لا أحفظ أغانيها/ فاطمة عاصلة
“شو كنك عشقان؟ شو عم تسمع ام كلثوم؟”
لا أحفظ أغانيها/ فاطمة عاصلة
|فاطمة عاصلة|
قليل من التصاق النغم بجدار الفنجان, بعض من انسكاب القهوة على الكلام, يترتب الصبح وتبتل ذاكرة موزعة على زمن يأتي ولا يذهب.
السادسة فجرا, القماش الكثير المرتب على جسدي بطبقات كثيرة, محاولة فاشلة للاتقاء من بردٍ لا يأتي. لا يأتي هنا والآن بالذات- فهذا صباح للدفء.
قبل انعطافي الأخير إلى الطريق الممتد على “ساحة المراح” وبيوتها, حيث الجدران القديمة تحمل الشعارات الوطنية منذ أيام الدم والرصاص, يلاقيني صوت لا أفكك كلماته فأستذكر “أنا الشعب أنا الشعب”.
النغم الخفيف غواية لطقوس احتفال مترف, أسرع قليلا خشية من هروب الصوت, من هو هذا الذي يعبد الطرقات بأسطورة ويسقي المدن بنهر شوق, فيغرق النسيان بالريح المنتحرة؟
أحد ما قرر ترتيب النهار من جديد,لا اعرف غير ذلك, التصاق البيوت لا يتيح التأكد من مصدر الصوت. ماذا يفعل الآن؟ ربما يشرب القهوة ويحرق سيجارة كما يحرق التثاؤب والكسل, أو يكوي ملابسه كما يكوي اللحظات البعيدة, لا يهم. فهو الآن رفيق يرعبني غيابه, فماذا لو فطن اليوم أنّ العالم مكتظ أكثر مما ينبغي؟ أو قرر أن يخفض الصوت إلى حد لا يسمع, بعد أن تخاصم مع الجيران على تعديه على راحتهم في هذا الوقت الباكر, كيف يجرؤ؟ أيجرؤون وهي طبيعة؟ فكيف تعرى الطبيعة من تجريدها؟ كيف يخفي الصبح معالمه؟
أسرع خوفا من هروب الأغنية. “أعطني حريتي أطلق يديّا”- ترتفع الآه كأنها تفجّر النعاس في الغيم, أبطئ خطواتي, لا أطيق معطفي الآن. حرارة الأرغفة التي تخرج من المخبز الأكبر في القرية تدفئ رعشتي وحنيني.
“واثق الخطوة يمشي ملكا”؛ أحقا؟
كنت ملكة تلهو بقطع “الليجو”, يداي الصغيرتان تعبثان بكرسي قش قديم, وطاولة خشبية قديمة تتحضر لكوب حليب وبيضة تحضرهما أمي على الغاز, أبي أتم صلاة الفجر, نشرة أخبار السادسة فجرا في “الراديو” تقترب, يتلوها ويسبقها صوت أم كلثوم, سكن الليل وشرعت أبواب الكون ليغزو صوتها البيت ويبلل ندى الحديقة. سكن الليل, لا يعكر عبور صوتها إليّ إلا صوت ارتشافي لكوب الحليب, لا يقطع انبهاري بالقوة الطاغية الرقيقة سوى مضغي للطعام. “إلي بوكل بكبر بسرعة”- هكذا شجعت على الأكل, فكان فطوري خليطًا من الخبز والحليب وحلوى لا يتسع لها أيّ قالب, طرب يخدر العجل الطفولي, وهيئة كاملة الملامح تنوم الحركة والعبث.
- “لأ! آه… يمكن… لا, يعني مش اسا حل هالحدث, مش اسا صار التغيير فصرت احب… مش عارفة.”
- “شو كنك عشقان؟ شو عم تسمع ام كلثوم؟”
أهي دلالة العشق حقا؟ أم تجسيد الحاسّة كيفما تشكلّت, ونداء الرغبة أينما وصل الحلم؟
“ومشينا في طريق مقمر” اليوم الخامس عشر من الشهر الهجري, لا تعكر سيارة من العمال الأجيرين الذاهبين إلى العمل, محط الصوت في مبتغاه, ولا انبعاث الضوء من قمر مكتمل.
يرتب حضورها الأشياء والعناصر كلها, فلا يترك إلا الفوضى الجميلة في قعر روح وذاكرة عتيقة.
أتذكر الآن: أنا لا أحفظ أغاني أم كلثوم, ولا ملحني وكاتبي أغانيها. لا اذكر يوم ميلادها أو وفاتها, وحقيقة لا ادري متى ولماذا أتسلل إلى “اليوتيوب” وابحث عن أغانيها؛ نادرا ما افعل.
فانا حينما تجمع الرجال في المقهى بلهفة العاشقين لرؤيتها لم أكن.
لم أكن لأرى دمعة الحساسين وشفاه القساة ترتجف ولا التواء تجاعيد جباههم السمراء, أمام هيبة حضورها؛ لم أكن.
لكن حينما تتحول الصورة إلى تجسيد شرق, والاسم إلى رمز, ويتحول الصوت إلى رسول خالد, والتجربة إلى مخيال ورحلة أبدية بفقد الحضور والغياب أهميته, تختلط الذاكرة الشخصية بالذاكرة العامة وتختلط التجارب المعاشة.
هو امتداد الشرق في حياة متشابكة, هو خضوع القوة للعاطفة, وتداخل الطرب بالعيش والحدث اليومي.
تتشابك المشاهد, تعلق بك كليرة ذهبية في عنق الجدة، يغزو الحمام الشارع, يرقص على اللحن القادم من طرفه فرحا, يغمز بعضه بعضا, ويتلصص على مبسمي وتوانيّ في الإسراع.
يبدأ الصوت بالتردّد على الأذن بموج اقصر, وعلى القلب بنفس أطول؛ هو الحاضر يهرب من اقتتال الأضواء الملونة إلى ضوء أكثر شدة. ما يكفي من الحسرة, وكثير من الجهود للوصول, قبل أن يفوتني الباص الذاهب إلى حيفا, حيث الجمال لا يخلو من تناقض الأشكال والخفق.
11 أبريل 2015
رائعة يا فاطمة! وما بعرف كيف وصلت لهذا الاشي، بس طبعًا صدفة رائعة.