“جنة الجحيم” في ندوة مقدسية في “اليوم السابع”
|خدمة إخبارية| القدس: ناقشت ندوة اليوم السابع الأسبوعية […]
“جنة الجحيم” في ندوة مقدسية في “اليوم السابع”
|خدمة إخبارية|
القدس: ناقشت ندوة اليوم السابع الأسبوعية الدورية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس رواية “جنة الجحيم” لجميل السلحوت، والتي صدرت أواخر حزيران 2011 عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس، في 176 صفحة من الحجم الكبير.
بدأ النقاش عماد الزغل فقال:
تمثل رواية “جنة الجحيم” للأديب جميل السلحوت واقع الريف المقدسي في أواخر خمسينيات القرن العشرين، حيث بدايات الوعي القومي والوطني، ومهد تشكل الأحزاب السياسية في القدس أثناء الحكم الأردني، حيث تدور رحى حرب فكرية طاحنة بين مختلف الأحزاب القومية والشيوعية والإسلامية، وتحاول هذه الأحزاب التسلل ضمن مجتمع القرية المقدسية الوادعة عبر شخص وصولي يمثل حلقة الوصل بين تلك الأحزاب، وبين مجتمع القرية الساذج، حيث اتخذ الكاتب قرية ” جبل المكبر” التي تضم مجتمعا ينحدر من أصل بدوي قبلي نموذجا على قرى القدس إبان تلك الفترة.
ومما زاد في حمى تلك المنافسة، الإنتخابات البرلمانية التي جعلها النظام الأردني آنذاك متنفسا للناس،وهامشا لحرية التعبير، للحد من خطورة حمى الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة بعد ثورة يوليو تموز 1952 على يد جمال عبد الناصر.
والراوية أشبه بالتاريخ الشفوي والحكايات المروية على لسان آبائنا عندما يتحدثون مع بعضهم البعض عن تاريخ تلك الفترة، حيث يجسدها الكاتب بأسلوب جميل ولغة تتفاصح وتميل الى العامية البسيطة إمعانا في الواقعية، وتجسيد الصدق الفني.
الرواية حيث تبدو الشخصيات ناطقة بلغة السواحرة “أهالي جبل المكبر” دون أي تزيين أو تزييف، مما أعطى الشخصيات صدقا وحيوية، ولا سيما أن الكاتب ينحدر من صميم تلك القرية. ويغلب الثوب الإجتماعي أحيانا على أحداث الرواية، فتبدو سطوة الشيخ على أبناء عشيرته وسطوة الرجل على زوجته، وعجزالمرأة وامتهان كرامتها، والفقر المدقع والجهل، وبداية تكون المجتمع التعاوني في داخل القرية، وتسرب الفكر الشيوعي الى تلك القرية حيث أصبحت في السبعينيات مركزا للشباب الشيوعي في القدس لأإنهم كانوا يمثلون النخبة في ذلك الوقت.
أما بطل الرواية ” أبو سالم” فهو الوصولي الإنتهازي الذي يلعب على الحبال كافة لتحقيق مبتغاه في النهاية، وهو جمع مبلغ من المال يبني به بيتا ليزوج ابنه، ويشتري قطيعا من الغنم يؤمن به مستقبله، وينجح في تحقيق ذلك عبر العمل لصالح مرشح قبلي لقرية مجاورة.
ويخفي الكاتب أسماء النخب السياسية التي شكلت المشهد الإنتخابي في تلك الإنتخابات عبر ستار شفييف من الأسماء، ليعرف من سمع بتلك الحملة الإنتخابية من المقصود بكل شخصية، وما التيار السياسي الذي يمثله، وربما تعمد الكاتب اظهار فساد تلك النخب ولا سيما القبلية منها.
وتعالج الرواية مجموعة من المشاهد والمآسي الإجتماعية في تلك الفترة، فخليل يفقد ذراعه نتيجة الجهل بأصول الطب، ويوسف ونايف يهربان من الفقر ويخلفان زوجتين وطفلين ليرحلا الى الأرجنتين، فيجدا فقرا وغربة وامتهانا جنسيا في الوقت نفسه، فيما تعاني الزوجتان من فقد الأزواج وشظف العيش، وكل ذلك لا يخلو من مشاهد طريفة صورها الكاتب بأدق التفاصيل.
كان الكاتب بارعا في تصوير الشخصيات تصويرا ديناميكيا يجعلها تقفز وتتحرك وتظهر بأدق حركاتها وسكناتها، وقد زادها صدقا اللهجة المحلية، فلم يتقمص الكاتب لهجة أخرى، بل أدار الحوار بذات اللهجة المحلية حيث يصلح هذا الحوار نموذجا لغويا للهجة أهل السواحرة في فترة الخمسينيات، حتى وإن ظهرت بعض الألفاظ النابية فيها.
وأما المشهد الأخير في الرواية فهو مشهد سياسي بامتياز، يمثل دور مدرسة الآثار البريطانية في التمهيد لتوطئة التأصيل التاريخي والأثري لقيام اسرائيل على الجزء الآخر من الوطن، وأغلى ما فيه القدس التي يظهر شوق اليهود في الاستيلاء عليها عبر شخصية جاسيكا التي دخلت الى القدس بجنسية بريطانية.
وأما حضور المكان في الرواية فقد كان المحور الأهم، حيث تبدو القدس في خمسينيات القرن الماضي بشقها الشرقي العربي، يطل عليها جبل المكبر بعزة وأنفة، وتبدو جارتها سلوان الملاصقة بجدارها الغربي، يظهر ذلك عبر ارتحال أبي سالم إليها يوميا، وتبدو أزقة البلدة القديمة بكل مسميات أزقتها وأسواقها وحاراتها كالعطارين وخان الزيت والباشورة،وحتى محلات الحلويات والعطارة، ويبدو شارع صلاح الدين ناشئا تمثل فيه المدرسة الرشيدية ومدرسة الآثار البريطانية أولى البنايات في ذلك العهد، وتبدو الحركة واضحة فيها بين أهل القرية الغرباء عن جو المدينة السذج في بعض الأحيان، وبين أهل المدينة الذين يمثلون نموذج الرقي والتمدن والتشبه بالغرب.
