عودة عوليس/ راضي د. شحادة
(منحوتة مسرحية شعرية) (مغناة منه وله، مهداة: إلى روح م […]
عودة عوليس/ راضي د. شحادة
(منحوتة مسرحية شعرية)
(مغناة منه وله، مهداة: إلى روح محمود درويش، والى المغتربين في أوطانهم وخارجها، ويحلمون أو يناضلون من أجل العودة إلى اليابسة بأمان)
الحكواتي: (توطئة):
“كان عوليس فارسا،
كان في البيت أرغفة،
ونبيذ وأغطية،
وخيول وأحذية،
وأبي قال مرة،
حين صلَّى على حجر: غُضّ طرفا عن القمر،
واحذر البحر والسفر”*
***
عوليس: يا مرسال يا اللي وجهتك صوب الشمال،
عرّج على ليليس في الخيمة،
وبلّغها سلاماتي وتحياتي،
وقل لها:
“يا من يحنُّ إليك نبضي،
هل تذكرين حدود أرضي؟
هل تكلّمين البحر؟
هل تأتين من ساعات هذا الموج؟
أم تأتين من رئتي وهل تأتين؟”*
أم آتي أنا؟
حبيبتي ليليس..
أنت ليلى والجنون
وأنا قيسك،
عوليس الحنون..
“أَتَعْلَمُ عيناك
أني انتظرت طويلا،
كما انتظر الصيف طائر،
ونمت كنوم المهاجر.
تحية وقبلة وبعد،
وليس عندي ما أقول بعد،
من أين أبتدي؟
وأين أنتهي؟
ودورة الزمان دون حدٍّ،
وكلُّ ما في غربتي،
زوادة فيها..
رغيف يابس ووجد..
وماذا قلتِ يا حبيبتي،
حين قلتُ لأمي الوداع،
وحين زغردَت خطاي خلف الباب؟
هل قلتُ للأحباب للأصحاب موعدنا غدًا؟
ألم أضع رسالةً كعادة المسافرين،
تقول إني عائد؟
أمي تخاطب الأسماء والأشياء.
تقول: يا وسادة السرير
يا حقيبة الثياب،
يا ليل يا نجوم
يا إله يا سحاب،
أما رأيتم شاردًا
عيناه نجمتان،
يداه سلتان من ريحان،
وصدره وسادة النجوم والقمر،
وشعره أرجوحة
للريح والزهر؟
أما رأيتم شاردًا
مسافرًا لا يحسن السفر؟
راح بلا زوّادة..
قلبي عليه من غوائل الدروب،
قلبي عليك يا فتى.. يا ولداه..
أماه..
لتمسحي الجبين والعينين،
ولتحملي من دمعنا تذكارْ،
لمن قضوا من قبلنا،
أحبابنا المهجّرين،
يسقون بعد الموت من دموعنا تذكار.. “*
ليليس يا حبيبتي
وأما بعد،
خبّري الناس وقولي
للذي يسأل عنيّ،
وانقلي هذا الخِطاب:
“سيداتي آنساتي سادتي،
سلّيتكم عشرين عامْ”*،
سيرتي، ملحمتي ،
طالت وصارت
أُغنياتي، ملحماتي، أُمنياتي..
“آن لي آن الأوان،
أن أعود اليوم،
وأن أهرب من هذا الزحام،
وأغني للجليل،
للعصافير التي تسكن عشّ المستحيل..”*
ليليس:
يا مرسال،
يا اللي وجهتك صوب الجنوب،
عرّج على عوليس في عرض البحر.
شو صار في أحواله؟
ويلي عليه..
الموج عم يهدر هدر.
يا رب يرجع لي،
ويخلص هالقهر..
عوليس:
كانت الغربة عشرين سنة..
صارت الغربةُ أكثر،
وأنا في التيه في الصحراء تارة..
أصبحتْ ضعف المسافة.
دنت الغربة حدَّ الأربعين.
أتنقّل،
بين صحراء وبحر وجَمَل،
وسفينة،
يقذف الموج بها،
بين ماء وشواطيء..
إيه ليليس الحزينة،
أصبحتْ ضعف المسافة..
“نلتقي بعد قليل،
بعد عام بعد عامين وجيل..
والعصافير تموت..
في الجليل..”*
إننا بعد قليل،
نلتقي
في غزة في يافة،
بعد قليل،
تصبح العودة قريبة،
بعد خمسين سنة..
ليليس:
آه عوليس حبيبي..
هل نتابع،
عَدّ أيام الحصار
والانتظار،
على الحجارة والأصابع؟
أتعود أم لا تعود..
عُدْ حبيبي..
عوليس:
“عودة أم هجرة يا أيها السّرب المعنّى؟
أم أنا العائد من غاشية المنفى إلى برّ السلامة؟
كنت خبّأتُ الجنون المرّ للّقيا
ولكن..
هل سيكفيني الجنون؟
يا طيورًا طائرة،
يا وحوشا كاسرة،
بلّغي دمعة “لِيلي”1
أنّ حيفا لم تزل حيفا،
وأنّي.. ربما يومًا أكون
في ربوع الناصرة”2.
ليليس :
واه عوليس حبيبي..
وصلت منك الرسالة،
والخِطاب.
عرف الأحباب عنها،
وجميع الناس في كل الشعاب،
ولكن..
“يشمت بي الذين هم أعدائي
باطلا
يتغامز الذين يبغضونني بالعين..
“إنهم يقولون بالسلام ولا يفعلون، وعلى الهادئين في الأرض يتفكرون بكلام مكر وبَعد الوعد ينكثون.. فغروا عليّ أفواههم. قالوا هه هه قد رأت أعيننا”**.
كَثُرَ الخُطّاب من حولي وقالوا:
لن يعود،
هيّئي نفسك يا ليليس،
للحلّ القريب..
تاه الحبيب..
