أوروپّا أم أوروبّا..؟!/ أسعد موسى عَودة
|أسعد موسى عودة| أعْجَبُ لإصرار كثير من الكتّاب […]
أوروپّا أم أوروبّا..؟!/ أسعد موسى عَودة
|أسعد موسى عودة|
أعْجَبُ لإصرار كثير من الكتّاب على رسم كلمة أوروبّا بباء منقوطة بثلاث (أوروپّا) لا بواحدة (أوروبّا)! وذلك رغم أنّه تكاد تُجمع الدّراسات – في البحث عن جذور الكلمة – على ردّها إلى أصول إغريقيّة – فينيقيّة – أكّاديّة – ساميّة – عربيّة؛ حيث حرف الباء المنقوط بواحدة فيها هو الأصل، وليس حرف الباء المنقوط بثلاث، كما هي في اللّاتينيّة ومنها في مجمل اللّغات الأوروبيّة، اليوم.
إنّ اتّصال الكلمة بالأصل “إرب” الفينيقيّ اتّصال وثيق؛ ويعني بلاد الغرب الواقعة غرب بلاد الفينيقيّين، أو يعني غروب الشّمس؛ أو هو ساميّ – أكّاديّ (إربو) – عربيّ (غرب)؛ بمعنى الزّوال والغروب (زوال الشّمس أو غروبها). ذلك إلى جانب نظريّات أخرى أقلّ حظًّا، لا تصحّ زمانًا ولا مكانًا ولا إنسانًا! فأوروبّا باؤها عربيّة وراؤها عربيّة وهمزتها عربيّة (مقلوبة عن الغين) وألف المدّ فيها تعبير عن أعجميّتها، اليوم (مثل إيرلندا، پولندا، فنلندا، وغيرها وغيرها)، وأمّا واواها فمتحوّلان. أبَعد ذلك شكّ في أنّها عربيّة اللّسان؟! ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
سُئِلت.. فأجبت..!
كثيرًا ما أُسأل عن معنى كلمة “لينتش” / לינץ’ / Lynch، حيث هو النّشاط العنيف المعروف الّذي يقوم خلاله حشد غفير من النّاس بإعدام شخص ما بطريقة ما بادّعاء ارتكابه جرمًا ما. فأجيب: إنّها كناية عن تنفيذ الحكم ارتجالًا بممارسة قانون الغاب، من دون إجراء قانونيّ عادل، وإليكم حكايتها.
تعود قصّة هذه الكلمة إلى المدعوّ وليام لينتش (William Lynch)، صاحب بساتين وقاضي صُلح من ڤِرجينيا الأمريكيّة، حيث إنّه – وفي وقت حرب الاستقلال الأمريكيّة (1775-1783) – كان يرأس محكمة عَرَضيّة مؤقّتة، تمّ إنشاؤها لفرض أحكام (تعسّفيّة) بالإعدام على الموالين لحكم الإنچليز في البلاد. وهكذا بات اسمه كناية عن العمل أعلاه. ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
الصّيّاد..!
يسمعهم الصّيّاد يقولون ويقرأهم يكتبون: “اطِّرار”، والصّحيح “اضْطِرار”؛ حيث الأصل (ضرر) والفعل (ضَرَّ)، وحين يأتي على الوزن المزيد (اِفْتَعَلَ) تُبدل التّاء المزيدة طاءً وتبقى ضاد الفعل على حالها، ليُصبح الفعل (اِضْطَرّ اضْطِرارًا، أو اضْطُرّ اضْطِرارًا لدى بنائه للمجهول)، بدلًا من (اِضْتَرّ اضْتِرارًا أو اِضْتُرّ اضْتِرارًا)، ويسري ذلك على حالات تصريفه، مصادره، ومشتقّاته.