تمثل هذه الرواية أكثر من محور للصراع، ويمكن أن نجمل محاور الصراع فيها بالصراع بين النخب والأفكار السياسية في تلك الفترة، والصراع بين قيم المجتمع الغربي وقيم الأصالة والتراث، والصراع بين مبادئ الوطنية ومبادئ الإنتهازية والوصولية، ناهيك عن الصراع العربي الإسرائيلي الذي يشد الرواية من أولها الى آخرها، لقد مثلت هذه الرواية مجتمع مدينة القدس بريفه ومدينته، هذه الجنة التي حولها الإحتلال الى جحيم، فأصبحت جنة الجحيم.
وقال الأديب محمود شقير:
“جنة الجحيم” هو الجزء الثاني من رواية لجميل السلحوت سيتلوها جزء ثالث أو أكثر كما يبدو. وقد ابتدأها الكاتب برواية “ظلام النهار” التي صوّر فيها التخلف في مجتمع شبه بدائي، وها هو في هذا الجزء من الرواية يواصل التعاطي مع الموضوعة نفسها، موضوعة التخلف التي تحكم تصرفات الأفراد وتوجّه سلوكهم.
وفي تقديري، فإن هذا المنحى الذي اختاره الكاتب لروايته هو ما يمنحها تميزها، حيث لا بهرجة ولا ادعاءات حول سلوك الفلسطينيين في هذه الرواية. فالحقيقة تظهر عارية هنا مجردة من أي تنميق. والانتهازي يظهر على حقيقته، والمرشح للبرلمان يظهر أيضًا على حقيقته، فهو غير معني إلا بمجده الشخصي ورشوة الناس للظفر بأصواتهم التي من شأنها أن توصله إلى كرسي البرلمان، في حين أن ثمة مرشحين آخرين للبرلمان، ذكرهم الكاتب، لم يكونوا على هذه الشاكلة، بل إنهم تميزوا بالإخلاص للشعب ولقضاياه. غير أن الكاتب لم يجعلهم في مركز سرده الروائي، الذي استأثر به مرشح مفتقر إلى الوعي الصحيح، متناغم مع حالة التخلف التي يرصدها الكاتب، كما لو أنه يريد تطبيق المثل الشعبي القائل: “هيك مزبطة بدها هيك ختم”.
وقد أضفت اللهجة العامية المطعّمة بالأمثال الشعبية حيوية على أجواء الرواية، وجعلت صدقها في التعبير عن نفسيات الشخوص متلائماً مع الهدف الذي تقصده الرواية: وهو تصوير التخلف وما ينتجه من سلوكيات ومواقف.
تختار الرواية أسلوب المشاهد المتجاورة غير المسترسلة ليتشكل منها في النهاية ما يشبه اللوحة البانورامية التي تقدّم لنا بعض جوانب الحياة في قرية فلسطينية هي السواحرة التي تحيا على تخوم مدينة القدس أواسط الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين.
ولا يبتدع الكاتب في روايته هذه إلا قليلاً من الأحداث والوقائع. فأكثر مادة الرواية هو رصد فعلي لوقائع وقعت في تلك المرحلة من حياة القدس ومحيطها القروي، مع بعض التصرف الذي يتناسب مع تحويل الوقائع الفعلية إلى أحداث روائية. ولقد أحسن الكاتب صنعاً حينما حرّف أسماء مرشحي البرلمان في تلك الفترة، وأبقى بعض لوازم تلك الأسماء لكي يعرفها من له إلمام بوقائع انتخابات العام 1956 للبرلمان الأردني، وفي ظني أن تحريف الأسماء كان لضرورة فنية، وذلك لكي يتمكّن الكاتب من تحويلهم، أي المرشحين، إلى شخصيات روائية، ومن التحدّث على ألسنتهم دون أن يتهمه أحد بأنه ينسب إليهم كلاماً لم يتفوهوا به، علمًا بأنه وقع في بعض الخلط تجاه الوقائع الحقيقية نفسها. ومن أمثلة ذلك أن الذي نجح في الانتخابات آنذاك هو الدكتور عقاب الزايد (يعقوب زيادين) وبأعلى الأصوات في منطقة القدس، وليس المرشح عبد الرحمن النعّاس (عبد الله نعواس) كما ورد في الرواية.
ربما كان عنوان الرواية ثقيلاً بعض الشيء بما له من دلالات دينية واسعة، بحيث جمع الجنة والجحيم معًا على غلاف كتاب واحد، ولم يقلّل من ذلك الثقل قيام الكاتب بإلقاء الضوء على دلالة العنوان في متن الرواية، معتبرًا العلم هو الجنة في جحيم هذا المجتمع المتخلف المحروم. وربما كان السرد الروائي متقشفاً مباشراً في صفحات غير قليلة والحوارات ممطوطة في بعض المشاهد. وربما كان من المناسب لو أن الكاتب رصد التطورات الإيجابية التي كانت تزخر بها القدس في تلك الفترة، سواء لجهة المدّ السياسي العاصف ومضامينه التقدمية، أم لجهة التطورات الاقتصادية والثقافية التي كانت ظاهرة للعيان آنذاك. صحيح أنه ورد في الرواية تطرق لذلك على نحو ما، لكنه ظل محدوداً.
