عن الذرة، والكاميرا، والشيطان/ أنس أبو رحمة
وفي المساء صنع الطفل لقافة. وفي الصباح رمى الطفل الشمس بلقافته، “سأوقعك كما أوقعتني”. ورماها بالحجارة والشوك. “سأسقطك عن سرجك يا عا….” ورماها. “سأوقعك”، وأرسل.. “سأوقعك”، وسيلحسك الشيطان.
عن الذرة، والكاميرا، والشيطان/ أنس أبو رحمة
|أنس أبو رحمة|
أمي تبيع الفجل في حسبة رام الله. تزرع الفجل في حديقة بيتنا وتبيعه للغرباء. تبيعه لآكلي الفجل. الفجل لمن يأكله، وألذرة لمن يجد امرأة تأكله معه.
اقتربتُ مني، اقتربتُ منها، واقتربنا، وسافرتْ لتكملَ دراستها.
البحر أعرفه من النشيد. أمي تزرع الفجل وتبيعه. وأنا أدرس الأدب العربي في الجامعة. وهم يزرعون الإسمنت في حدائق السرو، وفي الأغاني، وفي الأحلام.
والفجل لا أحد يزرعه سوى أمي. قليلات يزرعن الفجل مثلها.
والبحر لا أعرفه. أراه في الكتب، وفي التلفاز، وفي المذياع.
أراه في رأسي لكنني لا أعرفه. الرؤيا ليست المعرفة. الرؤيا حلم. المعرفة سباحة. المعرفة شرب. المعرفة غرق. المعرفة شورت وامرأة تجر على الرمل أشلاءها. المعرفة معرفة.
سأذهب للنوم.
سأهرب للنوم.
سأنام.
وفي الصباح سأحمل كاميرتي وأسافر إلى المعنى. وفي الطريق سألتقط ما تيسر لي من صور وشظايا.
“لي كاميرتي، تطعمني الخبز، وتعلمني في الجامعة، وتدخلني النفق”.
ولي
شِعري الذي أكتبه، يكتبني، أو نكتبه. ولي رؤياي: كاميرا، شجرة، أو فرس، تطعمني الهواء وتعلمني الرقص وتدخلني النفق. أهم ما في الأشياء أن تدخلنا النفق، النفق هو الأهم، والخبز أيضًا.
• • •
مقهى. صبح. مقهى.
وحدي هنا.
وحدي أشرب الشاي.
وبعد أن أنهي ما في الكوب سأشرب ما في الكوب الآخر، وبعد أن أنهي ما في الكوب الآخر سأعود إلى ما في الكوب الأول، هكذا هي الحياة، كوبان في كوب، قصتان في قصة، امرأتان في امرأة، قصيدتان في قصيدة، و حلمان في حلم. وهي غادرت ونحن نمشي في حلم.
ماذا بعد؟
هذا سؤال لا يعنيني.
الأسئلة كلها لا تعنيني.
سوف يأتي في التاسعة، وسيأخذني لأقابل رئيس التحرير، سوف أشتغل مصورًا، لي كاميرتي كما أخبرتُكم، وهي.. وأنا كنت اشتغلتُ مصورًا لسنين طويلة، أصور وأدرس وأكتب الشعر، وأُسمي نفسي فأرًا في الصباح, واشرب البابونج أيضًا.
أتى، وأخذني، واشتغلتُ من جديد بعد أن كنت طردت من عملي السابق في استوديو صغير، طردت. قلت للمرأة التي كنت أصورها بأنها أجمل من أن تصورها كاميرا، قلت لها كيف تتركين كاميرا تصورك؟ صوِّري نفسك يا عزيزتي، أو دعيني أصورك أنا. الكاميرا نفق. الكاميرا بئر. الكاميرا باب. الكاميرا فراغ لا أكثر ولا أقل.
وشكتني لصاحب الاستوديو، قالت له بأنني أطلبُ منها أن أصورها؛ “يريد أن يصورني بلا كاميرا، إنه ابن حرام”. وطردني، طردته، طردنانا.
واشتغلتُ مصورًا في جريدة، أصور بعد الجامعة وقبلها، أُنزّل دروسا قليلة لأصور أكثر، لأعيش أكثر، وأمي تبيع الفجل، الفجل كاميرتها إلى الخبز، وأنا الكاميرا كاميرتي إلى الخبز، والخبز لا كاميرا له إلى نفسه.
وأنا أصور كل شيء: لقاءات صحفية وفود أجنبية ورجال سياسة وفنانين ومثقفين ومدن، وطوب وشبابيك وشجر ومستوطنات وحواجز وجنود، وشهداء. أصور شهداء، أصور دمًا، وبرقوقًا.
ليل.
جنود.
قمر فوق. قمر تحت.
أصور القمر كثيرًا, أصوره لي، لا للجريدة.
• • •
وأرسلتْ لي من اسبانيا:
“عزيزي،
كيف أنت، دراستك، عملك، قمرك، كاميرتك، والذرة التي تشتهي.
أنا هنا سعيدة, دراستي الأدب تجعلني إلهة،
ودراستي نفسي تجعلني مايسترو.
الفرق بين الاله والمايسترو؟
إنني لا اعرف شيئا.
في رأسي ذئب، اليوم رأيته، من أين أتى؟
في رأسي قصيدة لا تريد الخروج.
في رأسي قمح، أصفر وناضج.
رآني اليوم عصفور، هجم على رأسي يريد القمح.
كيف سارميه من رأسي، ظل يطير ورائي وأنا أركض في حقول قرطبة، ظل يطير، ظللت أركض، ظل القمح فيَّ، أخرج يا ابن الشر..، أخرج من رأسي كي تأكلك العصافير.
لم يخرج، وأنا إلى الآن أهرب، اطير، وأتنطط بين الشوك والسناسل.
في رأسي قصيدة لا تريد الخروج.
في رأسي ذئب.
في رأسي قمح.
سلام. إسبانيا.”
• • •
سقط طفل صغير. لامس العشب والتراب. لحسه الشيطان. الطفل لحسه الشيطان. ونحن صغار كنا نقول: “لحسها الشيطان”، عن “الخبزة” التي تسقط على الأرض، ولم نكن نأكلها بعد ذلك.
الطفل ضربته الشمس. لعبَ كثيرا في الحارة فضربته الشمس. وسقط مغميا عليه.
صرخ الأطفال. هاجوا. نادوا الجيران. نادوا الاسعاف. نادوا الله في سرارئهم.
وأتى الله، واستفاق الطفل أمام دكانة أبو علي بعد أن بللته خديجة بماء بارد.
وفي المساء أكلَ الطفلُ الحلاوة مع إخوته، وأمه.
وفي المساء زاره أصدقاؤه محملين بالهدايا.
في المساء لعب مع أصدقائه بالكالات والنرد، وغنوا مجتمعين تحت القمر:
ع التفاح اللفاح
يا قلايد يا ملاح.
وفي المساء صنع الطفل لقافة. وفي الصباح رمى الطفل الشمس بلقافته، “سأوقعك كما أوقعتني”. ورماها بالحجارة والشوك. “سأسقطك عن سرجك يا عا…” ورماها. “سأوقعك”، وأرسل.. “سأوقعك”، وسيلحسك الشيطان.
سيلحسك الشيطان.