أنا “المُطبّعُ” في “أورشليم – القُدس”
تتنفّسُ هواءً يأتِها من سماءِ حُزنٍ عُلّقَ في مداها ثُعبانُ إسمنتٍ طولهُ تسعة أمتار،
يُحيلُكَ،
إن كنتَ تجيدُ التّناصَ،
إلى برلينَ،
إلى الجنوبِ في أرضِ السّوادِ – أفريقيا،
أنا “المُطبّعُ” في “أورشليم – القُدس”
|علي نصوح مواسي|
(ألقيت القصيدة خلال مهرجان “متر على متر الرّابع” للشعر الحديث، والذي أقيم في الحديقة البوتانية بمدينة القدس المحتلّة (12-14\07\2011)، وقد كتبت خصّيصًا لمناسبته. تعرّضَ صاحبُها لحظة انتهائه من إلقائها لهجومٍ كلاميٍّ عنيفٍ وصراخ من بعضِ الحاضرين، الذين كانوا في غالبيتهم العظمى من اليهود، وسبب ذلك أنهم “اضطّروا أن يسمعوا اللغة العربيّة مدّة عشر دقائق”، على حدّ تعبيرهم. وتطوّرَ الأمرُ إلى هجومٍ على منظّمي المهرجان أيضًا، ومشادّاتٍ كلاميّة داخل الجمهور نفسه. وقد أصرّ الشاعر عدم الانصياع لطلب ترجمتها أو شرحها لهؤلاء، الذين اعتبروا أسماء الأماكن في القصيدة وكلماتها “عنفًا”.)
في طريقي إلى هنا
منَ الشّيخ مونّس الّتي لم تَعُد قائِمة
عبرَ بساتينِ يافا البُرتُقالِ الّتي لم تُعُد قائِمَة
ارتِقاءً سُفوحَ صنوبَرِ القسطلِ الّتي لم تُعُد قائِمَة
وخرّوبِ عمواسَ الّتي لم تَعُد قائِمَة
وأطلالِ لفتَةَ الّتي لمّا تزّالُ قائِمَة
لكنّ أهلَها ليسَ بعدُ قائمينْ..
في طريقي إلى هُنا
إلى أورسالم / أورشليمَ / إيليا / المدينةِ المُقدّسة /
القُدسِ / بيتِ المَقدِسِ
إلى حديقةٍ تُطلُّ من التّاريخِ على التّاريخ
لا تكتفي
بسياقِ نرجِسِها الآنيّ وسواقي الشّذا
بالبركةِ، على هدْبِها المخضرِّ يجلِسُ كأسا نبيذٍ وموسيقى كلام
بألعابِ ضوءٍ تُداعِبُ خُصَلَ الأشجارِ النّيام
لا تكتفي،
بعطرٍ يشربهُ النّسيمُ من قواريرِ النّدى وأنفاسِ الغرامْ
لا تكتفي
تُذَكّرُ – وفقط يتذكّرُ المَغلوبُ -
بدِماءِ شوكٍ نبتت من أثَرِ المُجَنزَراتِ نحوَ أحلامِ المدينَة
بغربانِ عتمٍ تُعشّشُ في خُوَذِ الجُنودِ، تزعَقُ فوق قبّتها الحزينة
بأسرابِ عُشيباتٍ طريّةٍ في أوّلِ انبعاثِها بعد الحرائقِ، تُطِلُّ كسجّادَةِ صوفيٍّ من مساماتِ تربتِها الرّهينة
تتنفّسُ هواءً يأتِها من سماءِ حُزنٍ عُلّقَ في مداها ثُعبانُ إسمنتٍ طولهُ تسعة أمتار،
يُحيلُكَ،
إن كنتَ تجيدُ التّناصَ،
إلى برلينَ،
إلى الجنوبِ في أرضِ السّوادِ – أفريقيا،
ومحمياتِ الهنودِ الحُمرِ في بلادِ كولومبوس…
في طريقي إلى هُنا،
إلى حديقَةٍ تُطلُّ من التّاريخِ على التّاريخ
لأتلو أنايَ القصائِدَ بِلُغَةٍ كادَ يجهلُها المَكانُ،
وهيَ من كانَت مجازَهُ، موسيقى معانيهِ، قيثارَهُ، أفكارَهُ، أخبارَهُ، أسرارَهُ، أحبارَهُ، أحلامَهُ، أشياءَهُ، أسماءَهُ، أفراحَهُ أتراحَهُ، ولسانَ مؤمنيهِ خارِجَ اكتِظاظاتِ المعابِد وَطُقُسِ طوائِفِ حُجّاجِ الشّمال..
