عادل الحالم/ عادل زعبي
|عادل زعبي| كان عادل يجلس أغلب الوقت وحده، يتخيل أن كل […]
عادل الحالم/ عادل زعبي
|عادل زعبي|
كان عادل يجلس أغلب الوقت وحده، يتخيل أن كل شيء في حياته حدث بالمقلوب، فمرة كان يتصور أنه أب لأبيه، ومرة أنه هرّ لدى هرّته أو أنه دفتر رسم يمتلكه.
كان عادل يقابل كل من يشاهده بابتسامة منشرحة، فيبعث الحياة بكل من حوله. وكان محبوبًا جدًا لأنه أيضًا يلبّي طلبات الجميع من الأهل والجيران، وكان يحضر كل يوم، عند المساء، الماء والدواء لجدته العجوز التي أحبها كثيراً.
لم يكن عادل يفضل اللعب بالكرة أو صنع طائرة ورقية، كسائر أولاد القرية. بل اعتاد على قضاء أوقات فراغه في الأحراش المحيطة بالقرية، مستمتعًا بتسلق الأشجار ومراقبة الطيور، فصار متيّمًا بالطبيعة، وتمنى من أعماق قلبه، مرارًا، أن يصبح عالم طبيعة عندما يكبر.
وذات مرة بينما كان عادل يجلس على أحد الأغصان الكبيرة، سمع صوت سعال، فنزل عن الشجرة بهدوء، وبدأ يسير ببطء بين الأعشاب، إلى أن شاهد ثلاثة رجال. نظر عادل إلى وجوههم وتأكّد من أنهم غرباء عن قريته. اقترب عادل منهم أكثر فأكثر حتى صار بإمكانه سماعهم وهم يتحدثون، لكن هذا لم يُفده بشيء، فقد كانوا يتحدثون بلغة لا يفهمها. تنبّه عادل إلى وجود خرائط بأيديهم، ولاحظ أنّ أكبرهم سناً كان يشير بإصبعه باستمرار تجاه قريته، فارتاب عادل منهم كثيرًا، ولهذا حرص على أن يتسلل بهدوء من دون أن يلحظ أحد منهم وجوده.
عاد عادل إلى المنزل قبل الغروب بقليل، وكان كل شيء كالمعتاد؛ فأخته، التي لم يتعدَّ عمرها العام الواحد، نائمة. بينما كان أبوه مضطجعًا ليرتاح بعد يوم عمل شاقّ، وأمه منهمكة بتحضير العشاء. فجرى عادل نحو جدّته مباشرة، عانقها وقبّل يدها وقال:
- هل تفكرين بجدي، رحمه الله؟!
ابتسمت الجدة وقالت:
- بل أفكر بك يا أيها الشقي!
عانق عادل جدّته مجدداً وقال لها إنه شاهد غرباء في الأحراج يشيرون نحو القرية. أدهش الأمر الجدة وقالت:
- لا تقلق.علّهم من هواة السفر والتجوال.
قرأ عادل في عيني جدته بعض الارتباك، الذي لم يفهم سببًا واضحًا له، لكنه فسّره على أنه خوف جدته المتواصل عليه من الذهاب إلى الأحراج وحده.
وفيما كان عادل مستمتعًا بحديث جدّته عن جدّه وخصاله، سمع صوت أمّه تدعوهما لتناول الطعام. فنهض عادل وأمسك بيد جدته وساعدها على الوقوف، وسار بجانبها بسرعتها البطيئة جداً، رغم حدّة جوعه، حتى جلست قرب المائدة. تناول عادل وجبته بسرعة، وفور انتهائه شكر أمه على هذا الطعام اللذيذ، وطلب منها السماح له بحمل بقايا الطعام إلى الخارج لإطعام هرّته. وافقته أمّه وهي تبتسم ابتسامتها الرقيقة المعهودة له.
وعندما فتح عادل باب المنزل، حاملا الطعام لهرّته، فوجئ باندلاع حريق ضخم في الأحراج المحيطة بقريتهم. شعر عادل بخوف شديد وأحسّ بأنّ شرًا كبيرًا سيلحق بالجميع.
ركض عادل إلى داخل المنزل، وهو يصرخ: حريق.. حريق.. حريق هائل في الأحراش! انقبض قلب الأب وجرى ليحضر بندقيته وهو يقول بأعلى صوته: فعلوها أولاد ال… ولم يكد الأب ينهي جملته حتى سمع عادل جدته تقول لأبيه: كيف لهم أن يفعلوها ونحن لم نؤذِ أحدًا منهم؟ وما أن أتمت جدته كلامها حتى قُرع باب المنزل بشدة. ركض عادل نحو الباب، فتحه وإذا بالمختار يقف أمام الباب وخلفه عدد من رجال القرية. قال المختار بصوت مرتفع، من دون أن يلقي التحية كعادته: نحن في طريقنا لإخماد الحريق، هل ستأتي معنا؟ فقال الأب: أنا سأبقى هنا تحسبًا لوقوع أيّ طارئ. ربّت المختار على كتف الأب، وقال: لا داعي للقلق، فقد تعهد الغرب لأحد ملوكنا بهدنة طويلة. ابتسم الأب وقال للمختار: امضوا، فأنا أفضل البقاء على أن أصدّق الملوك.
