أبو علي الضبع-القصة الأولى/ معن أبو طالب
|معن أبو طالب| ولد أبو علي الضبع في اليوم الأول من عيد […]
أبو علي الضبع-القصة الأولى/ معن أبو طالب
|معن أبو طالب|
ولد أبو علي الضبع في اليوم الأول من عيد الأضحى. للمزيد من الدقة، ولد في التاسعة وخمس وثلاثين دقيقة صباحاً. كان العِجل الثاني يتخبّط على الأرض بينما عنقه يقطر سيلاً من الدم النضر، يختلط على الطريق بالحصى وأعقاب السجائر ويحملها معه أمتاراً عدة إلى الُمنهل. كانت الشمس مشرقة والسماء صافية، وكانت أم أبو علي الضبع تصرخ ألمًا.
“شيطان مثل أبوه”- قالت جدته بينما عاركته القابلة محاولة إخراجه إلى العالم. كان الجوّ قاتماً داخل البيت. لم يحضر أبوه الولادة، فأبوه قُتل قبل أشهر قليلة على يد أخواله. لا مبالغة في قول إن أبو على الضبع لم يكن ثمرة حبّ، ولا حتى ثمرة جواز تقليدي، بل هو ثمرة سهوة ارتكبتها أمه. فهي نست شالها في المعمل ذات يوم وعادت وحدها لتأخذه، وهناك كان والد أبو على الضبع يستمني متخيلاً زمليته إياها. واعتقد أنّ أمانيه تحققت عندما فُتح الباب ودخلت هي. الرجل المناسب في المكان المناسب أو المرأة الخطأ في المكان الخطأ؟ المهم أنها عادت إلى بيتها باكية مدماة. في اليوم التالي جاء والد أبو على الضبع إلى منزلها وعرض على إخوانها الصلح بأن يتزوجها، وهنا أفرغ الأخ الأكبر مسدساً في جبينه.
بعد الشهور التسعة، ظهر أخيراً رأس أبو علي الضبع المنتظر. كان طفلاً جميلاً بمقاييس بشاعة الأطفال حديثي الولادة. كان وزنه خفيفًا وصوته ضعيفاً واهنا. حملته القابلة ونظفته ثم مرّرته إلى جدته. أدارت الجدة وجهها ونظرت باتجاه شباك تغطيه ستائر مدلاة. التفتت القابلة نحو الأم وأعطتها أبو علي الضبع. حضنته أمه، وابتسمت للمرة الأولى منذ شهور.
حكمت الظروف المقفرة التي أحاطت ظهور أبو على الضبع على وجه الأرض بأن تأخذه والدته للعيش مع خاله الذي يعيش على أطراف العاصمة. سكن خاله بيتاً ضيقاً وبستاناً واسعاً. كان البيت مليئاً بالأطفال. أطفال كثر عددهم غير معروف. بعضهم من زوجته الأولى التي توفيت، وبعضهم من زوجته الثانية التي طلقها، والبقية من زوجته الحالية. لم يكن الخال متحمّساً لزيادة عدد الأفواه التي يجب إطعامها.
أما البستان، فكان مليئاً بالأشجار والمزروعات، وفي أوله حظيرة صغيرة فيها حمار وبغل وديك وسبع دجاجات. هذه الحيوانات ساهمت بشكل كبير في إطعام العائلة، وكانت هي الدخل المضمون الوحيد.
اكتشف أبو علي الضبع روعة الحظيرة عندما كان عمره خمس سنوات. وجالساً ذات مساء بجوار والدته، بدأ خاله يتكلم مرة أخرى بصوت عالٍ ومزعج. ظلّ يكرر عبارة “كوم لحم”؛ “من وين بدي أطعمي كوم هاللحم؟”؛ “أنا ناقصك إنتي وابنك على كوم هاللحم؟”. ملّ أبو على الضبع وخرج ليلعب. قيل له ألا يدخل الحظيرة ولكنه علم أنّ خاله سيقضي بعض الوقت وهو يردّد عبارته المفضلة. نزل أبو علي الضبع درجات المنزل ومشى بهدوء تجاه الحظيرة. وجد بعض الدجاجات تعبث خارجاً وبدت الحظيرة رطبة ومعتمة. مشى أبو علي الضبع بخطوات بطيئة وبدا له كلّ شيء كبيراً وفي غاية الأهمية. هربت الدجاجات من طريقه وتابع المسير حتى وصل باب الحظيرة. وقف في الباب ونظر إلى الداخل. الرائحة كريهة. الحمار والبغل يلفّهم الذباب والبقرة عجفاء يبدو عليها المرض. لفت انتباه أبو علي الضبع كوم من التبن. مشى إليه ووجده بارداً وقاسياً ولكنه قرر الجلوس عليه. اختفت الرائحة بسرعة، وتخلت الدجاجات عن فزعها وبدأت تسير على مهل حوالي الديك.
