الرواية والقصة الفلسطينيتان: نازك ضمرة نموذجًا/ محيي الدين إبراهيم
. |محيي الدين إبراهيم| ضمرة بلا أدنى شك مبدع ثائر وثائر […]
الرواية والقصة الفلسطينيتان: نازك ضمرة نموذجًا/ محيي الدين إبراهيم
.
|محيي الدين إبراهيم|
ضمرة بلا أدنى شك مبدع ثائر وثائر قوي ينتهج ما يمكن أن نطلق عليه “الثورة الناعمة” في الكتابة التي تؤمن بأنّ المقاومة إن كانت لا تستغني عن حمل السلاح فهي أيضا لا يمكن لها أن تستغني عن إرثها الحضاري والشعبي. ولا يجب الخلط هنا بين منهج الثورة الناعمة في الأدب وبين “أدب المأساة” الذي قال عنه الناقد الفلسطيني يوسف اليوسف: “أدب المأساة هو أقرب أصناف الأدب إلى ماهية الكارثة ونكبة 1948 التي عطبتنا في الصميم”، إذ أن أدب المأساة –وهذا رأيي الشخصي– دائما ما يكون أول ضحاياه الإرث الإنساني والشعبي للوطن المحتل.
يقول زكي نجيب محمود: إن الأدب مهما تكن الصورة التي جاء عليها من شعر أو قصة أو مسرحية ينبغي أن يعبر عن نفس الأديب أولاً، وينبغي أن تتكامل أجزاؤه في بناء يكون بمثابة الكائن الفرد ثانياً (فلسفة وفن: 366).
نفس الأديب أولاً، تلك هي البداية التي من خلالها نستطيع معرفة إلى أي مدى يسير أدب أمة بعينها ونحو أيّ هدف.
وأمامنا اليوم نموذج معاصر حيّ للأدب القصصي الفلسطيني للأديب والروائي نازك ضمرة، الذي أعتبره قاصًا وروائيًا فلسطينيًا معاصرًا استطاع أن يسبح ضد التيار ويعلن من جديد -في أعماله- عن الإنسان الفلسطيني البسيط في القرية والدّيرة التي كدنا أن ننسى انفعالاتها وحيويتها وأصالتها وأهازيجها الشعبية من شدة ضغط المناخ الثوري والمقاوم في أرضنا المحتلة والذي اضطر فيها الأدب الفلسطيني -بغالب فنونه من شعر وقصة ومسرح ورواية– تحت ظروف هذا الاحتلال وهذه المقاومة المشروعة والواجبة والحتمية ضد المحتل أن يسحب غالب الضوء ويسلطه على أدب المقاومة فقط، مما أثر على رؤية زوايا إنسانية كثيرة موجودة بالفعل لكن ليس لها نصيب من هذا الضوء إلا ما تبقى من هذا الأدب المقاوم والحتمي.
نازك ضمرة
وهنا يظهر أدب نازك ضمرة، ليسطع داخل هذه المساحة الضيقة من الضوء ويطل بنا على الزوايا الإنسانية التي شكلت وما زالت تشكل وجدان الشعب الفلسطيني خاصة والعربي بوجه عام. ضمرة هذا الفلاح الفلسطيني الذي يذكر كل تفاصيل قريته الصغيرة في كل أعماله، تفاصيل الحيطان ورائحة العجين قبل أن تخبزه نساء البيوت، رائحة دخان العشاء وجلوس الناس للسّمر بين وقتي صلاة المغرب والعشاء في الساحة القريبة من مسجد القرية المتواضع والبيارة التي تقع خارج القرية والبنات الصغيرات وجرار الماء والبراءة. إنك تلهث معه في رحاب قريته وبساطة الناس وأعرافهم وتقاليدهم لدرجة تستحيل معها الفكاك من قبضته المحكمة السحرية والتي جعلتك وأنت تقرأ أي عمل قصصي من أعماله تتحول –من دون أن تدري– لواحدٍ من أبطاله وشخوصه بل وحينما تسترد وعيك لهينة من الزمن تتمنى في تلك الهينة لو كان لك ما لضمرة من خيال وواقع وناس وقرية كالتي تتجول بين شوارعها الآن في قصصه العديدة والتي يعبر فيها بأسلوب ذكي عن مناحٍ كثيرة من زوايا سيرته الذاتية ولكنها ذات استطاع بخبرته كأديب أن يفتتها على أبطال عدة وشخوص كثيرة فتستنشق وأنت تقرأ رائحة الوطن وكأنه نبض يحتويك فتنتقل بمشاعرك تلقائيا من العدم للوجود.