ضاع الحبيب..
عرسك اليوم اغتصاب..
اسمعي يا امرأة الذي لا لن يعود،
وانظري الحلّ الجديد..
أهجري بيت أبيك
واسكني قصر الملك..
سلطاننا الذي اشتهاكِ يشتهيكِ..
إنّه سيدك الآن فلبّي دعوته،
ومن الآن فصاعدْ
أحسني الطاعة له،
واْسُجْدِي لُهْ..
عوليس:
ألهذا الحدّ يضايقك الخُطّاب يا حبيبتي؟
ليليس:
إنهم كالكيكلوبس الذي أخبرتني عنه في إحدى رسائلك.
عوليس:
ياه.. يا ويلي.. ويلي عليك منهم.. وهل أصبح للكيكلوبس في بلادنا عين واحدة في وسط جبينه؟”
ليليس:
“لا بل عيناه كأعين البشر وكنظر الانسان ينظر؟”**، ولكن.. “له فم ولا يتكلم”** إلا بالشر “وله عينان ولا تبصران”** إلا الطمع “وله أذنان ولا يسمع”** إلا نفسه “وله منخر ولا يشم”** إلا رائحة القتل والظلم “وله يدان ولا تلمسان”** إلا لتؤذيا “وله رجلان ولا تمشيان”** إلا لتدوسا الآخرين. الكيكلوبس الحديث يا عوليس له عينان كبيرتان واسعتان جميلتان ومغريتان، ولكن الآلهة غضبت منه لشدّة دهائه وظلمه، وربما لأنه تمرّد عليها، فجعلته يرى بعين واحدة فقط. “الأرض مسَلَّمَة ليد الشرير. يُغَشّي وجوه قضاتها”** فيحكمون على المجرم بالبراءة وعلى البريء بالجرم، ويجيزون تعذيب مناضلي الحرية والحق. كلما توجعت يخنقون وجعي وآخي، وشكواي صارت في عرفهم تمرّدا.
“يغتصبون قطيعا ويرعونه. يستاقون حمار اليتامى ويرتهنون ثور الأرملة، ويصادرون أغنام بدو الجنوب المساكين. يصدّون الفقراء عن الطريق. فالآن يا أيها الملوك تعقّلوا، تأدبوا يا قضاة الأرض. مساكين الأرض يختبئون جميعا. ها هم كالفراء في الفقر يخرجون الى عملهم يبكرون للطعام. البادية لهم خبزٌ لأولادهم. في الحقل يحصدون علفهم ويعللون كَرَم الشرير. يبيتون عراة بلا لبس، وليس لهم كسوة في البرد. يبتلُّون من مطر الجبال، ولعدم الملجأ يعتنقون الصخر.. عراة يذهبون بلا لبس وجائعين يحملون حُزَما. يعصرون الزيت داخل أسوارهم. يدوسون المعاصر ويعطشون. من الوجع أناس يئنون ونفس الجرحى تستغيث..” **، أصبحنا يا عوليس كالغنم أو كالعيس.. كالعيس في البيداء يقتلنا الظمأ والماء فوق ظهورنا محمول.
ولكن..
عوليس:
“ولكن، لماذا تحيا الأشرار ويشيخون.. نَعَم، ويتجبّرون قوة. نسلهم قائم أمامهم معهم وذريتهم في أعينهم. بيوتهم آمنة من الخوف وليس عليهم عصا الآلهة. ثورُهُم يُلقِح ولا يخطيء. بقرتهم تُنتِج ولا تُسقِط. يُسْرِحون مثل الغنم رضّعهُم وأطفالهم ترقص. يحملون الدّف والبوق ويطربون لصوت الجيتار. يقضون أيامهم بالخير. في لحظة يهبطون إلى الهاوية فيقولون لله: أبعد عنا”**.. الأشرار ينعمون بملذات الحياة والقوة في يدهم بعد أن سحبت الآلهة يدها عن الأرض. هل على الأخيار أن يمتهنوا طريق القوة والبطش كي يستعيدوا حقوقهم أم عليهم أن يبقوا كالغنم المعدّ للذبح في زريبة سيده الحاكم؟ “أما صاحب القوة فله الأرض، والمترفِع الوجه ساكن فيها. الأرامل أُرسِلَتْ خالياتٍ وذراع اليتامى انسحقت. لأجل ذلك حواليكِ فخاخ ويريعكِ رعبٌ بغتة أو ظلمة فلا ترين.. وأما أنا.. ففَيْضُ المياه يغطيني، وأما هنا، فأنا.. طريدٌ شريد..”**.
كيف تعلم الآلهة كل ذلك ولا تتدخل؟ “هل من وراء الضباب تَقضي؟ السحاب سِتر لها فلا تُرى وعلى دائرة السماوات تتمشّى. هل تحفظ طريق القِدم الذي داسه رجال الإثم؟ وماذا تفعل الآلهة لهم وقد ملأت بيوتهم خيرا.”** يا صانعي السلام في الأعالي، الا تدخلتم لتصنعوه على الأرض؟
ليليس: لا تهكل لنا هم.. تعوّدنا عليهم، ولكن وماذا بعد؟
عوليس: أتعوّدتم على الآلهة؟
ليليس: لا بل أعني على الخُطّاب.. على نوع معين من البشر.. سألتك حبيبي وماذا بعد؟
عوليس:
ليليس.. حبيبتي..
أخاف عليك،
فكوني على العهد
إلى حين عودتي..
ليليس قضيّتي..
“حنيني إليك اغتراب،
ولقياك منفى.
أدقّ على كل باب،
أنادي وأسأل:
كيف تصير النجوم تراب؟
أحبّك، أو لا أحبّك؟
فأنا غريب الدار في وطني
وخارجه غريب الدار.
لا تذكريني حين أفلت من يديك إلى المنافي الواسعة.
