أحمد فؤاد نجم: نجمٌ وما هوى.. نجمٌ وما أفَل..!/ أسعد موسى عَودة
|أسعد موسى عَودة| قليلًا ما تُنصِف الأسماءُ حامليها، فن […]
|أسعد موسى عَودة|
قليلًا ما تُنصِف الأسماءُ حامليها، فنقول: اسم على مسمًّى.. وكثيرًا ما يظلمها حاملوها، فنقول: سمّوه وما أنصفوه.. ولكن أن يُنصف اسم ثلاثيّ صاحبَه ويُنصفه صاحبُه نحو خمسة وثمانين عامًا، لهو ضرب من الخيال، أو من النّوادر الّتي غالبًا ما لا يجود بها الزّمان على مكان. ولْينظر كلٌّ منّا إلى اسمه ورسمه ونفسه ليتبيّن حقيقة ما أقول.
فهو أحمدُ بحقّ، وفؤادٌ بحقّ، ونجمٌ بحقّ أيّ حقّ؛ هو أحمد وخير الأسماء ما حُمّد، وقد استحقّ الحمد أيّ حمد وسيستحقّ. وهو الفؤاد الّذي هو ليس مجرّد القلب، بل القلب بما علق به من حبّ وتعب.. وألم وأمل.. وفرح وترح.. وغيرها من شواغل الحياة، وهل كان هو غير فؤاد المسحوقين بما علق به وبما تعلّقوا به، وإذ سيظلّ هذا الفؤاد نابضًا شعرًا وحبًّا وقوّة ورجاء، يبعث في هؤلاء الحياة على مَرّ الحياة ومُرّ الحياة. وهو نجم وأيّ نجم ساطع، وبرهان قاطع، وقول لاذع، لذّةً للقارئ والسّامع..
عاش ومات ضميرًا متوقّدًا وروحًا ثائرة، وما في يده أو من وراء جلبابه إلّا عقله وقلبه وقلمه ولسانه، ينظر إلى الدُّنيا الدّنيّة من علٍ، من فوق السّطوح، فيرميها شعرًا ينزل بردًا وسلامًا على القلوب المتعطّشة المتهيّئة لاستقباله، وينزل حميمًا وسِياطًا على الضّمائر الميّتة والنّفوس المثخنة بالمادّيّة المتعفّنة، علّها تستحي وتحسّ.
أحمد فؤاد نجم من أهمّ وأبرز وأعمق وأغزر شعراء العامّيّة المَحْكِيّة في مصر والعالم العربيّ والعالم، إن لم يكن أهمّهم وأبرزهم وأعمقهم وأغزرهم، وأذيَعهم صيتًا وأعلاهم صوتًا وألذعهم سوطًا. تنظر إليه وفيه، هيئةً وشعرًا ونبوغًا وحضورًا، فترى مصرًا كلّ مصر، بنيلها وترابها وناسها وأجناسها؛ مصر الّتي أقامت حضارة نوّرت للعالم، كما نوّر أبو نوّارة العالم شعرًا حرًّا فصيحًا صريحًا يقاوم ولا يداهن؛ مصر الّتي بنت المعابد وأقامت الأهرامات العجائب، كما أقام أحمد أهراماتٍ من الكلمات تناضل وتحارب؛ مصر الّتي كتبت على الحجارة وعرَفت التّوحيد، كما عاش أحمد المصريّ العربيّ كريمًا كالحجر، فكان حجرًا وقبض حجرًا ورمى حجرًا؛ مصر الّتي غنّت ورقصت للحياة، كما رقّص أحمد الحياة وغنّاها وأغناها.
أحبّ أحمد فؤاد نجم أن يتسمّى الفاﭼومي (الأفجم)؛ ومعناه، لغة: من في شِدقه غِلَظ؛ ومعناه، اصطلاحًا: سَلْط اللّسان ولاذع النّقد. وهكذا كان أحمد فؤاد نجم وسيظلّ، فعلًا؛ “يقول للأعور أعور في عينه”، ولا يخاف في الحقّ لومة لائم، ويقول كلمة الحقّ عند سلطان جائر، وهو أفضل الجهاد؛ كما علّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
في زيارتَيّ العميقتين لمصر لم يتسنّ لي لقاؤه.. وما نفعُ النّدم؟ إنْ هو إلّا العدم..! غير أنّي أرجو أن أعوّض عن ذلك بأن يتسنّى ليَ البحث في منجَزه الشّعريّ الخالد خلود الحرف والحجر. حيث سنقف عندها بعمق على لغته وأسلوبه وروافد شعره وأدواته، الّتي نجح – من خلالها – في تشكيل وعي النّاس واحتلال الحواسّ.. بكلمة حقّ شعريّة أزليّة أبديّة، ودونه كلّ احتلال باطل وزائل.
أمّا، الآن، فلْنردّد معه، معًا، زيارته لضريح جمال، حيث قال:
“فلّاح قليل الحيا
إذا الكلاب سابت
ولا يطاطيش للعِدى
مهما السّهام صابت
عمل حاجات معجزة
وحاجات كثير خابت
وعاش ومات وسطنا
على طبعنا ثابت
وإن كان جرح قلبنا
كلّ الجراح طابت
ولا يطولوه العِدى
مهما الأمور جابت”
ولْنردّد، مثلًا، ما غنّى له الشّيخ إمام:
“الخطّ دا خطّي
والكلْمة دي ليَّ
غطّي الورق غطّي
بالدّمع يا عْنيَّ
شطّ الزّتون شطّي
والأرض عربيّة
نسايمها أنفاسي
وِتْرابها من ناسي
وِان رُحت أنا ناسي
ما حتنسانيش هيَّ
الخطّ دا خطّي
والكلْمة دي ليَّ”
نعم يا أحمد! إنّه خطّك وهي كلمتك وهو شطّك ولن ينساك ولن تنساك ولن ننساك.. وهل ينسى عصفور غديره؟! وهل ينسى حرّ ضميره؟! وهل ينسى جواد صهيله؟!
تابعناك وغنّيناك.. وسنظلّ، الآن، أكثر فأكثر وأكثر… فنم وتبختر..
ألا هل بلّغت؟ اللّهمّ فاشهَدْ!
وحديثنا، أبدًا، عن لغتنا ونَحْن!
(الكاتب دارس عاشق للّغة العربيّة، مترجم، ومحرّر لغوي؛ الكبابير/ حيفا)