أمام لوحتك الأخيرة/ أنوار سرحان

|أنوار سرحان| وجهُك الذي يقاسمني الوسادة، صوتُك إذ يعشّ […]

أمام لوحتك الأخيرة/ أنوار سرحان

|أنوار سرحان|

وجهُك الذي يقاسمني الوسادة، صوتُك إذ يعشّش بين نبراتي، ظلّك الذي يحتلّ معظم مقعدي، صورك إذ تطلّ إليّ من المرايا، كلّها اعتادت أن تلحّ عليّ غصّاتٍ تناسلت من صرختي التي كتمتُها عند موتك..

لم أبكِك يوم سُجّيتَ ها هنا. لم أصرخ ولم أذرف دمعاً.. نظراتُهم ما زالت تلاحقني بألف سؤال: كيف ملكتُ أن أبدوَ بتلك القسوة إذ أمنع عمّتي من قول “يا ويلي”؟ قلتُ لها: “أذكري الله وهلّلي، قولي الله يرحمه. نيّاله على هالموته”..

بوّاب المدرسة ما زال كلّما رآني يخبط في وجهي ثورةً لعلامات استفهامٍ تتقافز منتفضةً.. كان التقاني بعد موتك بنصف ساعةٍ والخبر قد رجّ أهل القرية، وفجّر لغماً في المنطقة بأسرها، فلم يفهم وجودي في المدرسة صلبةً في مثل هذا الوقت الذي يبكيك فيه الجميع، والذي يفترَض أن أنهار فيه ليواسوني. وكنتُ أسرعت إلى ابنتي أهيئها قبل أن تعرف أنّك متّ ولم تنجح محاولة إحيائك.. أردتُ لها أن تراني قويةً لتركّز في امتحانها. صفع ظهري بسؤاله وأنا أصعد الدرج: “كيف الختيار؟ شو صار معه؟”

“الختيار أعطاك عمره”- دحرجتُ له إجابتي وتابعتُ سيري إلى ابنتي .

احتضنتها بثقةٍ وهدوء: “إن كنتِ تحبّين جدّك أهديه نجاحًا وتفوّقًا كما اعتدتِ”..

ربّما حسبني ذاك الرجل مجنونةً.. أو عاقّةً لأبٍ لا أستحقّه، أبٍ يبكيه كلُّ من عرفه وأتماسك أنا. لم يفهم أنّي خرجتُ من البيت لألحق بروحي التي فرّت مني تسابقني فسبقَتني، كما لم يعِ أني كنت أؤدّي مشهداً مسرحياً طالما تدرّبتُ عليه لسنواتٍ..

نعم.. سنواتٍ عشت أستعدّ ليومٍ تموت فيه. ألف “بروفا” مثّلت، وألف مشهدٍ رسمتُ ليومٍ ترحل فيه عن هذا العالم، فأرتدي ثوبَ الصّلابة وأختال في دروب الرزانة ..

هل تذكر إذ سألتني فيما تناولنا “الكبة” قبل رحيلك بأيّامٍ، لمَ لم أعرض عليك نصًّا جديداً؟؟ أجبتك مشاكسةً بأني أحضّر لمشهدٍ أقتلك فيه للمرة الألف.. ضحكتَ وقلتَ: “الموت بإيدك حياة”..

غريبٌ أمري.. كم من مسوّدة لنصوصٍ قتلتك فيها بأشكالٍ عدّة، حِكتُ لك فيها ميتاتٍ ملوّنةً متنوّعةً.. غير أنّ إحداها لم تشبه لوحة موتك الحقيقيّ. صديقي كان يقول إني أتمرّد على حبّي لك، كونه يفوق قدرتي على الحب؛ ربّما. وربّما أردتُ لنفسي أن أستعدّ لما حسبتُه الأقسى .

ليلتها كنتُ أرى الكونَ من خرم إبرةٍ ناعسةٍ إذ كلّمني سائلاً عني، قلتُ إني أكتب نصّاً يموت فيه أبي، وأرسلتُ له المُسوّدة ليراها.. وحده من أسمح له بالتلصّص على أفكاري بكراً عاريةً، قبل أن أسكب إليها مهارات كذبي المحسوبة فنّاً وأُستر سوءاتها بمراوغاتي. لم تمضِ ساعات خمسٌ إلا وخبر موتك يأتيني حقاً.. أخبرته بأنك متّ واقعاً لا نصّاً فباغته الصّمت وما زال.

حسناً.. هل أهمس لك بأني كنت فرحةً بحدسي؟؟ وأنّ تلذذي بنصّي كان يخاتلني في عزائك؟

لكني أعترف بغبائي؛ فمهما راودني هاجس موتك إلا أني لم أفكر للحظة بيومٍ يلي ذلك.. يومٍ يتبع يوم رحيلك فيبدو فيه العالم خالياً منك. إن شئت الصدق فالذنب ذنبك أولاً.. أنت من كنت مراوغاً في موتك وخدعتني..

