف الأول. لكنها وجهت له إهانة من فوق المسرح وصنعت لحظة درامية أليمة جعلت الرجل ينفق نصف ثروته لتأديبها حتى أنه زوّر عقدا للزواج بها وبهدلها في محاكم الصعيد “كعب داير”، حتى تدخل العقلاء وتمكنوا من وقف جنونه.
الغريب أنّ أطياف هذه الحكاية التي لم أصدقها طبعا واعتبرتها واحدة من أساطير “السنجق” وجدتها في كتاب نعمات أحمد فؤاد “أم كلثوم وعصر من الفن” الذي يراه البعض سيرة رومانسية لسيدة لغناء العربي بالغت مؤلفته كثيرا في إضفاء صفات القداسة على سيدة لم تكن بحاجة إلى أساطير جديدة، لكني على الصعيد الشخصي لم أشعر بحضورها في حياتي إلا وأنا على أعتاب الجامعة عندما بدأت “سيرة الحب”.
السيرة التي تحضر فيها كملكة متوّجة ونظهر إلى جوراها مجرد “كومبارس صغيرة” كأنما نمنحها أدورانا ونحن نستعير صوتها لنعبر به ونؤرخ لنزواتنا في الهبوط والصعود. وفي الجامعة انتبهت لأول مرة إلى الطاقة الروحية في أغنيتها الفاتنة “رق الحبيب” التي وجدت نصها لأول مرة مكتوبا في كراس لصديق يعمل الآن في تجارة الأدوات الصحية لكنه لفت نظري إلى الأغنية وجمالها للحد الذي جعلني أديرها ليوم كامل من دون ملل ومن دون إدراك سرّها الذي رافقني لنحو عشرين عامًا، وجعلها جوهرة التاج الكلثومي في قلبي إلى الآن.
وحدث أن استمعت إلى هذه الأغنية ذات ليلة في حضور أدونيس الذي لفت نظر الحضور إلى جملة “من كتر شوقي سبقت عمري ، وشفت بُكره والوقت بدري”، وصرخ بعدها مؤكّدا أنّ هذه الجملة تساوي كل ما كتبه شعراء الحداثة العرب.
لم أعتبر رأي أدونيس شهادة حسن سير وسلوك شعري لأحمد رامي الموهوب حقا والذي بكيت من أجله ليلة أنهيت قراءة كتاب “كان صرحًا من خيال” لسليم نصيب. في الكتاب سيرة غرام نادرة تجمع بين شاعر وملهمته لكنه يحفل أيضا بالأسباب التي تجعلني أقاوم هذا النموذج وأحتفي كلما كبرت بإمكانيات رامي الذي كتب باكرا قصيدة “التفاصيل الصغيرة” واستجلب معانيَ شعرية من جمل غاية في التجريد تشكو من فقر المجاز، لكنها تقيم بلاغتها الخاصة بمعمار حقق خلوده في الذاكرة الجماعية.
يحمل كتاب نصيب الممتع رقم 21 في سلسلة الكتب التي أقتنيها عن أم كلثوم، وأدين له بلحظة توازن كنت احتاجها مع “ثومة”، بعد فترة اضطراب سببها لي كتاب حازم صاغية “الهوى دون أهله”، الذي غيّر ضميري تجاه “كوكب الشرق” وقت أن قرأته بانبهار وجعلني استسلم لتغير مزاجي وأنا ابدأ مرحلة اكتشاف فيروز، المرحلة التي نامت فيها أم كلثوم في ذاكرتي كصورة يغطيها الغبار.
لم أعش مثل غيري سنوات الحب الباردة والتي تتصارع فيها محبة أم كلثوم مع متعة الاستماع إلى فيروز لأني تحرّرت باكرا من ثنائيات كثيرة حالت دون ارتكاب هذا الخطأ القاتل؛ فالاستماع إلى “ثومة” ظلّ طقسا عامًا، يسمح بمشاركة الآخرين، أقرب للميدان الذي يمكن أن تلتقي فيه مع الجميع من دون الشعور بتمايزات من أي نوع، بينما نظرت إلى فيروز نظرتي إلى “الأماكن الخاصّة” التي لا أرتادها إلا بصحبة خاصة لكن المتعة كانت قائمة في الحالتين.
حتى في اللحظات التي تحول فيها مزاجي إلى أرض محتلة من قوات الرحابنة حميت حدودي بعناصر مقاومة قادها محمد قنديل ومحمد رشدي وسعاد محمد ومحمد فوزي وليلى مراد وشادية، وهي عناصر ساعدتني كثيرا على النجاة، غير أنّ تجربة حبّ عشتها لم توقظ أم كلثوم وحدها بل أيقظت معها حواسي كلها؛ فمن أهواها تعتبر أم كلثوم “قدس الأقداس”، ساحة حب يصعب دخولها من دون تطهر كامل. التطهر الذي يخرج صوت ثومة من كاسيت السّيارة ليسخر مني ومن إيماني الكاذب باستقرارها في المكان البعيد.
ففي ليلتي الأولى مع “سيدتي” انتصرت “الست” على كاسيت السيارة المعطل وما أن دارت السيارة حتى غنت لي “عودت عيني على رؤياك، وقلبي سلم لك أمره”، بينما كانت حبيتي تقود إلى الخلود.
*كاتب وصحفي مصري