لم يكوّن أبو علي الضبع صداقات مع أيٍّ من أولاد خاله، بل كان يراقب عن بعد بينما تتحارب الفصائل الثلاثة بأحجامها وتكتيكاتها المختلفة للحصول على طعام أكثر، أو التحكم بالتلفزيون أو لفت نظر الأب.
اعتمدت المجموعة الأولى على حجمها، بينما اعتمدت المجموعة الثانية على كونها المفضلة عند رب المنزل لأنهم أبناء الزوجة المتوفاة. أما المجموعة الثالثة فقد استغلت كونها المجموعة الوحيدة التي تستطيع أن تستعين بأم في متناول اليد.
أصبح أبو علي الضبع يقضي وقتاً أكثر وأكثر في الحظيرة، يجلس متأملاً الحيوانات وحياتها اليومية. كانت علاقة الديك بالدجاجات خاصة تثير اهتمامه. تابع بفضول الديكَ وهو يسير بزهو رافعاً عرفه ونافخاً صدره، يختار أيّ دجاجة يريدها ويفرض صوته على الدجاجات والحمار والبغل والبقرة.
بعد يوم طويل في الحظيرة، سمع أبو علي الضبع وقع أقدام تسير صوب الحظيرة. قفز من مكانه وركض واختبأ خلف التبن. سمع صوت خاله سعيداً ضاحكاً. دخل الخال الحظيرة، ثم فتح كيساً بنياً كبيراً خرجت منه عدة دجاجات وديك. ألقى الخال نظرة سريعة على الحظيرة ثم خرج.
بقي أبو علي الضبع جالساً وراء التبن يراقب الموقف. خيّم صمت شديد على الحظيرة وأصبح التوتر غير محتمل. دار الديكان حول بعضهما البعض بينما وقفت الجاجات القديمة والجديدة تراقب. الديك الجديد أصغر قليلاً ولكنه أنشط وأكثر حماسة. انقض الديك الجديد على القديم وعاجله بنقرة تحت عينه. اشتبك الديكان وتطاير الريش وسال الدم. وبينما حاول الديك القديم توظيف حجمه كان الديك الجديد يستفيد من سرعته وطاقته. استمرت المعركة لدقائق عدة وأصبح الديك القديم على مشارف الهزيمة. وما كانت إلا لحظات حتى خرّ واقعاً على الأرض. وقف الديك الجديد فوقه رافعاً عرفه، ثم التفّ وانقضّ على دجاجة.
كانت الأيام التالية في الحظيرة هادئة. فالديكان قد وصلا لاتفاق واضح: الديك الجديد هو الزعيم، وهو من تدور حوله الدجاجات وهو من يصرخ صباحاً. أما الديك القديم أصبح بالياً، يركض خلف الدجاجات التي تهرب منه حتى يقبض على أحدها من دون أن يسبّب اضطراباً للواقع الجديد.
عندما كان يسأم أبو علي الضبع من متابعة معركة أولاد وبنات خاله الطاحنة، والوضع الجديد في الحظيرة، أصبح يسير إلى آخر الشارع حيث يقف أولاد الحارة الذين تعرف إليهم في رحلاته إلى الدكان كلما أرسله خاله لشراء السّجائر.