غير أن نقد الرواية للتخلف ولاضطهاد المرأة وللانتهازية في المواقف يعتبر أمراً جيداً، وإن الانتصار للعلم وللتنوير يعتبر أمراً إيجابياً كذلك. وقد تضمّنت الرواية وصفاً لبعض الأماكن في القدس، علاوة على تصويرها لنـزوع بعض أبناء القرية إلى محاولة تحسين ظروفهم المعيشية عن طريق السفر إلى الأرجنتين (هنا تحريف آخر مقصود للوقائع، ذلك أن بعض أبناء القرية سافروا إلى البرازيل)، وكذلك تصويرها للعلاقة مع الغرب، هذه العلاقة التي رمز إليها الكاتب من خلال استغلال براءة الفتى خليل بعلاقة جنسية غير متكافئة، وكذلك استثمار البحث عن الآثار لخدمة الأهداف الصهيونية في فلسطين. هذه كلها عناصر إيجابية تضمّنتها الرواية ما أسهم في توسيع الدائرة التي تتحرك ضمنها الشخوص التي منحها الكاتب الحق في التعبير عما في داخلها من مشاعر وتطلعات.
علاوة على كل ذلك، يمكن اعتبار هذه الرواية وثيقة صادقة، فيها رصدٌ لفترة من فترات حياة جزء من المجتمع الفلسطيني في خمسينيات وبداية ستينات القرن العشرين.
وقال جمعة السمّان:
المكتبة العربية تفتقد لمثل هذه النصوص
“جنّة الجحيم” عنوان بقدر ما هو غريب هومحيّر..تهت فيه بين النّص التّوثيقي والرواية.. فإذا قلنا أن جنة الجحيم نص توثيقي.. فهو للأمانة وثيقة.. صورة صادقة تحدثت عن المجتمع الفلسطيني فترة خمسينيات القرن العشرين.. بالكلمة والزمان والمكان.. لم أقرأ مثله أبدا.. إلا في كتاب الأستاذ محمود شقير ( قالت لنا القدس).. الذي أعادني طفلا.. لأعود وأمشي في شوارع القدس.. كما كانت في ذلك الزمان.. إلا أنه وللأمانة.. أن جنة الجحيم تمتاز برسم هيكلية لتحليل نفسية جميع شرائح الشعب في ذلك الزمن.. من أمراء ونواب ومخاتير وشيوخ عرب.. الصدارة والهيبة والمركز فيها كانت دوما للمدعوم بالمال أو الرجال.. يتحكم ويتجبّر.. شغله الشاغل ظلم الضعيف أو سحقه أو الاعتلاء على كتفيه.. دون أن يلتفت إلى شعب أو قداسة أرض أو وطن.
هي الأنا.. حتى لو أدى الأمر الى هدم المعبد ( عليّ وعلى أعدائي يا رب).
ولا ألوم قاريء جنة الجحيم إذا خرج بنتيجة مفادها ( هيك مضبطة.. بدها هيك ختم).
أو إذا تجلّت له الحقيقة.. وعرف أن المختار على استعداد أن يبيع أخاه أو ربعه بعدد من رؤوس الغنم.. أو مقابل شهرة أو مركز.. أو حتى من أجل ان يقهر أخا أو جارا أو صديقا.. أو من أجل أن يذل إنسانا حتى لو كان لا يعرفه.. تبدو عليه أثر نعمة.. أو ذو مركز.. أو مكانة.. لا لشيء سوى الحقد والحسد والغيرة.. والاستئثار بالمركز الأرقى أو الأعلى.. وبالتالي لا يستغرب قاريء جنة النعيم.. ولا يتحسّر على ضياع البلاد.. ما دام لأهلها مثل هذه التركيبة والصفات.
فإذا آمنا كما قلنا سالفا.. أن جنة الجحيم نص توثيقي.. تتصدّى لنا درجة التشويق العالية في هذا النص.. وهو عنصر من عناصر الرواية.. كما أنه شاب هذا النص شيء من الخيال.. والخيال أيضا عنصر من عناصر الرواية.. وما دام قد اجتمع في هذا النص عنصرا التشويق والخيال.. إذن فلا بدّ أن تكون ” جنة الجحيم” رواية.
وإذا سلّمنا أن هذا النّص رواية.. تتصدى لنا الحقيقة.. فالنص يرتكز على أشخاص معروفين.. لهم وزنهم ومركزهم ومكانتهم في ذلك الزمن.. أخذ كل منهم حقه سلبا أو إيجابا من مدح أو ذم.. حسب ما كانت تعتمل به نفسه من نوايا.. خصوصا الدكتور الذي فاز بالمقعد البرلماني.. والشيخ الذي خسر المعركة الانتخابية.. وهذه حقيقة.
أضف إلى ذلك جدية الكلمة ووضوحها في هذا النص.. بحيث أنها لا تحمل معنيين.. فيشوبها شك.. أو ظن.. وهذا توثيق إذن.. فهي ليست رواية…والله أعلم.
أصاب الكاتب حين كتب الرواية باللهجة المحكية البدوية والقروية.
بالتأكيد أنها أكسبتها جمالا.. وزادتها تشويقا.. فهذه اللهجة جزء من شخصية ذلك الزمان. فلو لم تكتب بهذه اللهجة.. لفقدت تلك الشخصية جزءا مهما من تكوينها.
العنوان: ” جنة الجحيم”..
الله سبحانه يغري عباده بما في الجنة من نعيم.. ويخوّف الناس بما في النار من عذاب.. والكاتب يقول أن في الجحيم جنة.. لقد تحيّر الناس أين يذهبون إلى الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين.. أم إلى الجنة التي في قلب الجحيم.. التي همس فيها الكاتب في أذن القاريء.. ويعطي الكاتب للجزء الأول من هذه الرواية عنوان ظلام النهار.. إذا كان الله قد جعل النهار ضياء.. لماذا تريد أن تعميه؟؟ إن في روايتك من الكلام الجميل ما يجعلك تستغني عن مثل هذه العناوين التي كثر استعمالها.. ولا أرى فيها جمالا.. أو إغراء.. سوى السباحة ضد التيار.
أرى أنه ليس للعنوان أهمية.. سواء أكان رواية أو نصا توثيقيا.. فالنص مشوّق وجميل.. يشجع على القراءة.. كما أنني أعتقد أن المكتبة العربية تفتقد لمثل هذه النصوص.. نعود إليها بثقة وطمأنينة أنها الحقيقة.. باقية.. بعيدة عن الاندثار أو الضياع.. أو عبث العابثين.