لم تمرض كما اعتدتَ كلّ عام، لم تتناقص نسبة الأوكسجين في دمك ولم تستلقِ في العناية المكثفة ولا في القسم (د) في مشفى نهريا. لم يمهلنا الطبيب أياماً من الخطر تدقّ نواقيس الموت فنحمّص القهوة ونغليها سادة. لم تبكِ أخواتي فوق رأسك.. ولم أربّت عليهن بوقارٍ وأبثّ في أذنيك قرآني، وإخوتي يتغامزون بأنّي “محسوبة على فريق الرجال بالعيلة”. شيءٌ من هذا لم يحدث.. لم ينظر إليّ زوجي برضًى ليؤكّد نجاح تأثيره فيّ بعد هذي السنوات من تدريبي على قتل أحاسيسي، غدوتُ فيها قادرة على كبت الحبّ والحزن والتقنّع بالقوّة والصّمود؛ لم يحدث هذا أيضا..

فقد غافلتني ورحلت واقفاً منتصباً.. رحلتَ مستقبلاً صلاةً لفجرٍ كنتَ فرحاً فيه بعناق موتك.. قالت أمي إنك كنتَ تهلل وتكبّر قبل أن تسجد فلا تقوم..

علمتُ منها أيضاً أنك توقّعتَ موتك في آخر ليلةٍ لك، وأنّ رؤيا في منامك وشَت لك بعبورك من هذا العالم إلى عالمٍ آخر، وكنتَ سعيداً بها.. أوصيتَها وأوصيتَ إخوتي بما أردتَ.. ونسّقتَ لكلّ ما شئتَ أن يتمّ بعد موتك. قلتَ إنك قد تموت غدًا وإنك تودّعهم بحبّ ورضى.. ولكنك لم تودّعني.. لم يخطر ببالك أن تبلغني بأنك راحلٌُ لأستعدّ.. وأنا لم أُبدِ عتبي عليك أمام أحد.. حتّى أصدقائي إذ تدفّق قلقهم عليّ صوتاً أو حضوراً، طمأنتَهم أنّك متَّ أثناء صلاتك.. متَّ ميتةً رائعة “تُحسَد عليها”- قلتُ، ولم أقل لأحد إنها الميتة الوحيدة التي لم أرسمها لك..

قالت أمي إنك كنت راضياً عني كثيراً وقلتَ إن لم تمُت في الغد فستزورني (لكنّك متَّ ولم تزُرني).

هي ستضحك مني الآن كما اعتادت، إذ أعود وأقول إني كنتُ عند أبي.. ينبغي أن أقول إنني كنت أزور القبور لأنّ روحك لم تعد ها هنا- تقول..  ستسألني ساخرةً: “كيف شفتيلي أبوكِ اليوم؟” وأجيبها بوقاحتي: “شارة ضوئية، ماشالله عليه”.. لن تدرك أني بتّ أراك في هذه الحبقة والنعنعة الخضراء اليانعة، وأن هذا التوليب الأحمر فوق قبرك يجعلني أراك تعود شاباً، بل وعاشقاً أيضاً. لا تخشَ شيئاً (يابا)! لن أفشي أسرارك إن كنتَ تخون أمي مع حورٍ عين..

طوال ذاك اليوم كنت أحدّق فيك مسجّى أمامي.. وأبتسم.. تصوّرتك ستستيقظ بعد ساعاتٍ قليلة أو ربّما يوم أو يومين..

كنتُ على يقين بأنك ستعود حيًّا كما عودتَنا كلما نقصك الأكسجين .

وربّما تسافر معي مجدّداً لأداء العمرة.. ونشتري مسك “العربية” وعطور “عبد الصمد القرشي”.. وسأصرّ بتحدٍّ أن المسؤولين في الكعبة ينفّرون عن الإسلام.. وأنّ  نظرتهم للمرأة تغتال الإيمان وتنثر أشلاءه، وتدبّ الحياة في الردّة. وستبتسم مداعباً لتنثر بعض الطراوة: “طيب بس مين عجبك أكثر العربية والا القرشي؟؟”

كنتُ على يقينٍ من عودتك، ربّما لنحتفل بعيد الحبّ.. وتغضب أمي من دون سبب كعادتها، وتتدفق اعتراضاتها على ضحكاتنا.. فأغمزك بخبثٍ لاستفزازها.. حتى تشتمني: “إنّ من أولادكم فتنةً لكم”.. ونضحك.

انتظرتك طويلاً ولم تأتِ.. مرّت أيام وشهور.. وها سنتان وأكثر تمزّق انتظاري.

فهل يبدو الموت ساحراً هذه المرة حدّ أن يخطفك ولا تسعى أن تعود رغم كلّ ما بي من الشوق إليك؟ طيب لا بأس.. خذ راحتك واذهب أبي، اذهب ما شئتَ لكن دعنا نتفق: إما أن تعود حقّاً وإما أن تكتفيَ بقبرك وتغادرني للأبد، وتخليَ لي قلبي فقد تعبتُ منك.. أحتاج قلبي للحياة أبي.. أحتاجه بقدر ما أحتاجك.. وأشتاق لفرحه قدر ما أشتاق لك.. بل ربّما أحتاج أن أحبّه قدرما أحبّك أيضاً..

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>