درس الست/ نيفين فائق
ظلت الست درسي الأول في الأنوثة والجمال بمعناهما الأعمق، وظل حضورها الأقوى عبر السنين
درس الست/ نيفين فائق
|نيفين فائق|
ركبت مع أبي سيارته في رحلة سفر بين إمارتي أبوظبي والشارقة. جلست بجانبه كأي فتاة في الثانية عشرة من عمرها حين يأخذها أبوها وحدها في رحلة خاصة تكون قد حصلت على إشارة مرورها الأولى لعالم الأنوثة. فرحت بالجلوس على مقعد أمي وأخذت أرتب ملابسي ويغمرني شعور أنني المرأة الوحيدة على وجه الأرض. انتظرت أن أسمع كلمات الحب وموضوعات النقاش التي عودني أبي أن أكون فيها شريكة وصديقة، لكنه فاجأني بما لم أنتظره، فأخرج شريط كاسيت وهو ينظر لي في حذر ثم قال: “نسمع بقى الست بتقول ايه”.
للوهلة الأولى تملكتني الغيرة الشديدة من “الست” التي ستستحوذ على انتباه أبي فتصرفه عني. ضممت شفتي في ضجر عبرت عنه بوضوح ملامح وجهي وعيناي وقلت في غيظ شديد: “ست مين؟ أنا الست”. ابتسم أبي وقال بحنان: “اسمعي بس، الست محتاجة سمع!”، ثم وضع الشريط وأخذ يتمايل مع المقدمة الموسيقية، فغالبني الضحك وأنا أراقب حركات رأسه ويديه مع الموسيقى، حتى كدت أعترف أني أطرب فعلا لهذه الموسيقى الشرقية الدافئة.
بعد رحلة موسيقية طويلة ظل أبي خلالها يوجه سمعي لمواضع الجمال والنغم الشرقي الأصيل، بدأت الست غناءها وأبي يغني معها وينظر إلي وكأنه يداعبني بالسؤال: “هو صحيح .. صحيح .. صحيح .. الهوى غلاب؟” .. فيحيرني السؤال – أنا الفتاة الصغيرة التى لا تعرف أصلا ما الهوى – وسرعان ما تخفف عني الست أم كلثوم خجلي وتشاركني حيرتي باعترافها: “معرفش أنا”.
الحقيقة إن أبي لم يهملني لحظة، بل أخذ يبادلني أطراف الحديث عن الهوى، وراح يشرح لي كل كلمة تغنت بها أم كلثوم ويشير إلى تناغم الجمل الموسيقية والغنى في تكرار الكوبليهات بهذا الاحساس الرائع الذي تملكه الست دون أي عناء. علمني أبي في رحلة السفر تلك كيف أن للست أدواتها في الغناء، ودروسها في ثقافة الجمال، كما حدثني عن تاريخها وثقافتها وذكائها في اختيار الكلمات ومجموعة العمل التي تشاركها اهتمامها بتفاصيل عملها الفني، ومع نهايات الرحلة ونهايات الأغنية قال لي: “جمال الست في قوة حضورها”.
ظلت الست درسي الأول في الأنوثة والجمال بمعناهما الأعمق، وظل حضورها الأقوى عبر السنين، يخلق أسبابه في مختلف المواقف حتى في لحظات الشغب والمراهقة. وكنت قد نقلت شغفي بأغاني الست لأعزّ صديقاتي التي عهدتها خير جليسة تجيد الاستماع والإصغاء. قررنا معًا أن نستقطع من وقت المذاكرة بعضاً نخصصه لجلسات استماع منتظمة ترفه عنا عناء المذاكرة، وكنا كلما دخلت أمها علينا الغرفة نعيد أغنية “أراك عصي الدمع”، وعذرنا أن قصيدة أبي فراس الحمداني كانت مقررة علينا في مادة اللغة العربية، فتجيء الست لتنقذنا من مأزقنا، وتخلق لنا بحضورها حجة للإفلات من عاقبة الهروب من المذاكرة. أذكر أن إحدى الصديقات لاحظت كيف حفظنا النص الصعب بسرعة لافتة، فأطلعناها على سرنا وأهديناها نسخة من شريط الست، إلا إنها اتصلت في اليوم التالي ساخطة وعلا صوتها عبر الهاتف وهي تقول: حرام عليكم، دي الست بتعيد في أربع أبيات بقالها ساعة”.. فضحكنا وقلنا في صوت واحد: “في الإعادة إفادة”.
كان بيت صديقتي مكونًا من ثلاثة طوابق، وكنا دائما نجلس في غرفتها في الطابق الأخير، لكننا يوما نزلنا للطابق الأول لتلقي درس خصوصي في اللغة الألمانية، وهي لغة صعبة تشعرنا بالغربة رغم التعود عليها منذ الصغر، إلا أن ما طغى على الدرس وحببنا في النزول إلى ذلك المكان المهجور من البيت هو أننا وجدنا في الصالون جرامافون قديمًا، لم يبق معه سوى اسطوانة واحدة فرضت حضورها. بعد الدرس قررنا أن نستكشف هذا العالم القديم الجديد، فوضعنا الإبرة وأدرنا الاسطوانة، ليطغى ثانية حضور الست فتغني “من أجل عينيك عشقت الهوى”. صارت الاسطوانة على مدار سنة دراسية كاملة هي الحافز لحضور الدرس، لنستمتع بعده بجو هادئ، نطفئ معظم الأنوار وننام على السجادة القديمة، ونرفع ساقينا على كراسي الصالون في وضع استرخاء يأخذنا في رحلة نوستالجيا لعصر لم نعشه سوى عبر حكايات أبي. ويبقى جمال الست دائما ً في قوة حضورها.
(كاتبة مصرية)