عن جائزة “الإبداع”: مثل عملة ضاقت بأصفارها!/ مرزوق الحلبي
|مرزوق الحلبي| كنتُ أقترح تسمية “جائزة الإبداع […]
عن جائزة “الإبداع”: مثل عملة ضاقت بأصفارها!/ مرزوق الحلبي
|مرزوق الحلبي|
كنتُ أقترح تسمية “جائزة الإبداع” بـ “جائزة الكتابة” ولو لسبب واحد وحيد وهو أن كل مَن يفكّ الحرفَ في بلادنا حائز عليها بالاحتمال بعدما رأينا قوافل الحاصلين عليها فعلا، من قبل. نقول هذا الكلام حيال الإعلان عن الفائزين بالجائزة هذا العام. وهي مناسبة لإعادة النظر في “حدث” صار مألوفا في ساحة أدبية مُباحة لآلاف النصوص التي تذكّرني بمحاولاتنا إجادة الإنشاء في بداية المرحلة الثانوية أو بمحاولاتنا التذاكي أمام مدرّس اللغة العربية في أواخر المرحلة.
رهط كبير من الذين يكتبون مهتم بالجائزة وبالفوز بها. وعادة ما تسبق تسمية الفائزين بها أو تعقبه نقاشات حول أحقيّة هذا أو ذاك بها. وحدث في الماضي ـ قبل أن تطول قائمة الفائزين بهاـ أن تعرّضت الجائزة ولجنتها إلى هجومات ونقود شديدة بسبب من هوية الفائزين أو طريقة الاختيار أو القيمة المالية. ومن الفائزين مَن أدرك بؤس الفوز بها فأعادها أو تنصّل منها. وحدث، أيضًا، أنّ الذين انتقدوا وهاجموا “حصون” الجائزة بعناد صمتوا عندما اختيروا فائزين بها، أو عندما وُعدوا! ومهما يكن من هذه التفاصيل وأهميتها، تظلّ الأهمية في مواضع أخرى من دلالات الجائزة. وهو ما نسجله هنا أولا بأوّل.
تقضي النظريات الإدارية الاقتصادية في مجال أنظمة المكافآت المحفّزة أنها تؤدّي في مرحلة ما إلى نقيضها، وأنّ كل نظام للمكافأة لا بدّ أن يستنفد ذاته جدليا فينتهي إلى عكس ما خُطّط له. فإذا كانت الجائزة قصدت، جدلا، تشجيع الإبداع، أمكننا القول إننا في حالة ينتفي فيها الإبداع بصيغته المأمولة، ونجزم أنها أفضت إلى عكس ما ابتغته. فالسّمة الأساسية لما يُنشر عندنا في المجالات كافة هو كونه نصوصًا عادية لا دهشة تُحدثها ولا شهقة تبعثها. نصوص مكرورة باهتة لا فكرة خلّاقة فيها ولا ما يبعث على التفكير. أو هي نصوص لا فنّ فيها ولا سحر. كلام أقرب إلى “الخراريف” يستخفّ بالعقل وبالذائقة، يُزفّ إلينا بأقلام وسطاء لا تربطهم بالأدب سوى أنهم كانوا مدرّسين فتقاعدوا بحكم الزمن، أو أنهم أعضاء في مجموعات الإسناد الذاتي الواقية من أثر السنين، يكتبون عن غيرهم كأنهم ـوفق فرويدـ يكتبون عن أنفسهم، أو كما يتمنون أن يكتب الزملاء عنهم!
مثال آخر على غياب الإبداع حقيقة أنّ عددًا غير قليل ممّن فازوا بها سكتوا عن الكلام وانتهوا من الحبر. حصل لهم هذا بُعيْد تسميتهم بين الفائزين. ربما أنهم لو لم يسمّوا لواصلوا الجهد والتضحيات ولعلّهم أصابوا نصّا أو أبدعوا قصيدة!