كانَتْهُ فكانَها
كأنّهاهو كأنّهُها
كُنههُ وكُنهها
خُرّبَت ناياتُها
كُسّرَت جرّاتُها
بُعثِرَت قواريرُها، أقانيمُها
أنكرها السّفراديّ، واحتقرها الأشكنازيُّ
لم يبقَ منها
سوى حاراتٍ وزُقاقاتٍ تَحبِسُها الظّلالُ، يَبحَثُها علماءُ الوَصفيّةِ والأنثروبولوجيا الطّارئونَ، ظاهرَةً طارِئَة،
لم يبقَ منها سوى شواهد قبورٍ
تُحفَرُ لها قُبور،
لم يبق سوى أثرٍ قاتِمٍ من خطّ الطّغرّاءَ في سقفِ خانٍ: “أقامَهُ العبدُ للهِ، المُظفّرُ باسمِهِ ولأجلِهِ، عامَ ألفٍ…”
ومآذِن تقرَعُ أجراسَها على مقامِ النّهاوندِ بصوتِ شيخٍ يُنسَبُ إلى طرابلس،
يُلّوّثُ رومانسيّةَ ليلِ “أناستاسيا” القادِمَةِ من وَطَنِ البياضِ الجليدِ، تُريدُ شَطبَهُ من قائِمَةِ ألحانِ الحيّزِ العبرانيّ..
لم يبقَ منها سوى جُزُرٍ من بيوتٍ نأت بِغُربَتِها، تحيطُها قلاعُ يهوا
تُحارِبُ لتبقى
بما تبقّى لها من اسمٍ يُفسّرُ أصلها وأهلها
“سلوان”،
يُباغِتها لفظٌ طارئٌ “جان هاميلخ”، يحلمُ بأن يمشي اختيالاً فوق أطلالها جنّةً
سيكونُ – لو كانَ – حديقَةَ سحرٍ،
لا لأنّها من عصرِ الملوكِ الانبياءِ،
إنّما لبلدوزرٍ غرائبيٍّ
يُحلُّ في ومضةٍ أسطورَةً
موقعَ الانسانِ،
محلّةَ الحُلم،
- هكذا تمامًا يضعُ ساحِرٌ أرنبًا في قبّعة،
بخفّةٍ وبساطةٍ يدهشان.. -
حديقَةٌ كالّتي فيها أنا الآنَ أهتِكُ عرضَ موشّحي النّثريّ، على منصّةٍ تطيقُ أن تحملني شكلاً بلا معنى، لُغَةً بلا فحوى
قانونًا بلا وترٍ وإيقاع،
حديقَةٌ تُطِلُّ منَ التّاريخِ على التّاريخ
في طريقي إلى هنا
يذبَحُني السُّؤالُ:
يا أنتَ.. يا أيّها الشّاعِرُ التّائِهُ المجنونُ المَطعونُ المأفونُ الضّعيفُ الغبيُّ العجيبُ الغريبُ اليدِ واللّسان
لمن ترفَعْ هديلَكَ في هذا المساءِ الخميسيِّ الصّيفيّ الملطّخِ بالعرق؟
لداوودَ وبنيهِ وقد أخرَسَتْ أفراسُهُم حمائِمَ الأسوار؟
لأحلامِ يبوسَ شرّدَها إسرائيلُ صوبَ صورٍ وعامونَ وبابلَ وتَدمُرَ وطيبَة؟
منْ إليكَ إلاّكَ سَيُصغي
في فَلَكٍ ضَجيجٍ لا تَطرَبُ كائِناتُهُ لغيرِ طبولِ “كول تساهَل” و”يديعوت أحرونوت”؟!