ها قد تعلّمت اللغات الشاسعة.
ومتاعب السفر الطويل..
كبر الرحيل..
كبر المساء على شوارع كل منفى.
أصبحت حرّيتي عبئا على قلبي،
وعيناي منافي وبلاد..
بلادي البعيدة عني.. كقلبي..
بلادي القريبة مني.. كسجني..
لماذا أغني.. مكانا،
ووجهي مكان؟
لماذا أُغني لطفل ينام على الزعفران،
وفي طرف النوم خنجر،
وأمي تناولني صدرها،
وتموت أمامي،
بنسمة عنبر؟”*
ليليس: عوليس حبيبي.. كيف ترى مستقبلنا؟ حسنا، دع هذا السؤال إلى حين اللقاء..
خبّرني، كيف أنت؟ كيف حالك؟
“نحن اختبأنا في الصدأ..”*
عوليس:
إنما حال الغريب
مثلما حال الغريبة.
هذه قصّة عجيبة..
“هل مات منا أحد؟”*
ليليس: نعم و”كلا”*..
عوليس: “تغيّرتِ قليلا”؟*
ليليس: “لا”*، لا بل نعم وكلا..
وأنتَ..
هل الرحلة ما زالت هي الرحلة،
والميناء في القلب؟
عوليس: نعم..
ليليس..
حبيبتي أنتِ..
وانتِ إيثاكة الحبيبة،
أَمِثْل لِيلي هي أيضا تائهة؟
إيه يا زوجي السليبة..
” عشرون سكينا على رقبتي،
ولم تزل حقيقتي تائهة..
وجئت يا معبودتي..
كل حلم يسألني عن عودة الآلهة”*..
ليليس: ترى، “رأيت الشمس في ذات يوم؟
عوليس: رأيتها ذابلة.. تافهة..
في عربات السبي كنا،
ولم تمطر علينا الشمس إلا النعاس..
“أنا المنفي خلف السور والباب..
أنا الذي انتظَرَ البريد من الشمال،
ناداه بحّارٌ ولكن لم يسافر.
لجم المراكب وانتحى أعلى الجبال.
يا صخرة صلّى عليها والدي لتصون ثائر،
أنا لن أبيعك باللآلي،
أنا لن اسافر..
أم أنني أقضي حياتي في السفر
ومتاعي..
زاد وشعر وحقيبة..
أصوات أحبابي تشق الريح تقتحم الحصون..
يا أمنا انتظري أمام الباب إنّا عائدون.
ولكن..
هذا زمان لا كما يتخيلون.
بمشيئة الملاح تجري الريح
والتيار يغلبه السفين”*..
ولكنّ السفر غلب القمر..
ألأننا بشر
فقد كتب القدر علينا
أن نكون
ريحًا تروح ولا تعود؟
الريح الغربية تكسر سفننا، والريح الشرقية ألا تقوى على إطفاء عود ثقاب؟
أأصبحنا كنفخة وأيامنا مثل ظل عابر؟
“استيقظي يا ريح الشمال
وتعالَي يا ريح الجنوب.”**
ليليس:
صلواتنا عوليس لا تجني المطر.
الآن أعطيك المثل:
“جئنا لتقديم الذبائح
لإله فرّ من خيمتنا،
واختفى
حين خرجنا نوقد النار له..”*
والآلهة من قبل كانت،
تعتلي قدَر البشر،
قدر القدر..
وتقول: لا ما من مفر..
هذا قضاء وقدر.
واليوم عوليس تنحّت،
هل نتابع في الصلاة؟
هل نتابع في التضرّع
كي يعود العاشق..
سالما وغانما،
فَأَطِيبُ لُقْيا بالحبيب؟
ولكن لا مجيب..
كنا نقول قديما “الرب أعطى والرب أخذ”**
والآن الآلهة لا تعطي ولا تأخذ..
“ها إني أصرخ ظلما فلا أُستجاب..
لماذا تطاردونني ولا تشبعون من لحمي” ؟**
ولا من جواب،
من آلهة أو من بشر..
أيتها الآلهة،
لماذا تختفين في أزمنة الضيق؟
وإلى متى يرتفع الخطّاب عليّ،
والى متى يرفعون أيديهم عليّ؟
عوليس:
خذي ليليس عبرة من الحبيب..
أنا التوازن بين مَن أعلى ومَن أسفل..
لا تضعي الأمور بهذه الحدّة،
فتُتّهمين بالإلحاد..
لا أرضى لك مصير أنتيغونا أو جان دارك.. من يدري؟ فنحن بشر ولا علم لنا بالغيب وما تريد الآلهة..
إنها حقّا تراقب،
وربما..
تصل المآل
وتخوض في بعض التجارب،
كي تنجيّنا من الشرير..
آمين.
أيتها الآلهة..
اجعلينا مثل أيوب بشر..
ألا يكفي الانتظار؟
في المختبر؟
هل من خبر؟
هل عبرنا الامتحان؟
بعد قرن من سنين..
فاغدقي خيرًا علينا
بالرفاء والبنين.
أم انني سأموت
وأنت،
غاضة الطرف عني
وعن أهل بيتي؟
عزيزتي ليليس..
ما دام هيك صار،
لا بد يحكّ البشر،
جلودهم بالنار،
ويْواجْهو القدر..
ما من خِيار غير هذا..
ألا ترين وجوهنا وأيدينا إلى الأعلى..
وبنادق الخطّاب نحو صدورنا لا للجدار؟
ليتني كنت إلهْ،
وَأحُرْسِك ليلْ ونهارْ
من عيون الشر والحسّاد والأعداء..
مَن يدري؟
“عساني يوما أصير إلها،
إلهًا أصيرْ”*..
إلهًا كبيرًا ، إلهًا عظيمًا، إلهًا صغيرًا، إلهًا طويلا، إلهًا قصيرْ..