وقبل ابتعاد المختار ورجال القرية، طلب عادل من أبيه السماح له بمرافقتهم- فالأحراج هي المكان المفضل بالنسبة إليه. وافق الأب بعدما وعده عادل بعدم الاقتراب كثيراً من النار. حمل عادل دلو ماء ومضى، تاركاً خلفه صوت أبيه يوصي المختار عليه. لم يعرف عادل لماذا انتابته رغبة شديدة بالعودة لتقبيل يد أبيه ومعانقته.
حثّ المختار رجال القرية على الإسراع إلى مكان الحريق، بينما طلب من عادل البقاء قربه قائلا له: أخشى أن يكون أبوك على حق! فصمت عادل، لكنه أدرك أنهم في مواجهة خطر حقيقي.
وفور وصوله مكان الحريق لاحظ عادل أنه لن يتمكّن من سكب دلو الماء على النار من دون الاقتراب منها، إلا إذا صعد على التلة المقابلة. تسلق عادل التلة بمهارة وحرص على ألا ينسكب دلو الماء أثناء تسلقه. وما أن وصل القمة حتى انتابته دهشة، إذ شاهد أن حريقًا آخر قد اندلع وسط القرية، وما لبث أن سمع دوي انفجار، عقبه صوت إطلاق نار وأصوات صراخ، ميّز من بينها صوت المختار وهو يصرخ: أهرب يا عادل.
نظر عادل حوله فشاهد مجموعة كبيرة من الغرباء يرتدون زيًّا موحدًا تصحبهم كلاب مفترسة، ويحملون البنادق. فصُدم من هذا المشهد، ولم يستطع منع نفسه من البكاء عندما شاهد مجموعة أخرى من الغرباء تقتاد المختار ومن معه إلى القرية وهم مكبلون بالأغلال.
تمالك عادل نفسه وأخذ يركض بأقصى سرعته بهدف الوصول إلى القرية قبل وصول الغرباء، ليتسنى له تحذير أهالي القرية من خطرهم، لكنهم سبقوه إلى القرية. تنبه عادل لذلك، وقرر الاختباء خلف صخرة عند مدخل القرية. فشاهد من مكانه أنّ كل أهل القرية يقفون في ساحة بيت المختار الواسعة، وكان الغرباء يحيطون بها من كل الاتجاهات. جال عادل بنظره بين أهل القرية لعلّه يرى أباه، فلاحظ أن جدته تعانق أمّه وهي تبكي. لم يستطع عادل مقاومة مشاعره تجاه أمه، فخرج من مخبئه وراح يركض نحوها، إلا أنّ الغرباء أمسكوا به واقتادوه إلى الساحة، وقد لفت نظره أن الرجال الثلاثة، الذين سبق أن رآهم في الأحراج، كانوا يسيرون في مقدمة الغرباء، حاملين بأيديهم الخرائط.
تقدم عادل نحو أمّه، التي فتحت ذراعيها له، وعيناها تذرفان الدموع، فطوقت جسمه النحيف بذراعيها وقالت بصوت يخنقه البكاء: أبوك يا عادل.. أبوك قتل.. وكان آخر ما تلفظ به اسمك. امتلأ قلب عادل بالغضب وانهمرت دموعه، وصار كل بدنه يرتجف، فأمسكت جدته بيده وقالت: افرح معي! فأنت ابن الشهيد، وأنا أمّه. عانق عادل جدته بشدة من دون أن يتلفظ بكلمة.
وفجأة سمع عادل المختار يقول إنّ هناك حافلات مستعدة لنقل جميع أهل القرية إلى بلاد الملك، الذي وعده الغرب بهدنة طويلة. ورأى أحد الغرباء يشير من بعيد لرفاقه، وإذ بهم ينقضون على أهل القرية يسحبونهم ويدفعونهم ببنادقهم تجاه الحافلات المتوقفة عند مدخل القرية.
وتذكّر عادل فور صعوده إلى الحافلة أنه لم يرَ أخته الصغيرة مع أمّه، فاندفع نحو أمه يسألها عنها، فقالت والغصة تخنقها إنها عندما خرجت لمحاولة إنقاذ أبيه صوّبوا سلاحهم نحو رأسها ولم يسمحوا لها بالعودة إلى البيت، فبقيت الطفلة وحدها هناك.
استشاط عادل غيظًا وغضبًا وقفز من نافذة الحافلة من دون أن يلاحظه أحد من الغرباء، وركض نحو منزلهم، وعندما اقترب منه، توجّه إلى النافذة، التي تطلّ على غرفة نوم أبويه، وأخذ ينظر عبرها بحذر، فشاهد أحد الغرباء يقف أمام سرير أخته الصغيرة، مصوبًا مسدسه نحوها. تجمد عادل في مكانه وعاد في تلك اللحظة إلى عادته القديمة وتخيل الأمر بالمقلوب. تخيل أنه هو الذي يصوب مسدسه على سرير أخت الغريب الصغيرة، وتخيل أنه لم يطلق النار عليها.
(الناصرة)
15 أبريل 2013
مما لا شك فيه ان السيد عادل الزغبي كاتب واديب من الظراز الاول وسوف يكون لك شان عظيم ، موصول الشكر والى الامام يا فارس الناصره وحالمها الاغر.
2 يونيو 2011
عزيزي الحالم لست اديبا ولكنني متذوق للادب ولست بارعا في التذوق كل ما استطيع ان اقولة هنا اننا اعشق دور المختار عندما لا يكون عميلا ….ما كتبته اثر في نفسي اتمنى لك التوفيق ( اول مرة اقراء لك )