وقال محمد عليان:
إضاءات حول رواية “جنة الجحيم “
1. عنوان مثير للجدل
اطل علينا الكاتب جميل السلحوت بالجزء الثاني من روايته ظلام النهار تحت عنوان مثير للجدل ” جنة الجحيم “. فإذا كان عنوان الرواية الأولى يحمل ضدين: ظلام ونهار فقد كان سياق الرواية ومنطق الإحداث يبرر اختيار،هكذا عنوان، فهو يعبر عن الحياة الاجتماعية التي يعيشها المجتمع في زمن الرواية، الحياة التي تمتاز بالفقر والجهل والتخلف والعصبية وظلم المرأة واضطهاد القوي للضعيف، ونهار هذا المجتمع كان اشد سوادا من الليل. أما “جنة الجحيم ” فنحن مرة أخرى أمام عنوان يحمل ضدين: الجنة والجيم، الجنة بكل ما تحمله من جمال وخير ورغد العيش، والجحيم بكل ما يحمله من فقر وشقاء وعذاب ومعاناة. العنوان الأول متشائم لا يعبر عن الأمل أو الثقة بإمكانية التغيير فالظلام ( السوداوية والتشاؤم ” يحجب ضوء النهار ( الأمل والتفاؤل ) ولا يترك بصيصا من ضوء يثير فينا الأمل بالتغيير، أما العنوان الثاني فهو متفائل يعبر عن أمل الكاتب في التغيير، بل وثقته بان هذا المجتمع الآيل للاستقرار سيتطور وفق منطق التاريخ، والجنة هنا بكل ما تحمله من خير تدخل في زوايا الجحيم بكل ما يحمله من ألم ومعاناة. والجنة هنا تحمل معنى نسبيا، فإذا كانت الشمعة وسط محيط من الضوء الساطع تعتبر خافتة، وربما غير ملحوظة، فهي تبدو ساطعة إذا أضيئت في محيط مظلم دامس الظلام، ولا شك أن بذور الخير وبشائر التغيير التي تبثها لنا الرواية هي جنة وسط هذا الجحيم الذي يعيشه المجتمع في زمن الرواية، فهل تنمو البذور وتتحقق البشائر في الجزء الثالث؟ فلننتظر.
2. أبو سالم هذا العصر
تمحورت معظم أحداث الرواية حول دخول الأحزاب السياسية إلى المجتمع المحلي، صحيح أن عمل الأحزاب كان وفقا لإرادة النظام الحاكم(وهو النظام الأردني) إلا انه كان لها الأثر الكبير في التطور الاجتماعي والسياسي في تلك الحقبة. وقد أبدع الكاتب في تسليط الأضواء على شخصية ” أبي سالم ” الذي حاول استغلال مهاراته في النفاق والتزلف للمرشحين وممثلي الأحزاب، لكي يحقق أكبر قدر من المكاسب الشخصية، و كانت هذه الشخصية معروفة وشائعة في تلك الحقبة، ولقيت تشجيعا من ممثلي الأحزاب والمرشحين ورجالات الدولة الذين استخدموها لكسب الأصوات في صناديق الاقتراع وكسب التأييد الشعبي القائم على المصلحة والمحسوبية، وما أشبه اليوم بالأمس، لم تنته شخصية أبي سالم بانتهاء زمن الرواية، بل امتدت حتى يومنا هذا، وشخصية أبي سالم اليوم أخطر وأدهى من شخصية الرواية، في هذا العصر، بل في هذه الأيام تجد أبا سالم في كل مكان، تجده في الوزارات والمؤسسات الأهلية والحكومية، في الأحزاب والحركات، في المدينة وفي القرية، إنه القاعدة وليس الإستثناء. وإذا كانت هذه الشخصية، في زمن الرواية تلقى الاستنكار العفوي من وسطها الاجتماعي، فقد أصبحت اليوم تتمتع بالنفوذ والسلطة، وتتحكم بمصير الناس. لقد نشأت شخصية أبي سالم في “جنة الجحيم” وسط الفقر والجوع وربما بسببهما، أما شخصية أبي سالم اليوم فقد نشأت وسط مناخ من السعي وراء الثراء الفاحش، ونهب أموال الشعب ومقدراته وباسم الله والوطن، فالحذر الحذر من أبي سالم هذا العصر.
3. مرة أخرى ارحموا “خليل”
لا أدري لماذا يصر الكاتب على أن يجعل من شخصية خليل(الشخصية المحورية في ظلام الليل) شخصية سوبرمانية تحتمل ما لا يحتمله أي طفل في جيله، في الرواية الأولى(ظلام النهلر) أقام علاقة جنسية مع امرأة بريطانية تكبره سنا “ستيفاني” وفي الرواية الثانية، وبعد ستة شهور فقط من عودته من لندن، (أي نهاية الرواية الأولى ) يتعرض إلى تجربة جنسية أخرى من بروفيسورة جاسيكا وهي بريطانية يهودية اكبر من والدته، ورغم كل ما تحمله هذه التجربة من معان سياسية وهي السعي الصهيوني لنهب التاريخ الإسلامي والعربي في القدس، إلا أنها كانت تجربة ثقيلة جدا على خليل الطفل، ولم تأت في السياق الطبيعي للنص.
4. جاسيكا وكرستينا:
جاسيكا الصهيونية التي تعشق القدس وتعتبرها أغلى من يدها اليمنى تحاول السيطرة على خليل كناية للسيطرة على القدس وتراثها، إلا أن القدر يسخر ستيفاني المرأة البريطانية لإنقاذ خليل من جاسيكا في اللحظة الأخيرة، وتفشل في خطتها للسيطرة على خليل، وحيث الرواية تحمل بعدا سياسيا واجتماعيا وتاريخيا فان الكاتب قد جانبه التوفيق مرة أخرى، رغم انه أكثرنا وعيا لدور بريطانيا في بناء وتطور الحركة الصهيونية.