ولكنني لا أزال.. أستغفر الله..
حلمت بصخرة نجاة، وها أنا ذا اليوم أهيم في سفينتي، أطلب نجاتي بكل الجهات فلا أجد نصيرًا.. “أذهب شرقا فليس هو هناك، وأذهب غربا فلا أشعر به شمالا حيث عمله فلا أنظره. يتعطف الجنوب فلا أراه”**..
أواجه الإعصار في بحر من التيه وبُعْد الدار..
“الآن بحر كله بحر،
ومن لا برّ له لا بحر له،
والبحر صورتنا..
هي هجرة أخرى..
هي هجرة أخرى إلى ما لست أعرف..
لا يبعد البحر كثيرا عن سؤالي.
حدّقت في كفّي لأبصر ما وراء البحر.
تلك وسيلتي لتَبصُّر الأشياء.
بحرُ، ثمّ بحر، ثمّ بحر..
البحر دهشتنا، هشاشتنا، وغربتنا ولعبتنا..
والبحر أرض ندائنا المستأصلة،
والبحر صورتنا..
ومن لا بر له لا بحر له.
بحر أمامك، فيك، بحر من ورائك.
فوق هذا البحر بحر،
وأنتِ نشيد هذا البحر..
بحر لتسكن أم تضيع؟”*..
الزمن علّمني أجوب بلادْ وبحارْ،
بينْ ْبلاد فيها البرْدْ يِهْري قوّة المسمار..
لبلاد فيها الشمس تحرق ذنبة العصفور..
الماء من حولي يكاد يغمرني فمتى أصل إلى بر النجاة؟
بيتي يعوم سفينة فوق المياه.. وها هم الخطّاب يبنون القلاع على صخور صدورنا..
“وطني حقيبة،
وحقيبتي وطن الغجر.
شعب يخيّم في الأغاني والدخان.
شعب يفتش عن مكان،
بين الشظايا والمطر”*..
لوما الحيا ولوما كلام الناس،
لابوس زيّ الحجر أرض تنباس.
واللي ما لشّ أرض يواري جثّته فيها،
قالوا ما لوش دِين لو نطح السما بالراس.
والأرض يعني الوطن مش يعني بيّارة،
والوطن يعني هويّة للبناية أساس..
ولكن..
“كلّما مرت خطاي على طريق،
فرّت الطرق البعيدة والقريبة.
كلما آخيت عاصمة
رمتني بالحقيبة..
ها أنا أمشي إلى حلمي فتسبقني الخناجر..”*
وها أنا ذا
“على قلق كأن الريح تحتي”3.
“ومضيت أبحث خلف البحر”،
أو أُمضيتُ قسرا،
ورحت أبحث في الَمدى،
عن المعنى الجديد عن الحقيقة.
وطني حبل غسيل
لمناديل الدم المسفوك،
في كل دقيقة..
وتمدّدت على الشاطيء رملا ونخيل..
انا من تحفر الأغلال في جلدي شكلا للوطن..
يأخذ الموت على جسمي شكل المغفرة..
وبودي لو أموت داخل اللذة..
يا تفاحتي..
يا امرأتي المنكسرة..
الزنبقات السود في قلبي،
وفي شفتي اللهب..
من أي غاب جئتني يا كل صلبان الغضب؟
بايعت أحزاني وصافحت التشرد والسغب..
ما حيلة الأزهار إن وجدت بأحراش القصب؟”*.
ليليس.. أنهكني السّفر..
ليليس هل من مفر؟
تعبتُ من حمل الجسور،
فيهون للغير العبور..
جسورْ كالكابوس..
فُوقْ ظهري حُرْدَبِّة،
بْتُحْفُرْ في جسمي في الموس..
كابوس مثل صخرة على ظهر عوليس
مثل صخرة سيزيف أو بروميثيوس..
وأنا أحمل كل العابرين فوق ظهري..
الكل يعبر مرتاحًا على جسدي
وجسر ظهري سَدّي يشتهي بلدي.
أنا جَمَل المحامل..
أنا جسر العبور،
فكيف أُعبِّر وأعبُر في ذات اللحظة؟
أزيحوا هذه الصخرة..
أريحوني..
تعبت مللت وزاد الألم.
أزيحوا الجسور عن كاهلي،
خفّفوا الأحمال عن ظهري..
تعبت من حمل الجسور
وما من جسور تحملني.
ليليس:
عوليس حبيبي..
“أتموت وحدك؟
هل ستتركك البحار على شواطئها وحيدًا كالحصى؟
البلاد تفرّ من يدك التي خلقتْ بلادًا للهديل.
أتموت وحدك؟
هل ستهجرك البراكين التي كانت تطيع صهيلك الدامي؟
أيهجرك التساؤل والتعامل بين أُغنية وسجّان؟
أيهجرك الصهيل؟
يسرقون الماء من أعشاب جلدك.
يطردونك من مناديل الجليل”*..
“عشرين عامًا كنت تسأل،
عشرين عامًا كنت ترحل..
عشرين عامًا لم تلدك الوالدة إلا دقائق
في إناء الموز وانسَحَبت..
تريد هوية؟ أريد هوية؟
فنصاب بالبركان..
سَافَرَتِ الغيوم وشرّدَتْكَ،
وشرّدَتْني..
ورمت معاطفَها الجبالُ وخبأْتْكَ وخبّأْتني..
عاشق يأتي..
متى يأتي الى يوم الزفاف؟
يرتدي بدلته الأولى
ويدخل حلبة الرقص حصانا من حماس وقرنفل،
وعلى حبل الزغاريد يلاقيني،
وتغني لكلينا كل أشجار المنافي،
ومناديل الحداد الناعمة:
ذبّل العاشق عينيه،
وأعطى يده السمراء للحناء
والقطن النسائي المقدّس”*.
