لعنات نيسان.. ندم أبريل/ راجي بطحيش
|راجي بطحيش| نيسان/أبريل… أكاد أسقط.. ليلاصق ظهري […]
لعنات نيسان.. ندم أبريل/ راجي بطحيش
|راجي بطحيش|
نيسان/أبريل…
أكاد أسقط.. ليلاصق ظهري التراب وتبقى عيوني جاحظة تتأمل الشجرة المتراقصة في حديقة الأطفال وكأنّ شفتيّ تقولان: لم يعد الجسد الهرم ينفع يا رجل. لن يعود اللسان ليتحايل على الوهن بعد. تفقد المهدئات في نيسان فاعليتها قد تسترد المهدئات في أبريل فاعليتها لبرهة ثم تندم.
أستلقي على الأرض المبطنة بالأسرار. ماذا دهاك أيتها الريح الغادرة، البذيئة، الوقحة؟ تخطر على بالي أغنية لا أعرف من أين أتتني فجأة. كنا نسمعها ونحن صغار عندما كانت الهوائيات المتحفية تلتقط التلفزيون الرسميّ السّوريّ على استحياء:
سوريا يا حبيبتي أعيدي لي كرامتي أعيدي لي حريتي
لقد أعجبتني وقتها الجرأة في الطرح المباشر: بمعنى التوجّه المباشر “لسوريا” كامرأة وأم وطلب شيئا منها.. شيئا حادا وبدون “لف ودوران”. ولكنني لم أعرف مرةَ: هل كان فعل الأمر “أعدي لي كرامتي”، أو “أعيدي لي كرامتي”.
فالفرق بين الأمرين شاسع وتترتب عليه إعادة النظر في الطفولة بمجملها؛ فقد تكون الحرية التي نتوق إليها مسجونة في مكان ما لا نعرف. يسمعني طفلي وأنا أتمتم الأغنية الغرائبية والتي لا يوجد لها أيّ تبرير وطني أو تاريخي شخصي حاليا. فأنا بالكاد أدرك كيف سأسدد أقساط كل شيء لا أمتلكه، كي أفكر في مصير أحلام سوريا الكبرى. ينفذ الطفل طوافا رمزيا حول جثتي التي تحاول عبثّا أن تكون هامدة.
أنظر إلى الطفل المهرول من حولي بإصرار. يشع وجهه من بين العتمة غير المفهومة.
أحاول أن أتعالى على روحي المهشّمة بفعل لعنات نيسان التي بدأت كالكذبة منذ اليوم الأول.
- هيا إلى الأرجوحة
- لا أريد أرجوحة.. أريد حصانا حقيقيا يدور حول شجرة
- ولكن الأرجوحة أبهى وألوانها زاهية تذّكر بقوس قزح
- هذه الأراجيح متهتكة ودهانها مقشر ويتساقط منذ أن اخترع البريطانيون حيفا…
أنهض من بين أشواك العشب الرطبة، ألملم أشلائي المترامية حولي بقطر متسع. نبدأ رحلة البحث عن حصان تائه على كتف الكرمل.
هنالك رائحة شجر أو عشب في حيفا يتفجر في نيسان لا يمكن وصفه. رائحة خيانة عذبة. فلنقل إنها نيسانية.
***
أقوم في اليوم الثالث. أجد حول السرير قوافل من الموتى بانتظاري. أولهم أنا، أبي، جدتي، عمي سهيل، عمي ميشيل، ياسر… أنفض عن بدني غبار العتمة.
تفقد المهدئات في نيسان فاعليتها. قد تستردّ المهدئات في أبريل فاعليتها لبرهة ثم تندم.
يقف القط على صدري بأرجل مستقيمة ومنتصبة. يتأملني بلؤم شديد. أكاد أبكي وأقول له (لولا أنّ الحقيقة تصفعني كل دقيقة لقلت إنّ هذا القط يسمعني ويتكلم)، حتى أنت يا هذا سكنك شر الأيام الأخيرة. ألا يكفي ما أشتري لك من طعام؟ ألا يكفي أنني أحميك من قطط الحقول والفئران والأفاعي وأولاد الحيّ الذين يتقننون فن التنكيل بالقطط وحيوانات أخرى؟ ألا يكفي أنني علمتك كيف تقفز من النافذة وتفرّ هاربًا عندما أعلن احتياجي لك بصراحة؟
حتى أنت يا هذا سكنك شر الأيام الأخيرة؟
وكآبتها المرتبكة،
وريحها الغادرة،
وحرّها السمج،
ومساكن أرقها،
وارتجاج الأبدان فيها،
وتعرقها،
وغصّة القلب في لياليها،
وملامسة موت قريب،
والرغبة في الاستلقاء على عشب أخضر رطب ومضاجعة الغياب.
وصب الأسيد على ضوضاء الرأس لإخمادها.
أتعرق في مساء اليوم الثالث، الرابع من نيسان أو أبريل لا يهم؛ ألهث، ينبض قلبي بعنف، أشعر بالبرد أحيانا وبالعجز أحيانا كثيرة وبأنني لا أقوى على كل ما أقوم به بعد. كل ما أنا وما أمثله. تلك الفقاعة التي قد تنفجر بوجهي كل لحظة. برصاصة.
ستزحف الدماء على شاشة حاسوبي بعد ذلك بقليل.
(لروح جوليانو مير خميس الذي التقيته مرة واحدة فقط كانت تكفي لأشعر بالهلع قبل قتله بقليل- ربما كان ذلك من قبيل المبالغة الدرامية.. أو أنها أجواء عامة معتمة لا تبشر بالخير الوفير)