5. حبكة فنية ولغة جميلة
باستثناء بعض الهفوات الفنية هنا وهناك والتي لم تؤثر على المبنى الفني للرواية، مثل إقحام بعض الأحداث مقطوعة السياق (انظر ص 70 داود المهندس الزراعي مثلا) والتقريرية في بعض الحوارات ( مثلا الخطابات السياسية لممثلي الأحزاب) فإننا أمام عمل روائي جدير بالقراءة، عمل روائي محكم وحبكة فنية متينة ولغة سرد جميلة، وحوار متنوع المستوى وفقا للشخصيات، ومن يتابع أعمال الكاتب السلحوت يلحظ بوضوح انه يستفيد كثيرا من الأخطاء التي سقطت في أعماله السابقة، وهو بهذا العمل يرتقى عاليا في الفن الروائي، ولم يكن ليصل إلى هذه المرتبة لو لم يصغ إلى الملاحظات بتواضع الكاتب المبدع.
وقال سمير الجندي:
رأيت في (جنة الجحيم)لجميل السلحوت تطورا نوعيا على مستوى الكتابة الفنية المتمثلة بالعناصر الأساسية للكتابة الروائية، من حيث الشخوص وتفاعلها مع الكاتب بشكل تناسقي، ليقدمها لنا الكاتب على طبق شهي من الأحداث المتسلسلة، الواقعية، تلك الأحداث، التي تمثل الحبكة المترابطة، والتي شكلت عند القارئ رغبة كبيرة في متابعة الرواية، وكأن الشخصيات أمامنا من لحم ودم، وبذلك يتوفر عنصر التشويق، لقد أحسست بأنني أجلس في مضافة، أو في ديوان من دواوين العرب، أستمع لكلامهم وأحاديثهم الشيقة، كما صور لنا بأسلوب خفيف على النفس، عادات وطبائع الشخصيات، فقد رأينا المتخاذل وأحسسنا بتخاذله، والأناني وعجبنا من أنانيته، ورأينا المتعلم وأعجبنا من شخصيته، والشريف فتمنينا كل الرجال بأخلاقه؛ ورأينا العميل، والانتهازي فأحسسنا بالاشمئزاز والقرف من خيانته؛ ورأينا الشباب الواعي فسرنا تواصل الأجيال مع القيم النبيلة، فقد أراد الكاتب أن يسلط الضوء على دور الشباب وأهمية ذلك الدور فأبرزه بشكل لافت…
لكن ما يؤخذ على الكاتب، تجاهله لدور المرأة، ولا أجد مبررا لهذا التجاهل، إذ أن المرأة في المجتمع الريفي حاضرة بقوة، فهي مكملة لدور الرجل الريفي خاصة في الحياة الاقتصادية، وعندما مرَّ على ذكر المرأة في نهاية الرواية تقريبا، ذكرها على أنها وعاء لا يبتعد عن الشهوة الجنسية من وجهة نظر رجولية وحسب…
أما زمن الرواية فقد انحصر في سنوات ما قبل حرب حزيران، فنقل لنا واقع تلك الفترة السياسي والاجتماعي والاقتصادي، في مدينة القدس وفي ريفها القروي الذي له علاقة ما بالطابع البدوي، ولا غرابة في ذلك فكاتبنا الشيخ جميل السلحوت من أصول بدوية، وبذلك تكون الرواية نتاج تلك البيئة الريفية البدوية بامتياز…
أما أهم ما يؤخذ على الكاتب في هذه الرواية؛ فهي اللغة العامية التي استخدمها كاتبنا، مبتعدا عن لغتنا العربية الفصيحة، تلك اللغة التي قال فيها الشاعر:
“وسعت كتاب الله لفظاً وغاية وما ضقت يوما عن آي به وعظات”
فقد حصر الكاتب انتشار روايته وحدد ذلك بمكان ضيق في هذا العالم الرحب ألا وهو القدس بشكل خاص وقد تكون فلسطين عامة.
إن الكتابة باللغة العربية الفصحى تشكل فضاءً واسعا للكاتب نفسه، خاصة عندما تتوفر عنده أدوات الكتابة الفنية، رغم الحيوية والأصالة المرتبطة بالبيئة المكانية للهجة العامية…
إن الكتابة بالعامية تظهر الرواية كالثوب المرقع، إنه جميل وألوانه متناسقة، لكن الرقع المنتشرة عليه تُذهب بجماله وتطيح به…
وإذا قال قائل: بأن اللغة الفصيحة صعبة على القارئ، فإنني أقول له: إن اللغة الفصيحة لم تكن صعبة المنال إلا عندما قام الاستعمار بتجزئة العالم العربي إلى دويلات صغيرة في العام 1916 (معاهدة سايكس بيكو)، وشجع لهجات تلك الدويلات ليبتعد العرب عن لغة القرآن التي توحدهم، فالاستعمار المتمثل بالمشروع الغربي، هدف إلى تجزئة الوطن العربي، ولكي يحقق ذلك فهو معني بإضعاف اللغة، التي تتوحد فيها ألسنة الأمة العربية جمعاء…
وأخيراً، فإنني أشكر الكاتب على سعة صدره، أشكره أولا على هذه الهمَّة في الكتابة، راجيا أن يعيد النظر في اختيار العامية لغة لرواياته التي فيها عبق الحياة الريفية الجميلة، ونحن في دار الجندي للنشر نتطلع إلى كل ما هو جديد عند كاتبنا الجميل…
وقالت نسب أديب حسين:
جنان تزهر في الجحيم
ها نحن بصدد الجزء الثاني من رواية ظلام النهار للكاتب جميل السلحوت والتي يأتي عنوانها بطباق آخر ليكون جنة الجحيم. يقع هذا الجزء في 176 صفحة وهو الاصدار الثالث لدار الجندي للنشر.