ولكن يا حبيبي..
يا ضيا عيني
يا غزالي الشارد،
الما بيطاله4 الصيّاد..
غزالي مين مثله،
بجماله وبشكله،
العالم تشهد له،
أصيل وإبن جْوادْ..
عوليس.. كيف حالك؟
عوليس:
يا غزالي الوارد
عالميّ لحاله،
يا مين يخبّرني
شو صار في احواله،
جماله يلبق له،
بيسوى وطن وبلاد..
ليليس:
يا حبيبي..
كلما اسألك الحال تْجَاوِبْني بْقصيدِة،
وبأَشعارٍ من المسك المعطّر..
شو جرى لك؟
عوليس:
ما عدت ليليس أعرف شو جرى لي..
“ولكني أنا المنفي خلف السور والباب..
من يوصد الأبواب دوني؟
أي طاغٍ ؟ أيّ مارد؟
أنا ولد الكلمات البسيطة..
وشهيد الخريطة.
أنا زهرة المشمش العائلية..
فيا أيها القابضون على طرف المستحيل،
من البدء الى الجليل،
عند أقدام النخيل،
وفي الخليل..
أعيدوا اليّ يديّ،
أعيدوا اليّ الهوية..
انا شاهد المذبحة
وشهيد الخريطة،
وأنا ولد الكلمات البسيطة..
رأيت الحصى أجنحة،
رأيت الندى أسلحة..
عندما أغلقوا باب قلبي عليّا
وأقاموا الحواجز فيّا..
صار قلبي حارة
وضلوعي حجارة..
أنا من سلالات الزنابق والمشانق،
والريح تحبل ثم تنجبني
وترميني على كل الجهات..
في شهر آذار قبل ثلاثين عاما
وخمس حروب،
ولدت على كومة من حشيش القبور المضيء.
ولدت على اليابسة..
في شهر آذار تنتشر الأرض فينا
ونكتشف البحر تحت النوافذ”*..
أحمل تأشيرة دخول المحيط
وأخرى إلى البحار.
التصاريح كثيرة فوق متون البواخر،
وتصاريح البلاد
كلماتٌ كلماتٌ كلماتْ..
أهيم في محيط واسع
وجسدي عالق في شباك الصيادين.
“وحدكَ..
البحر من ورائكَ
والبحر من أمامك
والبحر عن يمينك
والبحر عن يسارك،
ولا يابسة إلا هذه اليد الممسكة بحجر هو الأرض.
لدينا كثير من الوقت يا قلب فاصمد،
ليأتيك من أرض ليليس هدهد.
بعثنا الرسائل..
قطعنا ثلاثين بحرًا
وستين ساحل.
وما زال في العمر وقت لنشرد..
أُحِب أُحَبّ أُحبك.
لا استطيع الرجوع إلى أول البحر..
لا استطيع الذهاب إلى آخر البحر .
قولي.. إلى أين يأخذني البحر في شهوتك؟
احِب أُحَب احبك.
لكنني لا أُريد الرحيل على موجتك..
دعيني اتركيني كما يترك البحر أصدافه
على شاطيء العزلة الأزلي.
أنا العاشق السيء الحظ
لا أستطيع الذهاب إليك
ولا أستطيع الرجوع إليَّ..
وما باليد حيلة..
إنما..
حاصر حصارك لا مفرّ..
حاصر حصارك بالجنون.
ذهب الذين تحبهم ذهبوا..
فإمّا أن تكون أو لا تكون..
إنّا سنذهب في الحصار
حتى نهايات العواصم..
وأعدّ اضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحث عن حدود أصابعي
فأرى العواصم كلها زبدا..
سقط القناع ولا احد..
إلاك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان.
موجة من البحر كنت أتابعها وهي تنكسر على صخرة.
موجة من بحر تحمل بعض الرسائل الأخيرة
وتعود إلى الشمال الغربي الأزرق والجنوب الغربي اللازوردي،
ترجع إلى شواطئها وقد طرّزت انكساراتها بالقطن الأبيض..
موجة من بحر أعرفها،
ألاحقها بالشجن وأراها وهي تتعب قبل بلوغ حيفا أو الأندلس،
تتعب فترتاح على جزيرة قبرص..
البحر يمشي في الشوارع،
البحر يتدلّى من النوافذ.
البحر يهبط من السماء ويدخل الغرفة.
أزرق. أبيض.. زبد.. موج..
لا أحب البحر.
لا أريد البحر لأنني لا أرى ساحلا ولا حمامة..
لا أرى في البحر غير البحر.. لا أرى ساحلا.. لا أرى حمامة..
“أنا العاشق الأبدي السجين البدهيّ..
رائحة الأرض توقظني في الصباح المبكر..
قيدي الحديديّ يوقظها في المساء المبكّر..
ليليس:
أنا الأرض فيا أيها الذاهب إلى حبّة القمح في مهدها،
أُحرث جسدي..
أيها الذاهب إلى جبال النار
والى التلال والأمواج،
عرِّج على جسدي”*..
ولقِّحْهُ بِذار..
عوليس:
كيف أشتاق اليكِ يا حبيبة،
وأراك عن بعد فتبتعد الجديلة..
وتنتحر الكتيبة..
“حملتُ صوتَك في قلبي وأوردتي،
فما عليك إذا فارقت معركتي.
فإن سقطت وكفّي رافع علمي،
سيكتب الناس فوق القبر:
“لم يمت”..
وضعوا على فمي السلاسل،
ربطوا يدي بصخرة الموتى
وقالوا: أنت قاتل”*..
هل أنا سيزيف أم عوليس يا أم المقاتل؟
”طردوني من كل المرافيء.
أخذوكِ منّي،
ثم قالوا:
أنت لاجيء.
