ضمير المتكلم (والصامت)
قراءة في رواية سيد قشوع الجديدة “ضمير المتكلمR […]
ضمير المتكلم (والصامت)
ينجح سيد قشوع في كتابه الأخير، “ضمير المتكلم” (גוף שני יחיד)، بتخطي مرحلة جديدة من مراحل تطوره ككاتب متميز، نحو نضج أدبي وروائي وسردي. فـ “ضمير المتكلم” رواية مركبة، سرديًا وتقنيًا ونفسانيًا، أكثر من سابقتها “ليكن صباحًا”، وذلك لاختيار قشوع السّير في مبنى سرديّ غير تقليدي، يذهب ويرجع على محوريْ الزمان والمكان، كما أنّه يختار بطليْن يسرد بواسطتهما القصة: المحامي (بلا اسم في الرواية) وأمير، يتنقل بينهما في فصول يُخصّص كل واحد منها لأحد البطلين في الرواية على التوالي.
ولكن لو تتبعنا اسم الرواية لرأينا أنّ قشوع اختار أن يستخدم ضمير المتكلم السردي مع أمير، “أنا”، بينما سرد قصة المحامي بضمير الغائب، “هو”. يبدو لي أنّ هذا الخيار كان بديهيًا حيث أنّ سيرة أمير، كطالب جامعي من المثلث في جامعة القدس، تتساوق وتقترب من بعض السيرة الذاتية لقشوع، وأعني التفاصيل الحياتية اليومية التي يبني من خلالها الكاتب عوالم أبطاله، ولا أقصد بالضرورة المحطات الحياتية التي تصنع “قصة” شخص ما.
كما أنّ هذه التفسيرات تختزل معانيَ أخرى يمكن اشتقاقها من الاسم الأصليّ العبريّ للرواية، حيث يمكن تقسيم العنوان إلى ثلاث كلمات تشكّل كل واحدة منها عمودًا من الأعمدة الثلاثة التي تقوم عليها الرواية: “جسد” (גוף)، “ثانٍ” (שני) و”وحيد” (יחיד). الجسد جسد يونتان في الأساس (وجسد ليلى)؛ الثاني هو أمير بالنسبة للمحامي، والمحامي بالنسبة لأمير؛ والوحيد- هما أمير والمحامي سوية، وكل على حدة.
كما أنّ الضمير ليس للمتكلم فقط، بل لأمير الصامت المراقب للعالم من حوله. ولن أدخل في تفسيرات أخرى كي أمنع نفسي من فضح معلومات وتطورات قد تفسد القراءة للراغبين.
يُسجَّل لصالح قشوع في هذه الرواية قدرته السردية الممتازة، التي تؤهله لبناء قصة تحدث من خلال محورين كتابيين متوازيين في البداية، ثم ليتقاطعا في النهاية. هذه تقنية غير جديدة في السرد الروائي (خصوصًا في السنوات الأخيرة)، ومع ذلك تظلّ خطيرة وفيها من الرهان الكثير، حيث أنّ أيّ ترهّل في تطوّر السرد سيجعل من الانتقال بين شخصيتي الرواية أمرًا مُملا ومتعبًا، وهذا لم يحدث لدى قشوع بالمرة؛ فالانتقال من فصل إلى آخر كان محفوفًا دائمًا بالتشويق والرغبة في معرفة المزيد عن المحامي وعن أمير في نفس الوقت.
