السّخافة اللّغويّة داء، لا بل وباء.. اِحذروا انتشار عدواه، واسألوا عن دَواه (دوائه)!/ أسعد موسى عَودة
أفاد راصدُ الصّحّة اللّغويّة لدينا، مؤخّرًا، أنّ وباء السّخافة اللّغويّة بات يبثّ جراثيمه في المجتمعات العربيّة غالبًا، المتخلّفة عن ركب التّقدّم العلميّ بما يُقدّر بخمسة قرون، وأنّ هذه الجراثيم لا تفرّق بين صغير وكبير…
|أسعد موسى عَودة|
لم أصدّق – قرّائيَ الأعزّة – أنّني سأنجح في كتابة شيءٍ لنا، لهذا الأسبوع؛ فقد بَلغ فيَّ التّعبُ مَبلغًا صَعْبًا ووَعْرًا، لكنْ يبدو أنّ حبّي لكم وحبّي لها، أمّنا العربيّة، وخوفي عليكم وخوفي عليها، بالغٌ فيَّ مَبلغًا أبعَدَ وأصعَبَ وأوْعَر، بالغٌ فيَّ أيَّ مَبلغ، بالغٌ فيَّ كلَّ مَبلغ.
أفاد راصدُ الصّحّة اللّغويّة لدينا، مؤخّرًا، أنّ وباء السّخافة اللّغويّة بات يبثّ جراثيمه في المجتمعات العربيّة غالبًا، المتخلّفة عن ركب التّقدّم العلميّ بما يُقدّر بخمسة قرون (خمسماِئة سنة)، وأنّ هذه الجراثيم لا تفرّق بين صغير وكبير، حيث يبذل علماء اللّغة جهودًا حثيثة في الدّراسة والبحث، سعيًا منهم للتّوصّل إلى دواء يردع انتشار هذا الدّاء.
إنّ ما نعانيه، نحن – المجتمعات الاستهلاكيّة – ممّا يُنتجه العالم المتقدّم من أدوات تواصل تقنيّة متطوّرة بين البشر – هي عنده إنجاز علميّ، وهي عندنا موديل وموضة – يفتح أمامنا المجال أوسع وأعمق لمزيد من السّخافة اللّغويّة. وهذا الوباء القاتل، على كلّ صعيد – أعني السّخافة اللّغويّة – سرعان ما تنتشر عدواه بيننا. والمصيبة الجَلَل أنّه لا يقف عند حدّ ركاكة الكَلِم؛ من اسم وفعل وحرف، لم يجَئ لمعنًى (عذرًا سيّدي، سِيبَوَيْه!)، بل يتجاوزه، حتمًا، إلى التّغلغل في النّفس والقلب والعقل والرّوح، فيتركها خاوية نَخِرة خَرِبة.
ليست اللّغة – يا عرب – رفاهية أو كماليّات، بل إنّها، اللّغة، أصل وشرط ضروريّ وحاسم وأساس من أصول وشروط التّقدّم والرّقيّ والازدهار، لأنّ العبارة النّاصعة تخلق ذهنيّة ناصعة، ونفسيّة أنصع؛ ولأنّ العبارة الباهتة تخلق ذهنيّة باهتة، ونفسيّة أبهت. وشروط الحياة أراها بحياة ثلاثة: اللّغة (الحيّة)، والعقل (الحيّ)، والرّوح (الحيّة)، وبدونها – هذه الثّلاثة – لا حياة لمن تُنادي، فيصدُق فينا قولُ عمرو بن مَعْد يَكْرِب الزُّبَيْدِيّ: “لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا / ولكنْ لا حياةَ لمَن تنادي / ولَو نارٌ نَفختَ بها أضاءتْ / ولكنْ أنتَ تَنفُخُ في الرَّمادِ”.
ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
أنساق ثقافيّة.. وتوارد خواطر أخلاقيّة..