لمن الحروفُ الضّادُ تبذرها في أرضٍ يباب ترُدُّ عليكَ بِعُقمِ النّبات؟
لمن القصائِدُ
في زَمَنٍ ما اكتفى بما أنجَزَ التّاريخُ من آآآآآآهٍ وآآآآآآه
فتصيرُ ذاكِرَتُك، ذاكِرَةُ المغلوبِ، جريمَة
ويصيرُ حصارُكَ المتسلّلُ من كُتُبِ المعارِكِ الفانتازيّةِ الملحميّةِ فضيلة
وتصيرُ أعدادُكَ قُنبُلَةً موقوتَة
وتصيرُ أغانيكَ وألوانُكَ الشّاحِبَةُ احتفالاً بمدينتِكَ عاصمةً لثقافَتِكَ عمليّاتٍ تخريبيّةً
وتصير مُقاطَعَتُكَ لمن يُقطّعكَ كارثَة
وتصيرُ أحلامُ عودَتِكَ حربَ إبادَةٍ
ويصيرُ.. وتصيرُ
وتصيرُ.. ويصيرُ
في طريقي إلى هُنا
احتمالُ التّوقُفِ فجأةً، والعودَةُ نحو التّصالُحِ مع الذّاتِ
شهوةُ المأزوم
يَضغَطُ التّخَبُّطُ – التّوتُّرُ – الحسابُ – الارتيابُ على صُرصاريّتِكَ بثِقَلِ الحضارَةِ، الأُمّةِ، المشروع:
“تطبيع”..
يا قارعًا كُؤُسَ القصائِدِ ما الخمورُ سوى نجيعْ
قامَ من وَجَعٍ أسيٍّ، سالَ من وَطَنٍ صَريعْ
نامَ في جفنِ الحصارِ، وحليبِ أحلامِ الرّضيعْ
فهل تُصالِحُ، هل تبيعْ؟!
في سوق نخاسةِ مجدهم، شعرَكَ، عبدًا وضيعْ؟!
هل تُصالِحُ هل تبيعْ؟!
في طريقي إلى هُنا
تُزعِجُني الفكرَةُ:
لماذا كُلّما نَطَقَت الضّحيّةَ الأَلَمَ، صَرَخَت الوَجَعَ، يُحاوِلُ الجزّارُ إقناعَها بأنّها بألف خير، ويلقي في وجهها احتمالاتِ “لو”؟
هل هُوَ هَوَسُ إتقانِ التّشكُّلِ المفرِطِ أمامَ مرآةِ الجريمَة؟
في طريقي إلى هُنا، يمُرُّ الخيالُ على أسماءَ إرميّةٍ من عصرنا: آلموج بيهر، ساسون سوميخ، ليزا، أميرة هيس، جلعاد مئيري، أمنون راز، يهودا شنهاف، يعيل ليرير، شير، إيلان بابيه…
على… و…
أيضًا…
ممممم…
أحارُ:
يا أنتَ المحتفي بالآخرِ في عتمِكَ المُدلَهِمِّ،
هل تُذيبُ حافِلَةُ شموعٍ قارَّةَ جليد؟!
على من تُعوّلُ يا أيّها الشّاعِرُ التّائِهُ المجنونُ المّطعونُ المأفونُ الضّعيفُ الغبيُّ العجيبُ الغريبُ اليدِ واللّسان؟
في طريقي إلى هُنا،
مزّقتُ كُلّ النّصوصِ الّتي كنتُ أنوي تعليقها أمواجَ صوتٍ على حبالِ الهواءِ ما بيني وبينَكُم
أخرَجتُ بيضاءَ مُسطّرة وكتبتُ ما يجِبُ أن تسمعوا،
لم أحفَل كثيرًا بحُدودِ الايقاعِ أو رسمِ الايحاءِ
فلا وَقتَ للشّعريّةِ والبلاغَةِ والتّأمُّلِ بالنّسبَةِ إلى “مُخرِّبٍ” يَقتَحِمُ وحيدًا ساحَةَ المُواجهة، ليُفجّرَ لُغَتَهُ في أسماعِكم
كتبتُ إليكُم
وأنا أنطَلِقُ منَ الشّيخ مونّس الّتي لم تَعُد قائِمة
عبرَ بساتينِ يافا البُرتُقالِ الّتي لم تُعُد قائِمَة
ارتِقاءً سُفوحَ صنوبَرِ القسطلِ الّتي لم تُعُد قائِمَة
وخرّوبِ عمواسَ الّتي لم تَعُد قائِمَة
وأطلالِ لفتَةَ الّتي لمّا تزّالُ قائِمَة
لكنّ أهلَها ليسَ بعدُ قائمينْ..
