أنضج أفلام مسيرته الفنية: إيليا سليمان عالقاً في «الزمن الباقي»
بعد «سجلّ اختفاء» (١٩٩٦) ثم «يد إلهيّة» (٢٠٠١)،البحث مت […]
أنضج أفلام مسيرته الفنية: إيليا سليمان عالقاً في «الزمن الباقي»
بعد «سجلّ اختفاء» (١٩٩٦) ثم «يد إلهيّة» (٢٠٠١)،
البحث متواصل عن لغة تلائم الرواية: إنّها «لغة البقاء»
اللغة ـفي وجودها وغيابهاـ هي الباقية في «الزمن الباقي» الذي قدّم عرضه الأوّل في رام الله قبل أيّام. «الزمن الباقي» انتهى منذ سنين، وما بقي هو الاستعادة والتأمل: هل سقطت الناصرة فعلاً أم استسلمت؟ وهل يعرف حقاً جندي جيش الإنقاذ أين تقع طبرية؟ التأمل الساخر اللاذع الذي لا يعترف بالنوستالجيا ولا بضرورة التذكّر: الذاكرة الفلسطينية ليست واحدة، والمتذكرون ليسوا متشابهين؛ إيليا سليمان (١٩٦٠) هو واحد منهم… لكنّه لا يبكي لدى تذكر سيرته، بل يضحك ألماً بملء سخريته.
ما يفعله سليمان في «الزمن الباقي» أنّه يعيد صياغة اللغة، لغة التذكر ولغة الحكي. لغة العادي اليومي، لغة السياسة، لغة البقاء. أيّ بقاء يصوره لنا سليمان؟ إنه بقاؤه هو، فالفيلم قصته: قصة والده زمن النكبة وبعدها، قصة العائلة والأم والناصرة، قصة «البلد». وما زال مشروع سليمان السينمائي يتطور في هاجس مُلحّ: كيف يروي الفلسطيني قصته؟ بأي مفردات؟ إنه يبحث عن لغة للرواية، لغة سينمائية «تلائم» الحدث وواقع الحال.
لا شكّ في أنّ «الزمن الباقي» هو من أنضج أفلام سليمان حتى الآن، ولا شكّ في أنّه أفضلها من الناحية السّردية والفنية. سليمان يملأ الفيلم بالحوارات بين الشخصيات (نسبياً)، وهو تحوّل لافت في مسار صاحب «سجل اختفاء» و«يد إلهية». ومع هذا، يظلّ الصمت (عدم الكلام) هو الحوار الأتمّ والمتواصل. وعلى هذا الصمت الطويل الصاخب، رُكِّب شريط صوتي قد يكون من أجمل ما شهدته السينما العربية وأغناه. الفيلم طافح بالموسيقى والأغاني التي كانت نَفَس الفترة وكلامها: عبد الوهاب، أسمهان، ليلى مراد، نجاة، وصباح فخري. فإذا بالنص يتحاور مع الصورة والموسيقى، خالقاً حالة سينمائية متصاعدة، متينة.
ينقسم الفيلم إلى ثلاث مراحل تاريخية: النكبة، السبعينيات وأيامنا الراهنة (الناصرة ورام الله). نجح سليمان في نقلها بمهنية عالية بواسطة الموسيقى والتصميم الفني للفيلم (شريف واكد). إنّها محطات مفصلية في روايتنا الفلسطينية، وبالأخصّ لفلسطينيي الداخل. وقد نجح سليمان في انتزاع الناصرة وحيفا والجليل والمثلث من براثن التعريفات (الإسرائيلية) الجديدة، ليعيدها إلى سياقها الفلسطيني الأصلي. السياق الذي تاه ويتوه في معمعة التقسيمات السياسية الحاليّة التي فرضها منطق المحتلّ. إنّه ردّ اعتبار لنا، لفلسطينيي الجليل والمثلث والنقب: من هنا مرت النكبة، من بيوتنا وأراضينا وبلداتنا.
بل إن إيليا سليمان يذهب أبعد من ذلك. رأيه أكثر حدة: النكبة ما زالت مستمرة، وهي تشوّهنا. تشوّه لغتنا وحاضرنا ومستقبلنا: الجار السّكّير (طارق قبطي الممتاز) الذي غرق في قنينته، وفي كل سكرة يخرج بحلّ سحريّ آخر؛ الجهاز التعليمي الذي أجبر آباءنا على غناء «بعيد استقلال بلادي/ غرد الطير الشادي»، وتعاون معه المديرون والمعلمون من آبائنا أيضاً. يقسو هذا السينمائي المميّز، وينكأ الجرح بلا هوادة. إنه فلسطيني غاضب وخائب الأمل، إلا أنّ غضبه يُترجَم سخرية مُرةً تنتج فكاهة غريبة، سوداء قاتمة. فكاهة فلسطينية. هل يمكن الضحك وأنت تشاهد توقيع رئيس بلدية الناصرة على وثيقة الاستسلام في 1948، والصورة التي التقطها مع الحاكم العسكري؟ هل هذا ممكن ومسموح؟
وإذا كانت الكوميديا هي «التراجيديا مضافاً إليها الزمن»، فهل يمكن في «الزمن الباقي» (والمتبقي) أن نضحك على جيش الإنقاذ الذي لم ينقذ شيئاً؟ وعلى وضع فلسطينيي الداخل، بكل تشويهاته الثقافية والاجتماعية؟ هل ما بقي لنا هو الشبان العرب الثلاثة في المشهد الأخير، يلبسون مثل «موسيقيي الراب» مع كوفيات وشارات النصر؟ هل هي مقاومة جديدة عصرية؟
الفيلم يبدأ بمشهد غريب: سائق تاكسي يهودي يُقلّ سليمان من المطار، إلا أنّ عاصفة قوية تهبّ فيتوقف السائق ويعلن عدم قدرته على الاستمرار في السفر، لأنه «لا يعرف أين هو». سليمان يجلس في الخلف، في العتمة، صامتاً، لكنه يقول لنا بهدوء: اليهودي لا يعرف المكان ولا يعرف الوصول إليه، وأنا (نحن) عالق معه!
كلنا عالقون في «الزمن الباقي». فلنضحك قليلاً…