جاء في الحديث النّبويّ الشّريف: “لا يُلدَغُ المؤمنُ من جُحرٍ مرّتين”.. وقد تعلّمتُ، مؤخّرًا، قول الغربيّين: “Fool me once, shame on you; fool me twice, shame on me” (“فُولْ مِي وَنْسْ، شِيمْ أُنْ يُو؛ فُولْ مِي تْوَيْسْ، شِيمْ أُنْ مِي”)، ما ترجمَتُه بتصرّف: إنْ خدعتني مرّةً فعَيْبٌ عليك، وعَيْبٌ عليَّ إنْ خدعتني مرّتيْن.
ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
حكمتان لهذا الأسبوع..
وَقُلِ اسألوا.. فالسّؤال هو الإنسان..
أحسِنوا تعلّم القوانين لتُحسِنوا التّمرّد عليها.. هذه الحكمة – عندي – تحريض (حضّ) على المعرفة؛ فحبّ المعرفة، وامتلاكها، والتّمكّن منها، والسّيطرة عليها، في أيّ مجال، يُكسبنا الشّرعيّة، الذّاتيّة الخاصّة والعامّة، للتّمرّد عليها وإعادة صياغتها، في إطار المنطق السّليم لا السّقيم، وفي إطار اللّباقة، والذّوق، والحقّ.
ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
الصّيّاد
كثيرًا ما يقرأُهمُ الصّيّاد يكتبون الاسم الجميل، لِينة (بالتّاء المربوطة)، لِينا (بالألف القائمة)، خطأً؛ فإنْ هي إلّا لِينة (بالتّاء المربوطة)، وهي كلّ شيء من النّخلة سوى عجوتها. وقد جاء في القرآن الكريم: “ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ”.
ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
لذوي الاختصاص ومحبّي اللّغة: بيان إضافيّ في شأن “أيّ” و”أيّة”
جاءنا سؤال يسأل فيه صاحبُه عن حال “أيّ” المشدّدة في حال إضافتها إلى مؤنَّث، فهل تبقى على حالها أم تتحوّل إلى حال أخرى، فهل نقول، إذًا، مثلًا: أيّ بنت، أم أنّنا نُلحقها بتاء التّأنيث فنقول: أيّة بنت؟
وجوابنا عن هذا السّؤال أنّ الوجهين جائزان بوجه عامّ، رغم أنّ بعض المتأخّرين أنكر تأنيثها، علمًا أنّ تذكيرها، أو إبقاءها مذكَّرة (بدون إلحاقها بتاء التّأنيث) أعلى وأفصح.
وبيان تذكيرها، سماعًا، أنّنا لا نجدها في القرآن الكريم إلّا مذكَّرة وإنْ أضيفت إلى مؤنَّث: “وما تَدري نَفْسٌ بأيِّ أرضٍ تموت”، “ويُريكُمْ آياتِهِ فأيَّ آياتِ اللهِ تُنكِرون”، “فبأيِّ آلاءِ ربِّكَ تَتَمارى”، “فبأيِّ آلاءِ ربِّكُما تُكذِّبان”، و”في أيِّ صورةٍ ما شاءَ رَكَّبَك”.
أمّا بيان تأنيثها، سماعًا، فقولُ الشّاعر: “إذا استُنجِدوا لم يَسألوا مَن دَعاهُمُ / لأيّةِ حربٍ أم بأيِّ مكانِ” وقول الكُمَيْت الأسْدِيّ: “بأيِّ كتابٍ أَمْ بأيّةِ سُنّةٍ / يُرى حُبُّهُم عارًا عليَّ ويُحسَبُ”؛ إلّا إذا اعتبرنا تأنيثها في هذين البيتين وغيرهما ضرورة شعريّة، والله – تعالى – أعلم.
وأمّا تأويل تذكير “أيّ” إطلاقًا، من باب القياس، فهو القول إنّ “أيّ” اسم “يصدُقُ على كلّ شيءٍ في الموجودات، عاقل، أو غير عاقل، ذكر، أو أنثى”. وبناءً عليه، ذُكّر لفظُه في جميع الأحوال، وشأنُه في ذلك شأنُ “مَن”، مثلًا؛ حيثُ هو اسم على صورة واحدة، مع أنّه يقع على المؤنَّث كما يقع على المذكَّر.
ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
وحديثنا، أبدًا، عن لغتنا ونَحْن!
(الكاتب دارس عاشق للّغة العربيّة، مترجم، ومحرّر لغويّ؛ الكبابير / حيفا)