كما يُسجّل لصالح قشوع نضجه الأسلوبيّ وعدم ارتكانه إلى الكلبية (cynicism) كما فعل في كتابه الأول، “العرب الراقصون”، وفي بعض روايته الثانية، وكما يفعل في كلّ أسبوع في عموده الشخصي في ملحق “هآرتس”. فهو يلجأ في هذه الرواية الأخيرة إلى صياغات محسوبة وجمل تحمل الكثير من النصوص الخبيئة (subtexts) من دون تزويقات أو ملاحظات لاسعة تتكرّر بكثرة. قشوع يقرر أن يمنح القصة نفسها وتعقيدات شخصياتها مركز الحلبة، ليتنحى جانبًا ككاتب مع أسلوب مميز، مما قد يصدم بعض القراء للأسلوب “غير الملائم” لسيد قشوع الساخر. ما فعله قشوع هنا يشبه سعي الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير إلى كتابة أدب لا يمكن التعرف فيه البتة على أسلوب الكاتب، وبكلمات فلوبير: “على الكاتب أن يكون مثل الله: لا يُرى ولكنه موجود في كلّ مكان”. هذا ما فعله قشوع قياسًا بكتاباته المألوفة حتى اليوم.
أنا أعتقد أنّ هذه نقطة لصالحه، كونها تدلّ على تطوره الدائم ككتاب من دون الإرتكان إلى سهولة السخرية والفذلكات الجميلة في كتاباته السريعة. إنها طريق وعرة لأي كاتب “يملك أسلوبًا” وعلامة فارقة: من يجرّ من، الكاتب أم أسلوبه؟
كما أنّ قشوع يكتب بحساسية كبيرة قصص النساء في الرواية، وهذه مهمة غير سهلة أيضًا لكاتب رجل. ناهيك طبعًا عن أنّ الحبكة نفسها مثيرة، مليئة بالتجديد على مستوى الأفكار القصصية، غير نمطية حتى في مقاطعها النمطية المتعلقة بقوميات الشخصيات ومكانتها الاجتماعية. كما أنّ البُعد “البوليسي” الذي تكتسبه قصة أمير لاحقًا، من دون تبني هذا الجانر بحذافيره، تفتح بابًا جديدًا على قدرات قشوع وإمكانية جديدة لطرقها.
ومن فرط رغبته في إكساب المضامين لشخصياته وعوالمها تخاله أحيانًا محاضرًا إنتروبولوجيًا، يُعلم أبناء عمنا اليهود، بلغتهم، بعضًا من المعلومات والدروس اللازمة عن العرب والفلسطينيين. لا بأس، فليتعلموا- فهم بحاجة إلى هذا. ولو لم تكن هذه الرواية مكتوبة على يد عربي بالعبرية لليهود، لكانت هذه الملاحظة سلبية في أساسها: الإطناب والميل إلى الكتابة التدريسية في بعض مواقع السرد.
من جهة أخرى، يؤخذ على قشوع أمران أساسيان، في نظري، يتعلق الأول بإصراره الحثيث، بعد كلّ ما كتبه، أدبيًا وتلفزيونيًا، على الاستمرار في التنكيل بشخصية العربيّ، بجوانبها السيئة أو المنفرة أو غير المحمودة على أقلّ تقدير. لا أقول هذا من باب التحفظ من النقد، على العكس فأنا من مريديه المتحمّسين، بل أقوله حرصًا على قشوع من أن تتحول هذه التوصيفات إلى فزاعة تقف عاليًا كراية حمراء تميّز كتاباته.
أما الأمر الثاني فيتعلق بالنهاية: فمع تقدم الحبكة بدأتُ أقتنع بأنّ قشوع يأخذنا إلى متاهة غير منتهية، غير محلولة، عن عمد، وإذ به يرتب لنا لقاءً بين شخصيتي الرواية، وبنظري هذه أضعف حلقة في الرواية. فمثل هذا اللقاء الحتميّ أفسد ما بناه قشوع طيلة الرواية من العالميْن المتوازييْن وكنتُ أشعر بلذة خفية أثناء القراءة مُدركًا (عن خطأ) أنّ قشوع سيصدمنا بنهاية غير متوقعة حتمًا، لا يلتقي فيها البطلان. ولن يشفع له أنه ترك لنا علامة سؤال في الفقرة الأخيرة من الرواية، فقد أتت في رأيي غير مقنعة ومصطنعة بعض الشيء.