نيرون ما مات وأيضا
لم تمت روما
ولكن
هي لا زالت تحاول أن تقاتل،
وحبوب سنبلة تجفّ،
وربما يوما تخفّ
فتملأ الوادي سنابل”*..
ليليس:
حبيبي الكليم..
سلام سليم،
أرق من النسيم..
تعال إليّ،
وسلّم عليّ..
ومدِّد همومك فوق سجّاد جسمي.
ها هم الخطّاب
يرقصون ليوم زفافهم عليّ،
ويقولون:
“ريته ما يرجع،
وان رجع ريته يرجع موجّع أو محمّل..”
سلامة قلبك حبيبي..
أُماطلهم في نسيج الكفَن،
أقول لهم:
أُلَبِّي الطّلب،
حين يفنى الوطن.
أأنهي النسيج لكي يخطبوني؟
أأنسج نهارا وأنقض ليلا؟
عساك تعيد اليّ الوطن..
تعال حبيبي مللت البعاد..
وْيومِة ما كثروا الخطّاب ع الأبواب
راسي شاب وقلبي ذاب..
وينك يا أغلى الأحباب؟
عوليس:
سَلام عليكِ..
يا ممتلئة نعمة،
الشعب معك..
مباركة أنت في النساء..
أصيلة انت بين النساء يا ليليس..
سلام عليك،
سلام عليكم،
سلام اليكم..
سلام سلام..
سلامُ محبّة لكل الأنام.
يمام حمام يحب اللقاء،
لقاء الأحبة فيه عناء،
ودرب اللقاء طويل طويل.
سلامُ جليلٌ لكل خليل..
سلام عليكم سلام اليكم..
سلام كهذا إليه أميل: سلام سليم..
ليليس:
عوليس يا إكليل الغار..
برمشة عين تمر سنين..
واحد زقّف ثاني طار،
بَغزِل في نولي في نهار
وبفرط نولي بنصّ الليل،
وثاني يوم من الأول بَبدا المشوار..
عوليس، انت تاج راسي.
عوليس:
إنْ متّ..
احفروا لي شي تمثال
في قلوب الأجيال الجاي،
وإن عملتو لي شي تذكار،
خلُّوا تمثالي رِجَّال
واقف فوق السفينة
بيجدّف تنّو ييصل
شي مرّة لبرّ النجاة..
إن متّ من الشيخوخة
أو من غدرات الزمان،
وإن قتلني شي انسان
وما لقيتو لجسمي مطرح تدفنوني..
إحرقوني مع سفيني،
وانعفوني فوق الميّ..
ذرّوا رمادي فوق بحر أبيض أو أسود أو أحمر أو أزرق..
انعفوني في المحيط..
كل ما أعني بأني
أشتهي في أن أعود،
حيث شاء قدري:
مِنَ البحر والى البحر أعود..
إن مانَع الخُطاب رؤية جثّتي بين الجثث..
إن صعّبوا دفني
في بقايا موطني تحت الثرى..
فهل يمنعون الثريا عني وماء البحار؟
وإن قبلوني،
وإن قبلتموني على علّتي،
فأطلب الحل الوسط:
إدفنوني في ثرى أرضي قليلا..
كي استريح قليلا من السفر..
وعندما يصْلَبُّ عودي،
وتصبح عظامي بياضا جليّا،
رتّبوني من جديد،
واحفظوا عظمي الى حين..
في خوابي الزيت او فوق الحصيرة،
وعطّروني بالطيوب،
وصَلّوا عليّ…
وانقعوا جسمي بزيتي في الجليل،
وأشعلوني..
علّني بعد مماتي
أصبح الشمعة المضيئة للسبيل،
وعين أطفال الجليل والخليل..
وعندما تخبو شمعة حياتي الثانية،
اجمعوا كل الرماد
وانثروني فوق ماء..
اعزِموا 5 سُكّان “بالي”،
إنهم أدرى بما أوصي،
وقالوا عندما زرت الجزيرة:
“طقسنا هذا جميل..
طقسنا موت عليل..”
اسألوهم يعرفون،
كل ما دار ببالي..
هل تؤدّون الوصيّة؟
أم أنا رهن الطقوس العربية..
وأبقى،
في مماتي، عبدكم مطيعكم رهن القضيّة؟
اللهم اني بلّغت، وحرّيتي رهن لحرّيتكم..
“يا أرض لا تغطي دمي ولا يكون مكان لصراخي”**،
ويا مياه ذوّبيني فيك فأرجع نطفة ماء..
عندها..
“لا يغمرنّي سيل المياه ولا يبتلعني العمق ولا تطبق الهاوية عليّ فاها”** .
“ليت وصيّتي الآن تُكتب.
يا ليتها رُسمت في سفر ونُقرت إلى الأبد في الصخر بقلم حديد ورصاص”*.
ليليس:
سلامة قلبك حبيبي..
تروح وتتركني لحالي سبيّة؟
لا تْموتْ..
بعد بكّير ع الوصيّة..
إرجع يا أغلى الأحباب..
اولادنا قاعدين يستنّوك،
ومسكين الوالد أبوكْ،
وإمَّك هاي المسكينة ذلّتهم الشيخوخة..
عوليس:
“صوتكِ الليلة سكين وجرح وضماد
ونعاس جاء من صمت الضحايا.
أين أهلي؟
خرجوا من خيمة المنفى
وعادوا مرة أخرى سبايا..
منفاي فلاحون معتقلون في لغة الكآبة..
منفاي سجانون منفيون في صوتي وفي لغة الربابة.
منفاي أعياد محنطة وشمس في الكتابة.
منفاي عاشقة تعلق ثوب عاشقها على ذيل السحابة.
منفاي كل خرائط الدنيا وخاتمة الكتابة..
بيننا أفق دخان ورمال
وعصور أرهقت ذاكرتي،
وملايين أغانٍ وبحار وجبال، وتناديني: تعال؟”*
ليليس:
أسمع صوت الحبيب ينادي، يناجي.