ولعلّ اقرب الأمثلة في رواية “غيوم” الصادرة له من دار الكرمل في الأردن هي شخصية “مرزوق” بطل الرواية الطفل الذكي الحساس الخجول الأمين والذي يترك قريته الى مدينة رام الله لإكمال دراسته، حيث تتفتح هناك أزاهير فتوته، في تلك المدينة الحالمة، مدينة رام الله، ومرزوق هذا هو نازك ضمرة الطفل الذكي الذي قام بإمامة الناس في قريته وهو لم يتعدَّ الخامسة عشرة عاماً ثم رحل عنها ليستكمل دراسته في مدينة أخرى بعيدة، وهو ايضا ذلك الطفل الذي يسجل كل ما يدور حوله من افعال واقوال بحس وذكاء بالغين كما في قصة ثريّا السيراوية، حيث يدفعك للتأمل معه فيما يراه ويستشعره هو من حوله داخل القرية.. الانسان-الضمير، فيقول في روعة على لسان البطل: “أكل جميع اهل القرية من لحمها الا نحن!، كنا نشرب الحليب منها كل يوم! لا ادري كيف وقعت عن الصخرة العالية؟! كانت بقرتنا قوية جداً وفي مقتبل العمر!؟”.. اشرتُ لها بيدي حتى لا تكمل، احسست بالحزن الشديد يشد كل عصب في وجهي، لم اظهر لها، قلت لها: «امر الله يا ابنتي، المكتوب ما منه مهروب”. ثم يفتت ذاته على لسان بطل آخر ليقول أيضاً في نفس الرواية: “قال لي خالها: جلست ثريا بجانبي، تحتضن سلة فيها اقراص الزعتر والبيض البلدي والمطبق، كانت تتأمل صعود الركاب، وازدحامهم في الوقوف، بعد ان امتلأت جميع كراسي الباص، كانت ثريا تتأفف عند كل وقفة، يدخل الركاب الجدد، ويضغطون على الواقفين والجالسين لم تشتك من ذلك، كانت تريد الوصول الى شقيقها مازن بسرعة.”
لا يمكن هذا الوصف الدقيق في سرد المنمنمات لكل شيء وكأنه يصرّ على دفعك لأن تتذكر كل تفصيلة من تفاصيل القرية الفلسطينية وعاداتها وسلوكياتها، فهو يضع البقرة والزعتر والبيض والركاب والازدحام وألف مسألة ومسألة شعبية وبيئية وبغاية الدقة في ثلاث فقرات سريعة متدفقة تجعلك تلهث وراء الحدث الدرامي حتى لا يسبقك فتفقد جزءاً ولو ضئيلاً من المتعة، في كل قصصه والتي اذكر “لوحة وجدار” عن دار آرام، “شمس في المقهى” بدعم من وزارة الثقافة، وروايته الرائعة “الجـرّة” الصادرة عن دار النسر للنشر وأيضا “بعض الحب”، بخلاف ثريا وغيوم وهذا بعض من أعماله التي تأخذك لعالمه ولا تتركك إلا وأنت تحمل شعورا جديدا يقطر إنسانية ودفئاً.
(مصر)