البُعد الحاضر بقوة في مؤسسة الجائزة كونها دخلا ماديا يحتاجه البعض بقوة في مراحل ما من حياته. وأعتقد أنّ هذا البُعد جدير بالدراسة والتفكير بحيث يصير البُعد الأساس في الجائزة. وهو ما يقضي بتغيير المعايير المعلنة وإحلال المضمرة مكانها، ومن ثم المكاشفة بذلك. فتتحوّل الجائزة إلى تقدمات مالية مقسّطة شهريًا لمن يثبت حاجته لذلك. أن يحصل عليها الذين يكتبون والذين هم بحاجة إليها أفضل ألف مرة من أن يحصل عليها أرباب المال كتخفيضات في الضرائب أو إعفاء من دفع مخصصات التأمين القومي. وإذا ما حصل هذا التغيير، سيكون من الضروري فك الارتباط بين الإبداع وبين الجائزة والانتقال إلى خطاب آخر أكثر إنصافا للأدب والأدباء والمبدعين غير المحتاجين إلى جائزة كي يكونوا!
في الجائزة حضور رمزي ما للسلطة. وهنا، لم يعد مقنعا ذاك الحديث عن حق الذين يكتبون بمال هو مال عام أساسًا. صحيح أنه مال عام لكنه يُقدّم على شكل “جائزة” مؤسساتية قِيَمية، لا تغيب اعتباراتها عن تسمية الفائزين وعن طريقة توزيع القيمة المالية. فعندما أراد الوزير السّابق غالب مجادلة أن يشمل أكبر عدد ممكن من الفائزين لأسبابه التي لا يصعب الاستدلال عليها، قسّم المبلغ المالي على عدد كبير من الفائزات والفائزين حدّ الوصول إلى محصّلة بخسة تهين الذي يكتب وما يكتبه، ولا تُسهم مثقال حبّة في تطوير المشهد الأدبي أو الإبداع المأمول بل تزدريه! ليس هذا فحسب؛ فقد تحوّلت الجائزة -على ضآلة قيمتها المادية والرمزية- إلى “مرجعية” سياسية مؤسّساتية تقرّر في الأدب رغم أنّ جلّ اعتباراتها ليس من هذا الحقل. بدلالة أنّ قلة من الفائزين بها تعتبر أنّ معظم الفائزين بها إنما يسمّون كذلك رغم افتقادهم إلى أبسط معايير الكتابة والأدب. هذا ما سمعته من أساتذة حصلوا على الجائزة، وهو ما صار مع الوقت سرّا معلنا.
ومن رمزية حضور السلطة إلى دلالة أخرى. ليعذرني الأصدقاء وغير الأصدقاء إذا تساءلت: ماذا لو أنّ السلطة المانحة للجائزة هي من لدننا خارجة من صُلب مجتمعنا وإرادته؟ قد يزوّدنا هذا المشهد الذي لا يشرّف مهنة الكتابة أو الثقافة عمومًا، بأدوات لفهم حقيقة أنّ الجزء الأكبر من الزملاء في سوريا لا يزال صامتا حتى اليوم فيما لا ينفكّ كثيرون منهم ينافحون عن نظام يقتل أهلهم بدم بارد من وراء خطاب ذرائعي تبريري لا نعدم مثله هنا، مع اختلاف أداء السلطة! ومن المفارقات أن كثيرين ممن يُناهضون سياسات السلطة هنا ويمثّلون دورا لفظيا “وطنجيا” أو “ثورويا” في خندق مضاد لها، يمارسون في الشق “الحقيقي” من حياتهم ألعابا ويهلوانيات ويأتون بالمناورات والعجائب للفوز بجائزتها! صحيح، أنه يُشرف على الجائزة أناس منا وفينا، إلا أنها حقيقة لا تُلغي رمزيتها كجائزة سلطة يستدعي التعاطي معها نوعا من التعفّف!