تدور معظم أحداث هذه الرواية في منطقة جبل المكبر جنوب شرقي القدس كاستمرارية للجزء الأول، لكن معظم الشخصيات هي شخصيات حديثة، مع ظهور قليل لشخصيات الجزء الأول مثل خليل الأكتع، الحاج عبد الرؤوف، أبو كامل. لم تأخذ هذه الشخصيات دورًا مركزيًا في الأحداث مثلما سبق، سوى خليل الذي ظهر بوضوح ونحن على مشرفة من نهاية الرواية صفحة 159، لنلمس تطورًا في شخصيته، وعلى ما يبدو أن الضوء سيعود ليُسلط عليه في الجزء الثالث.
تدور معظم أحداث هذه الرواية حول الانتخابات للبرلمان الأردني، وفترة الاستعداد لها، وتستمر حتى صفحة 120. يطرح الكاتب هذا الموضوع بإسهاب مع تحديد أسماء المرشحين، خطاباتهم، خططهم ووعودهم ومن ثم نتائج الانتخابات. يحيى القارئ يوميات الشخصيات الشعبية البسيطة التي بالكاد تفقه خطط الأحزاب، وتعد كل شخصية العديد من الأحزاب بالتصويت لمرشحيها، ويبقى تأثير العواطف ملحوظًا لدى هذه الفئة، ونرى قوة تأثير المرشح غازي كمال على الفلاحين ومحاولة استدراجه للعواطف من خلال القاء كوفيته أثناء الخطاب، والتركيز على أنه صوت الفلاحين وأنه يرشح نفسه لأجلهم فقط ص 20، فيما يبذل الغالي والرخيص في سبيل الوصول الى البرلمان. لاحظت أن ذاكرة الكاتب تكتظ بالكثير من القصص عن أبناء قريته والتي يسعى الى تأريخها، فأوردها على لسان الشخصيات مثل قصة محمد عم أبو سالم، قصة أبوهاشم الزعفران صفحة 88، قصة الشيخ حمروش صفحة 114، وغيرها. في أحيان ٍ كثيرة كان الكاتب موفقًا في طرح القصص، لكن في أحيان أخرى أثقلت القصص على النص.
شخصية الكاتب وروحه تطغي على روايته، تظهر روحه الفكاهية في كثير من المواقف، ونراه في مواقف أخرى حانقًا غاضبًا لحال مجتمعه، وحينًا آخر هادئا مترو يا يحمل أملا بالتغيير، من يعرف الشيخ جميل سيشعر بوجوده، سيراه جالسًا قبالته ينفث دخان سيجارته، ويفرغ ما تحمل ذاكرته من هموم وطرافة عن بيئته.
من طرواحات الرواية
دور الشاب المتعلم، وعلاقة الأباء بالأبناء:
نرى في الرواية مساعي الشبان المتعلمين في القرية لتحسين ظروف المعيشة هناك، فيعودون في كل فترة من أماكن دراستهم سواء كانت في بيروت أو في مناطق أخرى بأفكارٍ لمشاريع جديدة، ونلاحظ مساندة الأهل لأبنائهم ولمشاريعهم وتعهدهم لأقاربهم بالدفع والتعويض في حالة فشل المشروع. رأينا هذا بمشروع الدكان الذي جاء به كايد، مشروع الشحن الذي اقترحه حسن أبو السمن، مشروع زراعة أرض أهالي البلدة بالأشجار المثمرة الذي أتى به داود. هذه المشاريع التي يوردها الكاتب ترينا التطور التدريجي للقرية والعائد الذي تعود به دراسة الأبناء وتعليمهم على القرية من منفعة، نلمس هنا احترام الوالد لأفكار ابنه المتعلم ودعمه.
بينما تختلف العلاقة عند شخصيات أخرى حين يفرض الأب أو الأخ رأيه على إبنه أو أخيه ويقرر مصيره، مثل أبو محمد وأبو سعيد اللذان قررا مصيري يوسف ونايف صفحة 132 دون استشارتهما بإرسالهما الى الارجنتين للعمل، كي يعودا محملين بالأموال الطائلة، دون اهتمام بمشاعرهما أو مشاعر زوجاتهما، كما يفرض أبو سالم الزواج على سالم من ابنة عمه وهو بعد في صف التاسع، هذا الزواج الذي يصبح عالة على الشاب عند تخرجه من دار المعلمين ويدفعه لمعاملتها كخادمة رغم حبها واخلاصها له، علمًا أن هذا الزواج فُرض عليها هي أيضًا ولم يكن سالم فتى أحلامها. ويرد في صفحة 173 على لسان سالم ( لماذا زوجني وأنا طفل يا ربي؟.. لم يكن لي خيار في الزواج.. ولم أكن أعي لماذا يتزوج البشر؟ لكن كثيرين من زملائي في دار المعلمين ـ وهم من جيلي ـ تزوجوا في نفس الفترة.. تزوجوا بناء على رغبة آبائهم.. ما هذه الحياة؟ وما هي حدود سلطة الآباء على الأبناء؟ حتى لو صممت على الزواج الآن فلن أستطيع الخروج عن سلطة أبي.).
التملق
تظهر هذه الميزة بوضوح الرواية وتطغي على شخصية أبي سالم الاستغلالي الذي يحاول أن يكسب من الجميع، يقبض من ممثلي الأحزاب ومن غازي كمال ولا يدخر أية فرصة للاستيلاء على المزيد من الأموال. ويصف غازي كمال أبا سالم ص 102 قائلا:” زلمة رخيص أكثر مما كنت أتصور.. وطماع وقليل حساب.. والمصيبة انه شايف حاله فهمان.. ومش شايف غيره.. سقى الله اليوم والانتخابات خالصة ع شان أخلص منه وأبطل أشوف خلقته المنحوسة”.
كما أن أبا سالم لا يصلي الا رياء أمام الناس كما ورد ص 122.
التملق مستشر في مجتمعنا فها هم أفراد عائلة أبي سالم يكرهونه ويشتمونه في غيابه لكنهم لا يخالفون له رأيًا.
المرأة:
لا تزال المرأة مضطهدة في هذا الجزء مثلما كانت في الجزء السابق، يتم تزويجها دون استشارتها، هذا الزواج الذي يكون غير متكافئ فتعاني من ظلم الزوج في معاملته لها كخادمة مثلما هو حال أميرة مع زوجها سالم ابن عمها.
