أمجد ناصر في “فرصة ثانية”: تقنية النص المهجّن
أيّ نصّ ابداعيّ هو تعرية جريئة للذات. وفي هذا النص الجريء كشوفات ذاتية تضع الكاتب أمام مرآة جلية واضحة لا شروخ فيها، أو حتى خدوش صغيرة، تفسد متعة النظر إلى أدق التفاصيل التي يتوفر المبدع أمجد ناصر وهو يجوب متاهته الرملية
أمجد ناصر في “فرصة ثانية”: تقنية النص المهجّن
|عدنان حسين أحمد|
قليلون الكُتّاب الذين لا يفضِّلون لعبة اقتفاء الأثر التي قد تغريهم بوضع الحافر على الحافر، وعدم الإتيان بشيء جديد في خاتمة المطاف. ومن هذه القلة النخبوية النادرة يتفرد الشاعر الأردني أمجد ناصر بمشروعه الجديد الذي سنصطلح عليه اسم “النص المهجّن”، وهو التوصيف الذي نظّن بدقته- والظن غير اليقين طبعاً- وتطابقه مع مضمون “فرصة ثانية”، كتابه الإشكاليّ الجديد الذي أثار عدداً غير قليل من التساؤلات النقدية الهامّة في الوسط الثقافي العربي.
رابط: أمجد ناصر يصدر عمله الروائي الأول: “حيث لا تسقط الأمطار”
ولا بدّ من التنويه إلى أنّ شكل الفرادة يتمثل في البنية الداخلية المركبّة التي تجمع بين الشعر من جهة، والأنماط السردية الأخرى المتعارف عليها كالسّيرة الذاتية، والسّيرة المكانية، والنصّ الحكائي وأدب الرحلات وغيرها من الأجناس السردية المألوفة. وحريّ بنا أن نشير إلى أنّ “فرصة ثانية” هو الكتاب الثاني في مشروعه الابداعي الذي وسَمْناه قبل قليل بـ “النصّ المهجّن”؛ فلقد سبق له أن أصدر كتاباً هاماً يحمل عنوان “حياة كسرد متقطّع” يتماهى فيه النَفَس الشعريّ بالانسيابية النثرية (القصصية على وجه التحديد) الذي أتاح بواسطته للقارئ العضويّ أن يقرأ النصوص بوصفها قصائد سردية، أو قصصاً مفعمة بالمناخ الشعري.
يحتاج النص المُهجَّن إلى بنية مركبّة، أو معقدة ربما، لتستوعب هذه الأنواع الأدبية التي تجاوزت حدود التجاور إلى التلاقح الفعّال الذي يفضي في نهاية الأمر إلى تماهي هذه الأجناس مع بعضها البعض وتظافرها في صياغة نصّ جديد يستدعي قراءة نقدية مغايرة.
في كلّ نصٍّ من النصوص الأدبية ثمة فكرة رئيسة تتيح للكاتب أن ينطلق منها لبناء فضاء النصّ، مهما طال أو قَصُر، قبل أن يصل إلى جملته الختامية التي يعتقد أنها أحاطت بالفكرة، وأشبعتها تحليلاً وتمحيصاً. والفكرة الرئيسة في هذا الكتاب تتمثل في الخاتم الآخر المختلف الذي اشتراه (من بائعة جوّالة قالت له إنه استفتاح كريم: خذه ولن تندم.) يبدو أنّ بنية النص تتكئ على هذا الخاتم المختلف الذي “ترى في حجره الأزرق الكابي صورةً جانبيةً لامرأةٍ مقرفصةٍ على هيئة غزالة معمِّرة”. ولا بدّ أن تُحيلنا هذه المرأة المقرفصة التي تقمصّت هيئة الغزالة المعمِّرة إلى أم السّارد العليم التي أمدّته بلغة عربية أصيلة كتلك اللغة التي كان يستعملها طرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم وزهير بن أبي سلمى، كما هو الحال في كلمة “الثِفَال” التي تعني كل ما يُبسَط تحت الرحى من جلد أو قماش، ونحو سبع عشرة كلمة قد تبدو جميعها حوشية أو منفِّرة للانسان المديني الذي لم تطرق سمعه اللغة البدوية الصّافية. هذه اللغة المكتنزة التي يتسيّد فيها المجاز على الحقيقة هي التي كانت تضطر الشاعر أمجد ناصر لأن يُترجم لأقرانه الذين كانوا يزورونه في بيته أغلب ما تتفوّه به أمه الفاضلة التي أهداها هذا الكتاب، فهي مَنْجمه اللغويّ المميّز، ونبعه المجازي الذي قد لا ينضب مهما تكاثرت قراءاته، وطال عمره المديد انشاء الله.
