على الطائر الميمون، بين فيينا وبرلين
كان من الغباء بمكان أن أشاهد فيلم “رحلة 93″ […]
على الطائر الميمون، بين فيينا وبرلين
الفيلم يشدّ الأعصاب، ويروي القصة من مكانين ومنظورين فقط: مكتب مراقبة الطيران الأمريكية والطائرة نفسها، التي استعاد كاتبو الفيلم ما حدث خلالها من خلال المكالمات التي جرت من الطائرة إلى أقرباء المسافرين، بواسطة الهواتف الموجودة في الطائرة. القصة الأساسية التي ترشح من الفيلم هي قصة العجز المطلق الذي ميز ذلك اليوم، من خلال المباغتة التي ألحقها الخاطفون بالمؤسسة الأمريكية، حيث بدا واضحًا عجز وتبلبل المسؤولين عن تسيير الرحلات الجوية في معرفة أية الطائرات اختطفت وأيها لم يُختطف، وكانوا هناك، في المركز، يرون الطائرات أثناء تحطمها في نيويورك والبنتاغون.
لم يكن ذكيًا بالمرة أن أشاهد هذا الفيلم قبل عدة ساعات من ركوبي للطائرة متوجهًا إلى برلين، وطوال مدة الرحلتين، من تل أبيب إلى فيينا ومن فيينا إلى برلين، كنت أنتظر اللحظة التي سيقوم فيها أحدهم ويصرخ وهو يكشف عن علبة بلاستيكية مربوطة إلى خاصرته مع بعض الأسلاك: “قنبلة! قنبلة!”.
ولكن أحدًا لم يقف ويصرخ، وكنتُ أنا الوحيد الذي دخل الطائرة متأخرًا، لاهثًا، متعرقًا، يستقبل نظرات الجميع المستائين، الذين كانوا ينتظرون حضوري كي تقلع الطائرة.
“سيمياكي” حتى الموت!
والقصة أنني تبضعت قليلا في الديوتي فري في تل أبيب، وهي فرصة كي يشتري المرء قليلا من العطر والسجائر والكحول بأسعار لا تقصم الظهر، بل تحنيه بعض الشيء. إلى الطائرة أخذت معي قنينة العطر المعلبة التي اشتريتها بتوصية حارة من الرفيقة أم محمود، التي استعانت بجملة غير مهذبة تدور بين نساء القوم الصامدات في الوطن، تشير إلى فاعلية وجاذبية هذا النوع من العطور، في تأثيرها الكبير على النساء وجذبهن إلى الرجال (“سيمياكي”- لمن يهمّه الأمر). طبعًا، أم محمود أوضحت في نصها الخبيء (السَّبْ تِكْسْت) أنّ هذه المحفزات الإنجذابية لها وحدها، وأنا قبلتُ هذا التوضيح من دون نقاش خوفًا من اندلاع معركة ملتهبة ستفتح فيها لا شكّ تفاصيل تاريخي “العلاقاتيّ”، مع ما يرافقه هذا الفتح من شتائم وتشهير وقذف بالنساء اللواتي احتملنني مرة قبل أن أتعمد بمياه الزواج المقدسة.
حطت الطائرة في فيينا بسلام، وأنا أتلو ما تيسر من مزامير وابتهالات وأدعية. عند وصولي إلى الفحص الأمني قبل دخول الطائرة قالت الموظفة النمساوية بألمانية عسيرة إنّ علبة العطر التي معي حجمها 125 مليلتر، وحسب القوانين الأوروبية يُسمح لي بالصعود إلى الطائرة مع علب تحوي سوائل لا يزيد حجمها عن 100 مليلتر. قصة مبدأ. لم أكن بحاجة إلى معرفة الألمانية كي أفهم الأرقام التي صفعتني وهي تشير بسبباتها العذبة نحو الرقم المطبوع على أسفل القنينة، ولكنني، وكما أفعل دائمًا في مثل هذه المواقف، ارتديت قناع البلاهة، وجنّدتُ نظرة الفلسطينيّ المعذّب في الأرض والذي سيبكي للتوّ، وسألتها ببراءة ابن أخي عمري، ابن السنة والشهر الواحد: “excuse me?” كانت إنجليزيتها مثل فرنسوياتي، ولكنني استمريتُ بالبلاهة المصطنعة، وشرحتُ لها بإنجليزيتي “العَرَفاتية”: “I just bought it. Very nice.” لم تهتم النمساوية العنيدة وشرحت لي مجددًا عن القوانين الأوروبية