يظهر تلاحم النساء في سبيل مساعدة بعضهن بعضًا، فها هن يأتين لمساعدة أم سالم يخبزن ويعجن، ويصفهن الكاتب ص 76 (يتصببن عرقًا، يتدثرن بصمتهن، لا يتذمرن ولا يشتكين).
ويقول عنهن أبو سالم:( النسوان فاضيات اشغال، لا شغلة ولا عملة ولا هم دنيا ولا عذاب آخرة بس شاطرات في الأكل والشرب). فيما يظهر موقف مغاير لخضر الذي عمل في المدينة ليرد على أبو سالم ويصف نساءهم بالمظلومات.
عنوان الرواية
يظهر مقصد الكاتب من العنوان في صفحة 157 إذ يقول (غادر الاساتذة أرض الوطن لاستكمال دراستهم العليا، غادروا الجحيم بحثًا عن جنة العلم).
يرى الكاتب أن “العلم جنة” هذه المقولة ترد على ألسنة شخصيات الرواية مرات عدة، فهذه هي الشعلة والأمل لإحالة جحيم الوطن الذي يخيم عليه الجهل والتخلف الى جنة.
أخيرًا إن الرواية ممتعة شيقة الأحداث، لغتها سلسة استخدمت فيها اللهجة العامية استخدامًا صحيحًا. وإن هذه السلسلة التي يكتبها الكاتب جميل السلحوت سلسلة قيّمة في طرحها وأحداثها.
ومن رام الله كتب الينا الأستاذ علي الجريري:
تكنيك اللغة في رواية جنة الجحيم
ناقشت ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس المحتلة، رواية الشيخ جميل السلحوت (جنة الجحيم) مساء الخميس 21 /7 /2011 الصادرة عن دار الجندي للنشر في نيسان 2011 م. وتقع في 171 صفحة. وهي الجزء الثاني متممة لروايته السابقة ظلام النهار الصادرة عام 2010 في 176 من القطع المتوسط، أدار النقاش زميلي الأستاذ إبراهيم جوهر الكاتب والناقد والمعلم والإعلامي المتنوع والذي يتهمني بأني لا اقرأ كل شيء وإنما انتقي عينات للقراءة، وهو محق في ذلك غير أن ذلك ليس في كل الأمور، فثمة رسائل تعرف من عناوينها، وكتبا تتخير منها ما تريد بعضها تكملة وبعضها تتركه إلى حين، غير أني في هذه الرواية تحديدا قرأتها مرتين مرة لغاية المتعة ومرة لغاية التعلق والنقد، وكانت الرواية وصلتني من كاتبها هدية قبل شهر تقريبا من ندوة اليوم، وأكثر من ذلك أتيح لي معاودة قراءة ظلام النهار وعش الدبابير الأمر الذي قادني إلى التوقف عند تكنيك اللغة في الرواية: وكوني لم أنجح هذه المرة بالدخول من حاجز الاحتلال عند مطار قلنديا الذي كان مسرحا لمكان روايته في صلب متنها، والحصول على تصريح من قوات الاحتلال للوصول إلى المدينة المحتلة والمحاصرة والمغلقة وحرمت من المشاركة قسرا، عدت الى كتابة مشاركتي مع أني ارغب في النقاش أكثر من الكتابة
تكنيك اللغة في الراوية خليط من أربعة ألوان:
اللغة العامية بقواعدها الكاملة.
اللغة السليمة بقواعدها الكاملة.
العامية الأقرب للغة السليمة والخلط بين قواعدها.
اللغة السليمة الأقرب إلى العامية الدارجة والخلط في قواعدها
غلب الكاتب الانسيابية في لغة القص الروائي، على طريقة الحكواتي الذي يجمع الناس ليحكي لهم أيام زمان، خالطا بين الهم السياسي والاجتماعي، متداخلا في الحدث الروائي في مثاقفة تسجيلية واضحة على طريقة الأستاذ والتلاميذ، أو شيخ القبيلة والرعية، ينجح في أعمال الخيال لحبك رواياته ضمن شخوصها التي لا ترى لها شخصية محورية جمعية، تدور حول الأحداث، بل يترك الشخوص أحيانا يمرون مرّ الكرام حاشدا فيها كما هائلا من التراثية، متأثرا من ثقافته الشعبية في أوائل كتاباته عن الأدب الشعبي، تلك الأسماء التي يظل لها في ذاكرة جيلنا وهو جيل الكاتب دلالة ومعنى، حتى أنه تركني أتذكر أصدقاء لي عرفتهم وتواصلت معهم خارج الوطن، منهم من مضوا ومنهم لا يزال على قيد الحياة، وممن مضوا كامل الريماوي وقاسم الريماوي من البرلمانيين البعثيين، ومن الشيوعيين إبراهيم بكر، فائق وراد والدكتور يعقوب زيادين الذي لا يزال على قيد الحياة، يعيش في منزله في جبل عمان، وكانوا شاركوا في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة سليمان النابلسي عام 1957 والانقلاب على هذه الحكومة فيما بعد، جعلني كذلك أتذكر تلك الأغاني الشعبية إبان الانتخابات نحو “على طريق الشام جينا بالمكينة كذلة الطربوش تظرب عن يمينا والشوفير من المدارس ناخبينا، والدكتور مرشح عن شعب الإمارة” ومثل هذا نجده في نمط الأدب الشعبي الذي تحفل به الرواية كنص الزغرودة ص 154 والتي تشكل لغة شعبية عامية خالصة بكامل تكنيكها وقواعدها اللغوية العامية، دون تأثر بالفصحى مما يقرب الرواية من نمط الرواية الشعبية لغة وتكنيكا وحوارا، غير انه يقع في فخ الأخطاء الفاضحة عندما ينسى انسيابية القص فيخرج عن قواعد العامية في رفع المفعول به في قوله:” وأعقبتها زغرودتان بدل زغرودتين السطر السادس ص 154 وهي مسالة لا تفوت الكاتب بالطبع لتخصصه باللغة، وكونه كاتبا متمكنا مما يرجح أن الكاتب لم يعاود مراجعة كتابه قبل نشره، أو لم يعرضه على منقح لغوي والأخطاء المماثلة ليست قليلة من أول الرواية إلى نهايتها لا يتسع المجال لذكرها وتعدادها.
