صالح علماني: «مؤلّف الظلّ»… ثروة وطنيّة ينبغي تأميمها
كان يدرس الصحافة في مدريد السبعينيات حين قرأ «مئة عام من العزلة». من هنا بدأت رحلته مع الترجمة، ليصبح «عرّاب أدب أميركا اللاتينية» في لغة الضاد. نقل حتّى حتى الآن 92 عملاً إلى المكتبة العربيّة… أما رهانه الحالي فينصبّ على التعريف بكتّاب ما بعد الواقعيّة السحريّة
صالح علماني: «مؤلّف الظلّ»… ثروة وطنيّة ينبغي تأميمها
|خليل صويلح|
كان صالح علماني يضع اللمسات الأخيرة على ترجمة رواية «قابيل» حين بلغه خبر موت صاحبها جوزيه ساراماغو. أرسل المخطوطة إلى دار النشر على الفور كنوع من العزاء الشخصي لصاحب «كل الأسماء». قبلها مباشرة، طاردته لعنة «سانتا إيفيتا» للأرجنتيني توماس إيلوي مارتينيز. في الرواية، تحلّ لعنة سانتا إيفيتا على الجنرال الذي كان يحقق في حادثة موتها فيصاب بالجنون، فيما يموت الكاتب إثر انتهائه من كتابة الرواية. خشي المترجم أن يصاب باللعنة ذاتها، فغادر منزل العائلة في الضواحي إلى بيته القديم في مخيّم اليرموك، في أطراف دمشق، كي يواجه مصيره وحيداً.
طوال الجلسة معه، كان شبح الجدّة المحنّطة يحوم في المكان. تذكّر أولاً أنّه من مواليد زمن النكبة، في إشارة إلى ساعة شؤم تطارده على الدوام. فما إن وصلت الشاحنة التي تقل العائلة المنكوبة إلى إحدى قرى حمص، حتى ولدته أمه في صبيحة اليوم التالي في فناء مدرسة طينية.
سيزور مسقط رأسه بعد خمسين سنة على ولادته، بناءً على وصية والده، ليجد المكان وقد تحوَّل إلى اسطبل مهجور. لكنَّ المنعطف الحاسم في حياة هذا المترجم الاستثنائي، كان في مدريد، أثناء دراسته الصحافة هناك، منتصف سبعينيات القرن المنصرم. كان قد هجر دراسة الطب، وانخرط في المناخ الثقافي الإسباني. أهداه أحدهم رواية غابرييل غارسيا ماركيز «مئة عام من العزلة». قرأ الرواية ثلاث مرات، فسحرته مناخاتها، ولغتها المشبعة بالشعر. قرّر أن يترجم الرواية إلى العربية، لكنّه فوجئ بعد ترجمة ثلاثة فصول منها، بصدور طبعة عربية أخرى، فأهملها، لينكبّ على ترجمة «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه». هكذا، ارتبط اسم صالح علماني بأدب أميركا اللاتينية، وأدب ماركيز على نحوٍ خاص.
مشروع متكامل بدأه منذ ثلاثة عقود، ويريد أن يصل به إلى مئة رواية
ندقق في ملامح وجهه، فنجد شبهاً كبيراً بينه وبين صاحب «الحب في زمن الكوليرا». يضحك للملاحظة، ويقول «من عاشر القوم…». بالطبع فإنّ قارئ الضاد مدين لهذا المترجم البارع برف كامل في المكتبة العربية لأبرز الروايات المكتوبة بالإسبانية. عدا الأعمال الكاملة لغابرييل غارسيا ماركيز، هناك أعمال ماريو فارغاس يوسا، وإيزابيل الليندي، وجوزيه ساراماغو، وإدواردو غاليانو، وخوان رولفو، وحفنة من أبرز كتّاب القارة اللاتينية. انشغل صالح علماني طويلاً بأعمال مشاهير الواقعية السحرية، فيما تحتشد لغة ثرفانتس بأسماء مهمة يجهلها القارئ العربي، أمثال أوغوستو روا باستوس، وجيوكاندا بيللي، وسيرجيو راميرث… وهم وفقاً لما يقوله، يمثلون موجة «ما بعد الواقعية السحرية».