ويسمعهم الصّيّاد يقولون ويقرأهم يكتبون: “مُضْطَرِد”، والصّحيح “مُطَّرِد”؛ حيث الأصل (طرد) والفعل (طَرَدَ)، وحين يأتي على الوزن المزيد (اِفْتَعَلَ) تُبدل التّاء المزيدة طاءً وتبقى طاء الفعل على حالها، ليُصبح الفعل (اِطْطَرَدَ/اِطَّرَد اطِّرادًا فهو مُطَّرِد)، بدلًا من (اِتْطَرَد اتْطِرادًا فهو مُتْطَرِد)، ويسري ذلك على حالات تصريفه، مصادره، ومشتقّاته.
كما يسمعهم الصّيّاد يقولون ويقرأهم يكتبون، مثلًا: “اِنْضَمِّيت” و”أصَرِّيت” و”اِسْتَمَرِّيت”، والصَّحيح: “اِنْضَمَمْت” و”أصْرَرْت” و”اِسْتَمْرَرْت”؛ ذلك لأنّ الفعل الماضي المضاعف (المشدّد العين واللّام في هذه الحال) يُفَكّ تضعيفه أو تشديده (وما التّضعيف أو التّشديد إلّا ساكن يليه متحرّك من جنسه) لدى اتّصاله بضمائر الرّفع البارزة (التّاء المتحرّكة، نا الدّالّة على الفاعل، ألف الاثنين، واو الجماعة، ونون النّسوة).
هذا ويسمعهم الصّيّاد يقولون ويقرأهم يكتبون، مثلًا: “رَيْثَما يعود”، مستخدمين “رَيْثَما” بمعنى “حتّى” ولو بعد وقت قريب؛ علمًا أنّ “رَيْثَما” هذه مزاوَجة بين الـ”رَيْث”، وهي مقدار المهلة من الزّمن، و”ما” المصدريّة/المصدريّة الظّرفيّة؛ فنقول، مثلًا: لزم الصّمتَ رَيْثَما تناقشنا؛ بمعنى أنّه لزم الصّمتَ مقدارَ أو طَوالَ مدّةِ نقاشِنا (رَيْثَ نقاشِنا).
ولا تقولوا: “الكراهيّة” (بتشديد الياء)، بل قولوا: “الكراهيَة” بتخفيفها.
ولا تقولوا: “مُلفت للنّظر”، بل قولوا: “لافت للنّظر”.
ولا تقولوا: “يتوفّر”، بل قولوا: “يتوافر”.
وغيرها وغيرها… والبقيّة آتية..! ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
تلاقح لغاتٍ ودلالاتٍ وأنساقِ ثقافات..!
هي في الإنچليزيّة “شِيڤ” (shave) بمعنى حلق اللِّحية عمومًا؛ أفلا ترَون معي أنّ أصلها عربيّ من كلمة سَيْف (أو سِيف في العامّيّة)؛ حيث أبدِلت السّين شينًا والفاء ڤاءً؟
هي في الألمانيّة مُولِر (müller) وفي الإنچليزيّة (mill)، وكلاهما بمعنى الطّاحون (طاحون القمح)؛ أفلا ترَون معي أنّ أصلها عربيّ من كلمة مَلَّة؛ حيث هي الجمر أو الرّماد الحارّ، وحيث خبز المَلَّة هو الخبز المخبوز فيها؟ ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
هكذا جاء..!
قال وِنْسْتُونْ تْشِرْشِل بإنچليزيّته:
“We are masters of the unsaid words, but slaves of those we let slip out“.
ترجموه إلى العبريّة فقالوا:
אנחנו אדונים למילים שלא יוצאות מפינו, ועבדים למילים שאנחנו אומרים.
وترجمناه إلى العربيّة فقلنا:
نحن أسياد الكلمات الّتي لم نقلها.. وعبيد الكلمات الّتي خرجت من أفواهنا..!
وأخيرًا وليس آخِرًا.. قال من قال:
ليس شيء أضرّ على الأمم وأسرع لسقوطها من خِذلان أبنائها للسانها، وإقبالهم على ألسنة أعدائِها. ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
وحديثنا، أبدًا، عن لغتنا ونَحْن!
(الكاتب دارس عاشق للّغة العربيّة، مترجم ومحرّر لغويّ؛ الكبابير/ حيفا)