سلامتك أبو نزار، ويلعن أبو الصحافة!
فجأة أحسستُ بالمسؤولية: نحن موقع ثقافي ويجب أن نفي هذا […]
فجأة أحسستُ بالمسؤولية: نحن موقع ثقافي ويجب أن نفي هذا الشاعر الفذ حقه بكلّ شيء: بخبر الوفاة، بتغطية الجنازة، بإعداد ملف أدبيّ/ نقديّ/ ثقافيّ/ بصريّ عنه. عدتُ لأصبح صحافيًا مُحتقرًا (بفتح القاف وكسرها)
إستنجدت بي مراسلة صديقة من صحيفة “هآرتس” قبل قليل (الساعة 22:12). اتصلت وبقلق كبير سألتني: “هل مات الشاعر طه محمد علي؟ لقد وصل إلى الجريدة الآن نعي للنشر.”
أحسستُ بفراغ كبير يملأ قفصي الصدريّ دفعة واحدة. سألتها من أين لها هذه الأخبار وبدأت على الفور بالتنقل بين المواقع الإخبارية العربية المعروفة ولكنني لم أجد أثرًا لطه محمد علي. أعطيتها رقم بيته في الناصرة وهممتُ بالاتصال به ولكنني عَدَلتُ. ماذا سأقول؟ هل مات أبو نزار؟ إرتعشتُ للحظة ثم وضعت المحمول مكانه.
دخلت إلى “غوغل نيوز”. لا شيء. ثم برمة أخرى في المواقع العربية الإخبارية. لا شيء. ولكنني في قمة بغتتي وانبغاتي بدأت أفكر كمحرر لموقع “قديتا”: يجب تحضير خبر يليق بالفاجعة. يجب تحضير ملف سريع. أحسستُ بالندم الكبير لأنني لم أستمع لطلب الزميل فراس خطيب قبل افتتاح الموقع: “تعال نفتتح الموقع بملف عن طه محمد علي”.
قضمتُ أصابعي وعضضتُ على فضاء خيبتي.
إستدرتُ رأسًا إلى الخلف وتطلعت إلى الرفّ العلوي في المكتبة التي تقف ورائي بكتبها الغاصّة، تسجّل تفاصيل حياتي وهي تمضي وأنا مُنكب فوق حاسوبي النقال الهرم. استللتُ خمسة دواوين شعرية لطه محمد علي ومجموعة من قصائده ترجمها للعبرية أنطون شماس ونشرتها دار “أندلس” في العام 2006. قلبت الدواوين ببطء وألم. توقفت عند قصائد أضحكتني وأخرى أبكتني وأخرى جزمتُ وقت قراءتها أنها من أفضل ما كُتب بالعربية على الإطلاق.
بدأت بكتابة الخبر، فصغتُ العنوان: “الموت يُغيّب الشاعر الفلسطيني الكبير طه محمد علي”. ثم توقفت بعد العنوان. هل أكتب خبر وفاته قبل موته؟ أيّ جنون هذا؟؟ يلعن أبو الصحافة ما أحقرها!
استندت إلى الخلف وبدأت بقراءة بعض القصائد من “حريق في مقبرة الدير”، ديوانه الثالث. قرأت “عبدالله ومدللة” وقصيدة “لم يكن” التي يفتتح بها الديوان وقررتُ أنّ هذه القصيدة يجب أن تختتم الخبر الذي يجب أن أبدأ بإعداده. فجأة أحسستُ بالمسؤولية: نحن موقع ثقافي ويجب أن نفي هذا الشاعر الفذ حقه بكلّ شيء: بخبر الوفاة، بتغطية الجنازة، بإعداد ملف أدبيّ/ نقديّ/ ثقافيّ/ بصريّ عنه. عدتُ لأصبح صحافيًا مُحتقرًا (بفتح القاف وكسرها) ودفنت في ثانية الكاتب المُحبّ لهذا الشاعر المتمسك به حتى النهاية، ليحل محله المحرر الصحافي.
وضعت مقدمة الخبر عن ولادته في صفورية وتلخيص لحياته ودكانه في سوق الكازانوفا، ثم مجموعة إصداراته الكاملة، وترجمتُ عن العبرية التظهير الذي كتبه أنطون شماس للطبعة العبرية. ثم استعوقتُ الزميلة من “هآرتس” التي من المفترض أنها اتصلت ببيت العائلة في الناصرة لتستفسر. هل يعني تأخرّها تأكيدًا للوفاة وهي الآن تُعدّ الخبر بسرعة كي ينزل إلى الطباعة قبل وقت إغلاق الصحيفة (الساعة الآن الحادية عشرة ليلاً)؟ أرسلت لها رسالة نصية. مرت دقائق ولم تردّ. يبدو أنّه فارقنا.
عدتُ إلى الخبر وبدأت بضبط إملائه وصياغاته وتحضيره في “الأدمينيستريشين” لنشره في الموقع فور تأكد الخبر. العنوان جيد، سأبقي عليه. يجب أن يكون الخبر معلوماتيًا ولكن تحليليًا ونقديًا لإبراز أهمية أبي نزار كشاعر لا يتكرر. تأكدتُ من أنّ ديوانه الأول “القصيدة الرابعة وعشر قصائد أخرى” موجود أمامي ويمكنني نسخ فقرات من المقالة الافتتاحية الممتازة للديوان التي كتبها أحمد حسين وقتها. ماذا أيضًا؟ أنا بحاجة إلى صور. “غوغل فوتوز”. ولكن رسالة الزميلة من هآرتس إلى محمولي أوقفت كلّ شيء: “وضعه مستقر. كان هذا إنذارًا كاذبًا. شكرًا جزيلاً”.
شكرًا جزيلاً؟؟ على ماذا؟ أنني كتبت خبر وفاة شاعر أحبّه بكلّ لغتي، قبل أن يموت؟
أنا أكره الصحافة، أكره الأخبار، أكره الحقارة في ضرورة كتابة مثل هذا الخبر، الحقارة في كتابة الخبر قبل الوفاة.
الآن، سيقول الساخرون مبتسمين: أصبح لديك خبر شبه جاهز فيما إذا لو…
إخرسوا! سأمحوه فورًا. لا أريده في حاسوبي. لن أحتاجه قريبًا. فأبو نزار بخير والشعر بخير.
(حتى لحظة نشر هذه المقالة في الموقع لم أمحُ الخبر من حاسوبي بعد…)
(11:32 ليلاً)