الجديدة التي تمنع اصطحاب سوائل إلى الطائرات إلا إذا شُريت وخُتمت بالشمع الأحمر في إحدى دول الاتحاد الأوروبي. الحلّ الوحيد الذي اقترحته هو إلقاء قنينة العطر في سلة المهملات الكبيرة التي وقفت خلفها، سوداء، بلاستيكية، مغلقة، تحوي لا شكّ عشرات قناني العطر والكحول التي سيتقاسمها هؤلاء النمساويون الاستعماريون في نهاية اليوم، فكبرتْ في رأسي، وصرختُ في نفسي المعذبة: “علينا يا مندلينا”؟؟! ثم ترجمتُ لها ما قلته لنفسي فورًا: “Can I see the manager please?” عندما أحسّ باقي رجال الأمن الشقر باحتدام المعركة، تحرجموا حوالينا بفضول، فأدركتُ أنني بتّ في قلب معركة ضارية مع الاستعمار اللعين، فاستجمعتُ ما تبقى ما شجاعتي المهزوزة، وتذكّرتُ ما قاله جدي عنترة العبسيّ في ساحة الوغى، حين تخيلتُ وجه أم محمود وهي تسمع خبرية فقدان عطرها المفضل في أوروبا الاستعمارية: إذا قنعَ الفتى بذميمِ عيشِ / وَكانَ وَراءَ سَجْفٍ كالبَنات لم أكن أتوقع صراحة أن يكون “المدير” امرأة غاية في الدماثة واللطافة، كلمتني بأدب جمّ امتصّ جامّ غضبي، فتراجعتُ عن السّيوف والدّفوف، وعدتُ إلى استراتيجية الفلسطينيّ المعذب، وقررت أن أفتح لها قلبي، فانبريتُ بحماسة: “I just bought it here… My wife loves this so much.” كانت هذه استراتيجية مزدوجة: أن أجعلها تشعر بتأنيب الضمير لأنها ستجبرني على التنازل عن عطر اشتريته للتوّ، فأنا عدتُ بالفائدة الاقتصادية على بلدها (مع أنني اشتريتُ العطر في تل أبيب- ولكن الكذب في هذه الحالة أكثر بياضًا من شعر جون ميكين)؛ وثانيًا: أنها ستتعاطف معي بسبب البعد الرومانسي الواضح في قصتي، ولا شكّ أنها ستتعاطف مع هذا الرجل الشرقيّ المُستميت من أجل إرضاء ذوق زوجته، وستتذكر لا شكّ جميع المرات التي اشترى فيها زوجها هدايا لها تحبها أو أنه اشترى العطر الذي تحبه، كي تحبه أكثر، فأجابتني: “Please sir, you can’t get to the plane with this. This is final!” أسقط في يدي! لم أحتمل الصدمة، فأمعنت النظر في علبة العطر الجديدة. ثم اكتشفتُ أنّ جميع الحراس، وبضمنهم المديرة، ينظرون إليّ صامتين، فقلتُ: “ولعت”، فأمعنتُ النظر أكثر، حتى سمعت المديرة تقول بحنية: “You can send it by the post to your self.” نظرتُ إلى عينيها مليًّا. لمحتُ فيهما بارقة أمل، فأعجبتُ بالفكرة، وأشارت لي نحو مكتب البريد في المطار، فانطلقتُ وأنا أسمعها تناديني: “don’t be late! You have couple of minutes…” وجدتُ نفسي أعدو نصف عدو، فالتجارب علمتنا أنّ منظر عربي يركض في مطار هو مشهد يمكن أن يثير بعض البلبة التي قد تؤدي إلى قضاء ليلتي في قبو مظلم. بعد لهاث وصلت مكتب البريد الذي كان مغلقًا طبعًا، حيث كانت الساعة الثامنة وعشر دقائق مساءً. وقفت وأنا ألهث وأتعرّق، ونظرت حولي. كانت مقابلي دكان “ديوتي فري”، ويبدو أنهم كانوا ينوون إغلاق الدكان، حيث رأيت موظفة تسحب بوابة حديدية كبيرة في إحدى زوايا الدكان. من دون تفكير وجدت نفسي واقفا أمام النمساوي الفارع وأطلب منه أن يلف قنينة العطر بكيس أمنيّ محكم الإغلاق، كما تتطلب الأوامر. وهنا كذبت كذبة بيضاء أخرى: “I bought this here 2 hours ago.” “No problem sir. Can I see the receipt?” بلّمتُ تبليمة لعينة، ثم