في طريقي إلى هُنا
إلى أورسالم / أورشليمَ / إيليا / المدينةِ المُقدّسة /
القُدسِ / بيتِ المَقدِسِ
إلى حديقةٍ تُطلُّ من التّاريخِ على التّاريخِ
كتبتُ لأقولَ لَكُم:
لا آتي إلى هُنا كي أتسامَحَ
لأنّني لم أعرف الكُرهَ يومًا قبلَكُم، ولا بكُم، ولن أعرفهُ بَعدَكُم..
لا آتي إلى هُنا لأقولَ: إنّي أُحبّكُم
أكذِبُ إن قلتها
فالحُبّ صِدقٌ
جُهدُ التّفاضُلِ من عاشقينِ صوبَ لقاءِ امتزاجٍ مُفترض
لا عَطفَ “يساريٍّ” في فُقاعَةِ تل أبيبَ على مُضطّهَد
لأنّهُ إجابَةُ التّساؤُلِ: هل يُحِبُّ مقتولٌ قاتله على مذبَحِ السّبتِ وفي قُدسِ الأحدْ؟
لا آتي إلى هُنا لأمارِسَ فنَّ التّعايُشَ، لأثبِتَ لأحَدٍ سلامي وسلمي وسلامتي
فأنا الأندَلُس
جدّي الرّمبامُ ابنُ ميمونَ
عربيٌّ يُتقنُ العبريّةَ في صلاتِهِ
بيدٍ يُفسّرُ التّوراةَ،
وبيدٍ يمزِجُ أكاسيرَ الحياةِ في بيمارستان الخليفَة..
لا آتي إلى هُنا لأقرعَ كؤُسَ النّبيذِ في أعراسِ ثقافتكُم البهيجة
لأنني أينما حللتُ أحمِلُ مأتمي
قصيدَة
لا آتي إلى هُنا
ضيفًا ترحّبونَ بي
فأنا المكانُ
لا آتي إلى هُنا أُعلِنُ دولَةً
فالكلامُ في عصرِ الثّرثَرَةِ والكَذِبِ والنّفاقِ واللّحسِ، لا يمكِّنُ صاحِبَهُ سوى من استئجارِ شقّةٍ من غرفَةٍ واحدة، فيها سريرٌ واحِدٌ، وطاولةٌ واحِدَةٌ، وكرسيٌّ واحِدٌ، ورفُّ كُتُبٍ واحِدٍ، وساعةُ منبّةٍ واحِدَةٌ، وشُبّاكٌ واحِدٌ يُطِلُّ على أمَدٍ من ظلاااااااااااااااااااااااااااام..
لا آتي إلى هنا إلاّ لأطلعَكُم على وَجَعِ الحمام
ولأفرُشَ خدودَ مدينتي بكنعان الكلامْ
ولتعرفوا بأنّكُم لا تعرِفوا
“كيفَ يبني حَجرٌ من أرضِنا سقفَ السّماء”
ولتعرفوا بأنّهُ
إمّا أن تعترِفوا وتنكسفوا
فتنكشفوا على معنى التّواضُعْ
وتقترفوا التّراجُعْ
وإمّا أن
تنْصَرِفوا..
3 أغسطس 2011
وشو يعني؟ معاهم حق. رايح تلقي شعر في القدس الغربية بال”حديقة البوتانية” (عمري ما سمعت فيها وأقسم يمين انو اهالي البلاد الاصليين، يعني احنا، عمرهم ما راح يطلعو بهيك اسم)، وبالعربي لجمهور غالبيته (قصدك كله؟) يهودي، ومستغرب؟
أصلا شو وداك؟ هذا الاكثر مثير معرفته واللي راح يخليني (اذا اقنعتني) أقرا الشعر (بعدني ما قرأته).
28 يوليو 2011
اجدني واقف حيران فلقد عجز الكلام واللسان عن التعبير ….اقل ما يمكن ان يقال انها رااااااااااااااااائعه……