ترجماتها تصبّ جميعاً في مسار واحد، وتندرج ضمن مشروع ثقافي متكامل، بدأه منذ ثلاثة عقود، وقد وضع في حسبانه أن ينتهي إلى الرقم مئة، في سلسلة ترجماته المتواصلة. اليوم طوى الرقم 92، وها هو يقترب من نهاية مشروعه. كما لو أنّه ورشة متكاملة، وليس فرداً. من يعرف دأب هذا المترجم عن كثب، وعمله المتواصل لعشر ساعات يومياً، لن يصدّق مزاعمه عن وجود عشرات الكتب التي تنتظر دورها في الترجمة. ليس لديه أوقات شخصية. أينما ذهب، يتأبط كتاباً جديداً وصله للتو، بعدما بات لديه سعاة بريد متبرعون في مختلف البلدان الناطقة بالإسبانية، يخبرونه عمّا هو جديد في المكتبات.
لكن، ماذا تفعل آلة كاتبة قديمة في مكتبك؟ يجيب «هذه آخر آلة كاتبة اقتنيتها، وقد شهدت معي ولادة روايات كثيرة، بينها أحبّ رواية إلى روحي «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز. لذلك قررت أن احتفظ بها كذكرى سعيدة». بالطبع، فإن مترجمنا هجر الكتابة على الآلة الكاتبة منذ سنوات، وصار يكتب ترجماته على شاشة الكمبيوتر مباشرة، من دون أن ينسى تلك الحقبة «الورقية» التي رافقته أمداً طويلاً، حين كان يلتقط أرواح الشخصيات، وهو منبطح أرضاً. لطالما تعامل مع الأعمال التي عرّبها، بوصفه «مؤلف الظل» عبر أسلوب رائق، مشحون بشعرية واضحة. حتى إن القارئ سيعتقد للحظة، أنه يقرأ لمؤلفٍ واحد. لا ينكر هذه الفكرة، لكنه يوضّح، أن «الأسلوب هو المترجم»، معوّلاً على الدقة في التقاط النبض الأصلي للنص، والحدس في اكتشاف المعنى الدقيق للجملة. أمر يصبح ضرورةً مع لهجات محليّة تتطلب معرفة خاصة بمقاصد الكُتّاب. يقول بحماسة «أعيش الرواية كما لو أنني أكتبها».
ندوب كثيرة تركتها روايات الآخرين في روحه، وهو يؤكّد أن «الأسلوب هو المترجم»
يستدرك «الأمانة وحدها لا تبرّر تخريب النص الأصلي… وبالطبع، هذا لا يعني تغيير أفكار النص. لكل لغة منطقها الخاص، وليس بالضرورة أن يتقاطع المنطقان بلاغياً، المهم ألا تُفسد النكهة الأصلية للعمل». لعلها الخيانة الضرورية لجفاف القاموس وحراثة جملة «تقع بين لغة الأصل ولغة المترجم بقوة الحدس وحدها».
ندوب كثيرة تركتها روايات الآخرين في روح هذا المترجم. عدا شغفه برواية «الحب في زمن الكوليرا» التي يستعيد قراءتها بالإسبانية، خارج ورديات العمل، يشير إلى الكابوس الذي عاشه أثناء ترجمته «حفلة التيس» لماريو فارغاس يوسا، والحزن الشفيف الذي رافقه في اقتفاء مصير بطل «ساعي بريد نيرودا» لأنطونيو سكاراميتا.
في الشريط الذي أنجزته قناة «الجزيرة الوثائقية» عنه، تورد عبارةً قالها يوماً محمود درويش. كان الشاعر الراحل يرأس تحرير مجلة «شؤون فلسطينية»، حين قرأ ترجمة لأشعار رفائيل البيرتي، بتوقيع صالح علماني. أدهشته الترجمة، فقال معلّقاً بإعجاب «هذا الرجل ثروة وطنية ينبغي تأميمها».
لا يهتم صالح بالألقاب والإطراءات التي تصله من قرّاء ترجماته مثل «عرّاب أدب أميركا اللاتينية»، أو «مترجم برتبة كولونيل». كما لم يلتفت إلى أسباب عدم تكريمه إلى اليوم. ما إن بلغ الستين، حتى غادر مكتبه في الهيئة العامة السورية للكتاب، إلى منزله في الضواحي، سعيداً للتحرّر من أعباء الوظيفة. تفرّغ لترجمة كتب جديدة، لم يتح له الوقت لإنجازها. ذلك أن دور النشر كانت تلهث وراء العناوين الرائجة. يقول: «جاء الوقت الذي ينبغي لي أن أسدد ديوني لكتّاب مغمورين في لغة الضاد، رغم أهميتهم الفائقة في خريطة الأدب العالمي».
(عن “الأخبار” اللبنانية)