ووجه بعيد قريب أراه شحيب..
تعال تعال..
يطيب الوصال معاك،
وإن وقف الخطّاب شاهرين السيوف بوجهك،
فليس عليك عتاب،
وإلا فحاول حبيبي السّكن
عند حفاف الوطن بقرب الحدود..
هناك تكون المسافة أقرب
لأشتمّ عطرك وألهو بقربك..
في الليل على فراشي طلبَتْ مَن تحبه نفسي فما وجدته. أني أقوم.. ها أنا أنهض.. يا إلهي هل أنا امشي أم لا أزال نائمة؟ ربما أنا نائمة ولكن قلبي مستيقظ.. تابعي أيتها الصورة..
صوت عوليس: تابعي في المشي أيتها النائمة على حفاف الهاوية.. توخّي الحَذر..
ليليس: اين أنت حبيبي؟ أسمعك ولا أراك.. أطوف في المدينة في الأسواق وفي الشوارع أطلب من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته. وجدني حرس الخطّاب الطائف في المدينة فسألت عن طيب خاطر: أرأيتم من تحبه نفسي؟ فداسوا بحوافر خيولهم أوراق دوالِيَّ. حبيبي.. ها أنا أفرِد اوراق الدوالي بساطا تمشي عليه الى فراش حبنا. أُخرجن يا بنات كنعان وانظرن عريسي القادم من خلف غابة البلوط يتزنر برائحة القندول ويتكلل بذهب النخيل ويتعطر بالحنّون وقلادته عنب الخليل. ها هو يطلّ علي من أعالي جبل الشيخ أو من أعالي الجرمق أو من ميناء غزة. تحت لسانك عسل ولبن، ورائحة ثيابك كرائحة لبنان.. صوتك كموال من لبنان وَكَعَتابا من أعالي الجليل.
صوت عوليس:
“أنا آت إلى ظل عينيك..
آت من جلودٍ تحاك السجاجيد منها
ومن حدقاتٍ عُلِّقت فوق جيد الأميرة عقدا.
أنت بيتي ومنفاي..
أنتِ..
انتِ أرضي التي دمّرتني..
أنتِ أرضي التي حوّلتني سماء..
أنا آت الى ظل عينيك.. آت،
من إناء الموز أولد من جديد..
من قشور الأساطير آت..
أنت لي..
أنت حزني وأنت الفرح..
أنت جرحي وقوس قزح..
أنت قيدي وحرّيتي..
أنت طيني وأسطورتي..
أنت شمسي التي تنطفيء..
أنت ليلي الذي يشتعل..
أنت ليلى المجدلّية
وأنا قيس المعنّى..
أنت موتي وأنت حياتي..”*
ليليس:
شدّيت لَّك جَدْعِيَّةٍ6 بِالْكُونِ مَنْسُوبة،
تسمع هدير الزغاريد نوبة على نوبة..
صوت عوليس:
غنى الحادي وقال بيوت،
بيوت وغنّاها الحادي،
نبرة صوته تهزّ الكون،
تدوّي في قاع الوادي..
غنّى الحادي وقال بيوت
بيوت وغناّها الحادي،
تجمّع فوقه رفّ نسور
بتحرس أرضك يا بلادي..
غنّى الحادي وقال بيوت،
بيوت وغنّاها الحادي،
صوت الكفّ يخلّي الصف،
يهزّ جيوش الأعادي.
ليليس:
يا غزيّل يا غزّاوي،
يا اللي للسّفَر غاوي،
حبّك لقلبي كاوي،
يا غزيّل يا حبيّبا..
نلتقي بعد قليل..
جهّزوا العدّة هيا يا رفاقه،
واندهوا لاولاد عمّه ييجو له،
بالطبول وبالزمور يلعبو له،
عَ الخيول المْبَرْشَمِة يْطاردو له..
قلت له عوليس ويا ابن الكرام،
عيرني سيفك ليوم الكيوان قال:
صوت عوليس:
سيفي حليفي ما أعيره،
جاي مْسقّط من بلاد اليمان..
ليليس:
أراك هنا،
أهذا حلم أم هذي حقيقة؟
وهل اشتقتَ اليّ؟
صوت عوليس:
“كما يشتاق الإبل إلى جداول المياه تشتاق نفسي إليك يا ليليس.. ما أجمل خديك بسُمُوط وعنقك بقلائد.. ها أنت جميلة يا حبيبتي ها أنت جميلة. عيناك حمامتان..” ** عيناك حمامتا سلام فوق ربوع الوطن..
ليليس: “أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى، أين تربض عند الظهيرة؟ لماذا أنا أكون كمقنّعة عند قطعان الآخرين؟ إِجذبني وراءك فنجري.. عوليس.. “قبّلني بقبلات فمك لأن حبك أطيب من الخمر..”**
صوت عوليس: يا إلهي ما أحلاك.. ازددت سمارا وخَمارا7..
ليليس: (تضحك بغنج وإغراء) بل أصبَحْتُ سوداء..
صوت عوليس: أنت سمراء وجميلة كأطفال الخيام..
ليليس: الشمس قد لوّحتني8 وليس عيبا أن تسكن الشمس وجهي..
صوت عوليس: بل هذا سرّ جمالك..
ليليس: ” أولاد عمّي وقسم من بني أمي جعلوني ناطورة الكروم. أما كرمي فلم أنطره، ولكن على الأقل..
كروم اللوز سيجها فؤادي..
صوت عوليس: دعينا الآن من السياسة..
استريحي قليلا.. على كتفيّ…
“ها أنت جميلة يا حبيبتي وحلوة وسريرنا أخضر؟ جواهر بيتنا أرز لبنان وروافدنا سَرْو”** ورمّان وحقول خير وحنطة.. زيتوننا بحر من السلام والعزّة.. طبيعتنا نوّار اللوز والحنّون، وجبالنا سوسن.. وِدْيانُنا نرجس، وأعنابُنا تسكن قمم الجليل والخليل..