وأخيرا، نصل إلى ما نعتبره بيت القصيد في النص الإشكالي الذي صاغته “مؤسسة الجائزة”. فالمسألة التي لا تناقش عادة هي الاعتراف الذي ينشده الراغبون بالجائزة من خلال الفوز بها. فالحصول على الجائزة صار بالنسبة لرهط غير قليل نوعا من الاعتراف بهم أنهم “كتاب” أو “شعراء” أو بين هذا وذاك. والاعتراف حاجة هامّة لكلّ كاتب وشاعر ومُبدع كما هو حاجة كلّ فرد من بيئته ومجتمعه. وقد تنشأ ضمن هذه الظاهرة الإنسانية مشاهد غير مستحبّة. فالدخيل على هوية يستميت أحيانا في اكتسابها. والغريب الوافد على مجتمع ما يغالي في تعصّبه لكسب شرعية في المجتمع الجديد. بمعنى، أنّ “مهموز” الانتماء و”المشكوك” في هويته يصيران الأكثر “تمثيلا” لها. مشهد ينطبع مثله في ساحة الجائزة. فالحاجة إلى الاعتراف لدى غير الأدباء وغير الشعراء من خلال الجائزة، تكشف “نقصًا” في هويّتهم الإبداعية وليس فائضًا فيها، تشير إلى أنهم يعوّلون أكثر على اعتراف مكتسب لا على اعتراف بالأصل. فليس نتاجهم الذي يُكسبهم اعترافا بأنهم مبدعون بل جهة من خارج الساحة تعمّدهم وتشملهم بعطفها وتقرر شملهم في عداد الجماعة الأدبية المبدعة.
مغزى القول، إنّ النص وحده هو الذي يشهد لصاحبه على إبداعه أو أدبه. أما الجماعة ـأي جماعة: مثل الحزب وموقعه على الإنترنت والصحيفة والشلّة ومؤسسة الجائزةـ كلها جهات منحت الاعتراف بالكتابة والإبداع والشعر للذين يستحقونه ولأولئك الذين لم يستحقوه- وهم الرهط الأكبر. أحيانا، كان الاعتراف مؤسّسًا على نصوص ونتاج وأحيانا أكثر على اعتبارات تجميع القوى وتوسيع القاعدة وإسداء معروف لصديق أو إقامة توازنات طائفية أو مناطقية. لكل حرية في منح اعترافه لمن يشاء من جيبه الخاص، لكن لماذا يُمنح الاعتراف من “كيس” الإبداع والأدب وفنونه؟ ولماذا تُقيمون مراسم لتطويب فلانة أو فلان “مبدعيْن” على أرض ليست ملككم ولا ملكهما؟
ولا بدّ من استدراك!
لست طوباويا حدّ أني أرى المشهد بهذه السّوداوية، لكني واقعي أميل إلى تفكيك مرحلة الركود في ثقافتنا كجزء من الثقافة العربية مع خصوصيات المكان والشرط السياسي. أفعل متأملا في المشهد مُدركا إشراقات سجّلها مبدعون حقيقيون بيض الصنائع ومِلاح الطبائع، وإن كانوا القلة في المعادلة، في كل مجالات الفنون الأدبية وسواها. فمن اللافت تلك الثروة الهائلة التي سجّلها الفن التشكيلي مثلا في السنوات الأخيرة، وذاك الإنجاز العلمي في مجال البحوث والدراسات المعرفية ( لاسيما في حقل المجتمع المدني)، وإشراقات الفنون المسرحية والغنائية، وعارفا عن كثب تجارب جيل فتيّ من مُبدعات ومُبدعين حرّر نفسه من عبء التفكير بالجائزة عاكفا على تطوير نصّه الفني.
في المحصّلة النهائية: الذين استحقّوا الجائزة بجدارة لإنجاز أو إبداعي أو فنيّ أو بحثي، لم يستطيعوا بسبب عددهم القليل أن يسموها بلونهم ويُعطوها معنًى أو قيمة تُذكر بقدر ما أسهم غير المستحقّين لها بسبب كثرتهم في خفض قيمتها حدّ بات من اللازم تعويمها أو تبديلها تماما مثل العملة التي ضاقت بأصفارها.
13 مايو 2011
صدقت..