تشكِّل المضارب الصحراوية المحيطة بالمَفْرَق حيّزاً مكانياً مراوغاً شأنه شأن الشخصيات البدوية المراوغة التي طاردت الغزاة الذين دخلوا في رمال لم يروا مثلها قط. ثمة أماكن مستقرّة في الذاكرة الجمعية العربية على وجه التحديد، ويمكن لهذه الذاكرة أن تتعرف بسهولة على مدن مثل المفرق وإربد والبتراء، لكنّ التيه المكاني يبدأ بالحرَّة ويمرّ بأم الجْمال ودير الكهف والصفاوي وجبل الإريتين وأم غزال وعين لورنس ولا ينتهي بوادي رَم أو وادي موسى؛ فثمة قصور مبثوثة في عرض الصحراء تستوقف الكاتب وتأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامه مثل “قصر عمرة”، إضافة إلى الصخور البركانية السّوداء والصروح الكحلية المتراكبة التي ضربتها الزلازل قبل مئات السنين.
ثمة قصص وحكايات شعرية كثيرة تؤثث متن النصّ المهجن ولا تجد حرجاً في أن تستجير بالتاريخ وتستعين به لكي تقف على قدميها مثل حكاية شجرة “البطم”، بحسب المَرويّات العربية التي تقول “إنها الشجرة التي استظلّ بها النبي العربي مرتين قبل أن يعرف رعدة الغار: الأولى مع عمه والثانية في قافلة السيدة”. أو حكاية الراهب النسطوري الذي “رأى غمامة تتحوّل غمامة فوق رأس الصبي اليتيم”. هناك إحالات صريحة إلى التاريخ لكنها تعزز النفس السردي للكتاب برمته كما هو الحال في الاشارة إلى قرية “أم الجمال” التي عاشت ثمانية قرون، وبلغ تعدادها خمسة آلاف نسمة، وكانت تضمّ أربع عشرة كنيسة تدين بالمذهب النسطوريّ.
ثمة أماكن مستقرّة في الذاكرة الجمعية العربية على وجه التحديد، ويمكن لهذه الذاكرة أن تتعرف بسهولة على مدن مثل المفرق وإربد والبتراء، لكنّ التيه المكاني يبدأ بالحرَّة ويمرّ بأم الجْمال ودير الكهف والصفاوي وجبل الإريتين وأم غزال وعين لورنس ولا ينتهي بوادي رَم أو وادي موسى
يسلط أمجد ناصر الضوء على البيئة الصحراوية حيث يعرّفنا على “السوسنة السوداء”، تلك الزهرة الارستقراطية المخملية الغريبة التي يحدث تفتّحها في قلب الصحراء ما يشبه “الاستراحة الملونة” وسط بحر ممتدّ من الرمال الصفراء التي لا يكسر رتابتها سوى بعض الأزهار والأعشاب البرية مثل القيصوم ورِجل الحمامة والشِيح والجعدة والبعثران والبابونج. وفي خضمّ هذا التقشف ينبري الكائن الصحراويّ الذي يتحايل على الشمس حينما يرتدي ملابس ثقيلة في عزّ الصيف كي يحافظ على نسبة الماء في جسده. ثمة إحالات تنطوي على طابع مثيلوجي مثل الاحالة إلى “الطائر الذي لا يُعرَف له اسم، يتبع بدأب مزعج، المقتربين من الهوّة، أو الموشكين على التحليق”. هذه الاحالات التاريخية أو المثيولوجية، الحقيقية أو الفنتازية، هي التي منحت قارئ النص المهجن لذة مضافة لا تتيح للرتابة أن تتسلل الى طبقات بنائها السردي المتنوع الذي يأسر القارئ ويأخذ بتلابيبه حقا.