عُرف أولاد الحارة بشراستهم ولم يسلم منهم أيّ ولد غريب دون كمية كريمة من الإهانة أو علقة ساخنة. وكانوا قد تعرضوا لأبو علي الضبع في أول رحلة له إلى الدكان، فهو لم يكن فقط جديداً، بل من تلك العائلة التي لم يكن أحد من أولادها يطاق. في تلك الرحلة اعترض أحد الأولاد طريق أبو علي الضبع وأمسكه من أذنه. قال له: “بدي أنيك أختك”. وعندها ردّ عليه أبو علي بهدوء وجدية: “أنو وحده؟”. أنزل الولد يده وترك أبو علي يمضي في سلام.
بعد أقلّ من ساعة عاد أبو علي الضبع إلى الصبية وجلس معهم من دون أن يقول شيئاً. خيّم الصمت للحظات بين الأولاد، ولكنهم سرعان ما تابعوا الحديث.
خف حديث خال أبو علي عن كوم اللحم هذه الأيام، ولكنه بقي فظاً مع والدة أبو علي الضبع ومتثاقلاً. واستمرّت المعارك الطاحنة في البيت وكانت نتيجة آخرها أن خرجت المجموعة الثالثة منتصرة. فوالدتهم قد كسبت بعض النقاط مع الخال بفضل واجباتها الزوجية. ولذا مشى أطفالها مغرورين متباهين في البيت وكأنّ كلّ أنصاف أشقائهم خدم لهم. كان أبو علي الضبع يسمع في الليل شهقات زوجة خاله ولهاث خاله كالجّواميس. صوت يشتدّ لدقائق ثم ينقطع فجأة. ثم يأتي الصوت مرة ثانية عند الفجر تقريباً، مع صياح الديك الجديد.
كان يوماً حاراً. جلس أبو علي الضبع في الحظيرة. أولاد الحارة في المدرسة اليوم. أحسّ أبو علي الضبع بشعور غريب. غريب ولكن لذيذ. طغى عليه الفضول. كان قد سمع أولاد الحارة يتكلمون عن الدجاجات ويقولون إنّ الجّاجة أحلى من البنات؛ إنّ كيس الجّاجة رطب وحار وإنّ الجاجة تتحرك أكثر، وإنّ الجّاج أسهل وليس هناك أي من مشاكل البنات. لفتت عينه دجاجة طرية سمينة. المفضلة عند الديك الجديد. نهض أبو علي الضبع وقبض على الدجاجة وأخذها إلى حيث يجلس دوماً خلف التبن. بعد البحث وعدة بدايات خاطئة، تمكن أبو علي الضبع من دخول الدجاجة. وأخذ يذهب ويجيء والدجاجة تصيح وتبعثر وتخربش. لم يكن الأمر ممتعاً ولكن أبو علي الضبع استمر على أية حال. دقائق قليلة وتخلص من عذريته.
خفف قبضته عن الدجاجة التي ضربت جناحيها وقفزت. مشت عرجاء وبسرعة أخذت تدور كالمجانين في أرجاء الحظيرة. كانت الدجاجة تنزف ولذا قبض عليها أبو علي الضبع مرة أخرى وأخذ يمسح الدم بقميصه. أبقاها بجواره حتى توقف النزيف ثم أطلقها مرة أخرى.
كان الخال قد أمن بيعة بسعر ممتاز لثلاثين تنكة زيتون ذاك اليوم، ولذا أمر زوجته بتحضير وجبة عشاء تليق للعائلة كلها. نزل إلى الحظيرة حيث ما زال أبو علي الضبع مختبئاً. دخل الخال ونظر باحثاً عن تلك الدجاجة. وجدها تخربش حول الحظيرة فركض باتجاهها. قبض عليها بعد عدة محاولات وخرج ظافرًا بها إلى البيت.
في تلك الليلة رفض أبو علي الضبع المشاركة في الوليمة، وجلس يراقب بهدوء وفضول خاله، وكوم اللحم وهم يأكلون.
(كاتب أردني يقيم في لندن؛ للكاتب أربع قصص مختلفة ترافق تطور حياة أبو علي الضبع، هذه الأولى بينها)
17 نوفمبر 2010
قصة ممتعة و احداث غير متوقعة … كل الاحترام
16 نوفمبر 2010
إنها قصه رائعه. يعجبني أسلوب الكاتب و تمثيله للشخصيات.