كسر رتابة القص والإخلال بانسيابية اللغة العامية الشعبية وقواعدها في غفلة من أمره، ودون انتباه، وكأنه غير مسار اتجاهه دون معرفة أو انتباه، حيث يبدأ بالفصحى في السطرين الثالث والرابع من ص 155 “احمر وجه أميرة….. ” ثم يدخل للعامية في السطر الخامس ” ليش ما تضحكي وللا مش راضية.. للدخول فجأة في لغة عامية لا تتعارض مع السليمة في نصها النحوي، ولا تكاد تصحوا على سلامتها الا وهو يطبق قواعد النحو على قوله “ووضعه أمام أبيه”
بصراحة اللغة تصبح متعبة جدا للمتابع، وخاصة ان لم يكن متمكنا من قواعد العامية وقواعد الفصحى والتميز بينهما وتكنيك كل منهما، ولهذا وقع الكاتب في أخطاء لا حصر لها نتيجة هذا الخلط في تكنيك لغته في روايته هذه، انظر مثلا في نص ص 113 السطر 7 “في صباح اليوم التالي (هذه لغة سليمة ) الى ان يصل الى قوله اصطحب المختارين “أبو سعيد وأبو محمد ” يجب نصب كلمة (أبو) لتصبح آبا سعيد وأبا محمد (عطف بيان بدل من المختارين المنصوبة بالمفعولية للفعل اصطحب ) ولو كان السرد الروائي بتكنيك العامية لاستقام الأمر.
ولا ادري كيف تفوت كاتبنا المخضرم مثل تلك الهفوات البسيطة وهو الأكثر خبرة بالأدب الشعبي وحكاياته، كما لو انه لا يعرف أن عبارة يا ريت هي الأقرب من يا ليت إلى السرد الشعبي والعامي فيما كلمة يا ليت تستخدم في اللغة السليمة، وأكثرها في حالة الإضافة يا ليتني، وهو ما جعل النص وكأنه يرتدي قميصا ليس له مما يجعل التكنيك ضعيفا كما في السطر الأول والثالث ص 23 ” طيب عارفين يا إخوان..( يا ليت )عندنا في بلدنا دكتور مثله.. والأسلم (يا ريت ) في مثل تكنيك العامية الشعبية هنا.
وهو ما نجده مستساغا في تكنيك العامية كما في السطر 10 ص 22 ” شبابنا ما تربوا ع رد الحكي يا أبو كمال ” فلم ينصب كلمة (ابو كمال ) في باب المنادي لأنها مستساغة في تكنيك العامية الشعبية هنا. ولو أن الفكرة ليست في مكانها وهي وان أراد بفكرتها التفاخر في مجال التربية الصارمة والانضباطية الا انها سلبية مطلقة في عالم قائم على حرية الرأي والتدريب على الاتصال والتواصل
الانفصال عن الخلط في تكنيك اللغة والمزاوجة بين العامية والفصحى لا تنجيه من الأخطاء، ولا تبرر له تلك الأخطاء على الإطلاق، ونجده عندما يتحرر من تلك المزاوجة يدخل في إطار كتابة القصة القصية جدا، ويبرع في حياتها كطبق من الحلاوة في تكنيك لغة ناعمة مجازية وبارعة، في ختام روايته وكأنه استراح من عناء صعود جبال وهبوط تلال على مقهى في فندق هادئ كما في قصة جسيكا ص 164
مثل هذا الخلط في تكنيك اللغة يوقع الكاتب في أخطاء عديدة مما يتوجب عليه مراجعتها، والفصل بين هذا التداخل وتطبيق قواعد اللغة كل في مسارها الصحيح، مع أنني أميل إلى أهمية الكتابة باللغة السليمة لتخرج روايته من إطارها المحلي إلى العالمية
عدا ذلك اتفق مع ما ورد في مداخلة أستاذنا الكبير إبراهيم جوهر ولا سيما في: تناوله لموضوعه وتلاعبه باللغة كما في ظلام النهار وجنة الجحيم ولا استغرب ان خرج علينا برواية ثالثة بعنوان المجانين في نعيم والعقلاء في جحيم، في تناوله للواقع الاجتماعي والتلون الثقافي بين المؤتلف والمختلف، وأن الجنة هي العلم والجحيم هو الجهل، في مواضع معينة، وأن الجنة هي الوطن والجحيم هو الغربة في (الصفحات 18 و90 و122 و157 ) مشددا على خصوصية المكان الفلسطيني في الرواية برموزها ودلالتها وملاحظته فيما يخص السرد التاريخي المرافق خارجا عن السياق الفني للرواية، وبدا مطّوّعا لخدمة الحدث الروائي، خارجا عن السياق، في حين كان بالإمكان تقديمه ضمن الأحداث بقليل من المعالجة الفنية.. كما يظهر في الصفحتين 15و18.
وكذلك الموقف من المرأة في مجتمع الفترة المعبّر عنها خمسينيات القرن العشرين؛ موقف الرجل منها ومدى تقديره السلبي لها بحيث لا رأي لها ولا مشورة ولا احترام…ونقل بالمقابل موقف المرأة من ذاتها (ص155 ) وهو موقف ذوّتته لنفسها عن نفسها.
وفي الختام أتمنى لكاتبنا الرائع مواصلة العطاء في زمن صعب يعيشه أبناء القدس وتعيشها قدسنا التي كانت هي المسيح وكانت هي الضحية وحملت جروحها الندية لفجر ابيض فسيح.
وشارك في النقاش أيضا كل من طارق السيد، ديمة السمان ود.وائل أبو عرفة.