يأخذنا أمجد ناصر الى مضارب موغلة في القدم. ففي مستوطنة “عين غزال” التي يصل عمرها الى نحو عشرة آلاف سنة حيث تفاجئنا العيون القططية للتماثيل القديمة التي أدهشت الناظرين.
وفي (قصر عمرة) الذي يسميه الحراس (حمّاماً) ثمة لوحات حسيّة مرسومة على الفريسكو، بعضها مكتمل، والبعض الآخر ناقص، واللوحات الناقصة تحثُّ المخيلة على استعادة المشاهد المحذوفة. ربما يكون هذا القصر من الأماكن المحبّذة لكاتب النص ومبدعة. فهو من جهة قد درس في معهد الآثار الملكي، وتخصص في الأوابد الصحراوية، لكنه أصبح ممسوساً في غرام واحدة من المستحمات اللواتي ألهبنَ شهوته ونزوعه الايروسي. الشاعر والرحالة النمساوي راؤول هو الذي نبّه كاتب النص إلى أهمية (قصر عمرة) وضرورة زيارته لكونه ينتمي إلى العصر الاسلامي الذي كان يحرّم التجسيد، ومع ذلك فان أغلب اللوحات حسيّة، وأن بعضها يصوّر مشاهد الحب والجماع.
لم يكن بوسعنا أن نتوقف عند القصص والحكايات الشعرية التي وردت في متن هذا النص لأنها كثيرة ومتنوعة. وسنكتفي بالاشارة إلى الواقعة الأخيرة التي سردها أصغر أعضاء الثلة المُطارِدة للغزاة الذين عبروا من الجهة الأخرى من الصحراء حيث قال: إن بعض المُطاردين سقطوا في المعركة، بينما مات البعض الآخر من الظمأ والجوع، أما هو وثلته فقد تاهوا في الصحراء. وبينما هم يحاولون العثور على طريق العودة لاحت لهم من بعيد أطلال عمائر وأبراج وصوامع نحاسية. وحينما وصلوا حملوا معهم كنوزاً ذهبية وفضية وخرائط مرسومة على رقاع الجلد، غير أن أكبرهم مات بالحمّى، وجنّ الثاني وتاه في الصحراء، فيما اختطف الثالث طير كبير، أما أفتاهم سناً، وهو سارد الحكاية بطبيعة الحال، فقد تخلى عن كل الكنوز التي بحوزته، وربط نفسه باحكام على ظهر ناقته، وغادر المدينة الملعونة. وبعد عدة أيام وجد نفسه في مضارب قبيلة أرشدته لاحقاً إلى حيث يقيم. وبينما يقرأ كاتب النص تحقيقاً صحفياً عن المدينة الملعونة التي اكتشفها مسبار وكالة “ناسا” الفضائية، يتذكر الخاتم الكبير الذي كان يحركه الرجل العجوز على نحو دائري في اصبعه النحيلة.
ربما يتساءل البعض عن جوهر هذا النص المهجّن، وبنيته التحتية المراوغة التي لابد لها أن تقول شيئاً في خاتمة المطاف. وعلى الرغم من أهمية الجانب الموضوعي وسِعته التي غطّت مساحة الصحراء الأردنية، وتجاوزتها إلى الجانب المديني، إلا أنّ الجانب الذاتي هو الأكثر تبلوراً ودلالة، حيث حملَ الابن خصالاً متنوعة من الأبوين. فاذا كانت الأم قد منحته اللغة المجازية المشتقة من الأس البدوي، فان الأب الذي يمتلك “حساسية شاعر”، ذلك الكائن المشوّش، وصاحب التهويمات الضبابية والمزاعم الحلمية التي لم يؤيدها أحد من أفراد محيطه قد منحه الشبه الشكلاني، والقدرة على السَرَحان، والعيش في مكانين مختلفين في آن واحد.
لا بدّ من الاشارة إلى أنّ أيّ نصّ ابداعيّ هو تعرية جريئة للذات. وفي هذا النص الجريء فيه من الكشوفات الذاتية ما يضع الكاتب أمام مرآة جلية واضحة لا شروخ فيها، أو حتى خدوش صغيرة، تفسد متعة النظر إلى أدق التفاصيل التي يتوفر المبدع أمجد ناصر وهو يجوب متاهته الرملية سواء على أرض الواقع أم في فضاء الحلم.
(كاتب وناقد عراقي، لندن؛ عن موقع “كيكا”)