ليليس: أنا نرجس الكرمل وسوسن الأودية وحنطة مرج بن عامر.. رائحتي جعساس9 وفيجن وزعتر وقندول وسرّيس..
صوت عوليس: يا إلهي لقد نسيت.. كيف غابت هذه الروائح عنّي في زحمة التلوُّث العصري؟
ليليس: “أسندوني بأقراص الزبيب أنعشوني بالتفاح فأني مريضة حبا. شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني..
صوت عوليس: ها أنا ذا أربض في مراعيّ الخضر وأرِد الى مياه الراحة”**.. ها أنا ذا أمسح جبهتي بزيت زيتون الجليل ونابلس، وبدموع أهلي في مخيمات غزة والشتات..
ليليس..
ارفعي راسك يا مرفوعة الراس
لا فيك عيب ولا قالت الناس
ارفعي راسك ولعوليس قولي له
احنا صناديق الذّهب والناس لبّاسة..
ليليس: إِفرحي وتهللي يا أرض كنعان.. هللي يا قدس واستشيطي غيظا وغضبا وحقدا يا أورشليم.. ها هو حبيبي قادم.. تعال يا حبيبي.. ها نحن نخرج إلى الحقل وها نحن نيبت في القرى.. يا إلهي.. لماذا أنت حزينة أيتها القرى والبلاد؟ لماذا أنت مشتّة هكذا وشاردة كعيني حبيبي؟ أفيقي واستقبلينا.. بَكّرْنا إلى الكروم. ها قد أزهر الكرم وها قد تفتح القُعال10.. ها قد نوّر الرمان. ها قد زهّر اللوز؟ عرائش الدوالي تظلّلنا وتستر وصالنا بعد أن عدنا من اللعب في الحقول وبعد رحلة البحث عن أعشاش العصافير. زقزقنا مع صغارها. ها نحن نقطف الثمار فأخذنا منها واحدة وقدّمنا عشرة قربانا للشهيد. طلعتك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق. لا زلتَ فتياًّ كالأرز.. رأسك عليك مثل الكرمل وشعر رأسك كأرجوان.
اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك، لأن المحبة قوية كالموت.
صوت عوليس: ايتها الجالسة في الجنات، الأصحاب يسمعون صوتك فاسمعيني وأسمعيني صوتك..
ليليس:عوليس حبيبي، أسمعك، فهل تسمعني؟ أين أنت؟
صوت عوليس: “افتحي يا زوجتي يا حبيبتي.. يا عصفورتي.. يا كاملتي.
ليليس: قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟ قد غسلت رجلي فكيف أوسّخهما؟ حبيبي يمدّ يده من الكوّة، تئنّ عليه أحشائي. أقوم لأفتح لحبيبي ويداي تقطران مُرّاً، وأصابعي مرُّ قاطرٌ على مقبض القفل. فتحت لحبيبي ولكن حبيبي تحوّل وعبر. نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني.
أصوات: أين ذهب حبيبك أيتها الجميلة بين النساء؟ أين توجّه حبيبك فنطلبه معك؟
ليليس: حبيبي نزل إلى جنّته إلى خمائل الطيب ليرعى في الجنّات ويجمع السوسن. أنا لحبيبي وحبيبي لي. الراعي بين السوسن. انظروا إلى هناك، لقد أزهر الكرمل. وهناك يتفتّح القُعال. متّعوا أنوفكم وأنظاركم بنواّر الرمان واللوز..”** يا إلهي، ماذا أرى؟ الجبل يحترق..
خاتمة الحكواتي وحكمته: أيتها الآلهة.. أيها البشر.. “سلّموا أحكامكم لعوليس وبِرَّكم لليليس. عندها سنُدين شعبنا وسائر الشعوب بالعدل وسُندين المساكين بالحق. عندها ستحبل الجبال سلاما للشعب، والآكام ستدرّ بالبِرّ. نقضي لمساكين الشعب. نخلّص بني البائسين ونسحق الظّلم.. يشرق في أيامنا الصّدّيق ويكبر السلام إلى أن يضمحل القمر”**. عندها نملك قلوب البشر بالحب، من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض.
******
هوامش:
* نصّ من شعر محمود درويش وأحيانا تصرّفت به أو أضفت إليه: من ديوان أعراس، أوراق الزيتون، عاشق من فلسطين، أحبّك او لا أحبّك، هي أغنية هي أغنية، ذاكرة للنسيان، تحت الشبابيك العتيقة، العصافير تموت في الجليل، تلك صورتها وهذا انتحار العاشق، يوميات جرح فلسطيني، حبيبتي تنهض من نومها، مديح الظلّ العالي.
** نص من العهد القديم: نشيد الإنشاد، المزامير، أيوب، وفي بعض المواقع نقلت الاقتباسات بتصرّف.
1- ليلي: اسم التحبب لليليس، وفي الأصل كانت “أمّي”.
2- عن أحمد دحبور بتصرّف.
3- للمتنبي
4- الما بيطاله- الذي لا يطاله، أي لا يستطيع الوصول اليه، لأنه أطول منه، والمعنى أن الصياد لا يستطيع التغلب عليه او اصطياده.
5- اعزموا: وجّهوا الدعوة الى
6- جدعية: فرس أصيلة.
7- خَمارا- بلون الخمرة
8- لوّحتني: غيّرتني وسفعت وجهي.
9- جعساس: ميرمية، أو مريميّة. نبتة ذات رائحة عطرة تكثر في فلسطين وتستعمل كالشاي.
10- القُعال: ما تناثر عن نَوْر الشجر من كِمامته او وعائه.
(كاتب ومسرحي فلسطيني)