قلتُ له إنني أضعتُ الوصل، فتبرّم، فألححتُ، فتبرّم، فأصرّيتُ، فنادى على المديرة، فجاءتْ، فاستعدتُ، فأصرّتْ، فاستزدتُ، فكشّرتْ، فذهبتُ. “Den shtraykhen fakhs?” حين وصلتُ البوابة كانت المديرة، غير الرومانسية، تلمّ أغراضها فقرعت الباب، فاستدارت، فرأتني لاهثا متعرقا، أستجير برمضائها، فلانت وفتحت الباب. كنتُ أحمل علبة العطر الموءودة، فناولتها إياها، فلمحت الاستفسار في عينيها، فقلت صاغرًا: “The post office was closed.” “Yes. I’m sorry. I forgot the time.” رافقتني في الممرّ الطويل المفضي إلى حضن الطائرة. كان باب الطائرة يُغلق ببثّ حيّ ومباشر، فرطنتْ بألمانية مخيفة أعادت إلى بالي جميع أفلام هوليوود عن النازية (وبعض أفلام البورنو الألمانية التي ترعرعنا عليها في قريتنا الوادعة)، ففتح سمسم البابَ. دخلتُ الطائرة لاهثا ومتعرقا. كان الجميع ينظرون إلى هذا الدخيل الشرقيّ، يحمل محفظته اللابتوبية ويبحث عن مقعده بخوف، وخلتهم سيصرخون على المديرة: “akhsen fakhsen enten awkh!!” حين أقلعت الطائرة نظرت عبر الشباك. كان المطر ينهمر ببطء رومانسي، وكنتُ أفكر في حال قنينة العطر السيمياكية-الشبقية، وخلت المديرة غير الرومانسية سترتدي الليلة البيبي دول الزهري الذي اشترته قبل 10 سنوات، وسترش نصف القنينة على زوجها المتشائل من هذه المفاجأة. للحظة شعرتُ ببعض الراحة والسرور بأنّ قنينة عطري النازحة ستبعث الدفء في فراش عاشقين عاطلين عن العمل، ونظرت بابتسام إلى الرجل الضخم الذي جلس إلى جانبي، يرفع يده الكبيرة صوب الأعلى ويضيء الإنارة فوقنا، فغزتني رائحة عرقه الحادة فانكفأت على وجهي وحبست أنفاسي. كانت هذه لحظة مؤلمة في تاريخ العلاقات الفلسطينية-الألمانية، ولم أعرف ما كان عليّ فعله، حين سألني مبتسمًا بثقة: “Den shtraykhen fakhs?”
وَلمْ يَهْجُمْ على أُسْدِ المنَايا / وَلمْ يَطْعَنْ صُدُورَ الصَّافِنات
ولم يقرِ الضيوفَ إذا أتوهُ / وَلَمْ يُرْوِ السُّيُوفَ منَ الكُماة ِ
ولمْ يبلغْ بضربِ الهامِ مجداً / ولمْ يكُ صابراً في النائباتِ
فَقُلْ للنَّاعياتِ إذا بكَتهُ / أَلا فاقْصِرْنَ نَدْبَ النَّادِباتِ
ولا تندبنَ إلاَّ ليثَ غابٍ / شُجاعاً في الحُروبِ الثَّائِراتِ
دَعوني في القتال أمُت عزيزاً / فَموْتُ العِزِّ خَيرٌ من حَياتي
كان عقرب الساعة يشير إلى الثامنة والربع مساءً، وكانت هذه دقيقة انطلاق الطائرة المفترضة، التي “هيك هيك” تأخرت ساعة كاملة، وكنتُ على مبعد خمس دقائق من العدو واللهاث، فعضضتُ بأسناني على دشداشي وبدأتُ السّعي، فسعيتُ.
من بعيد رأيتُ مدخل البوابة رقم “سي 53″، البوابة المفضية إلى شتاء برلين، وهو يُغلق، وبدأت للتوّ أحسب ما في جيبي من يوروهات، وإذا ما كانت تكفي للمبيت ليلة طويلة في فندق تساقطت نجومه منذ زمن.
3 أكتوبر 2009
لو عنك كان رشيت نصها علي كندرتي
22 نوفمبر 2008
قصتك أكثر شغلي ضحكتني اليوم.. ولا بأفلام هوليوود ما بيطلع معهن هيك سيناريو..
دمت ضاحكاً
10 نوفمبر 2008
إذا بحكي للبياع بس “سيمياكي” لحالو بيعرف؟
حلو كالعادة علاء
8 نوفمبر 2008
هاد أكبر دليل أنو شعبنا مستهدف في كل مكان…مممم
ببساطه…الله يكون بعونك، جميل يا رفيق جميل!
رائد
7 نوفمبر 2008
جميل ….. أضحكتني أكثر من مره
تسلم