في ذكرى رحيل محمود، لن أستعيد سوى حكاية فرج صانع المخللات الذي أحبه محمود درويش/ زياد خداش
- فرج صديقي يؤسفني أن أقول لك أن المخلل سبب رئيس للنوبات القلبية.
- شو بتقصد يا أستاذ؟
- يعني مخللاتك هي التي قتلت محمود يا فرج.
| زياد خداش |
كلما مررت بفرج آذن مدرستي في ممرّ الطابق الثاني أسأله بإلحاحي الوغد: يا فرج: هل من قهوة تسند روحي؟ يتأفف فرج: يا أستاذ القهوة بس الصبح وبعد الحصّة السّابعة مش هيك اتفقنا؟، بعد كلمات فرج التوبيخية أخرس وأحشو فمي بمنهاج مدرسيّ وأذهب إلى حصتي القادمة.
غريب ولا يبتسم أبداً هو فرج، حتى حين ينكّت، غريب وقريب، ونحيل جداً لدرجة أني لا أرى له مؤخرة، هل يذهب إلى الحمام؟ وكيف يخرج فضلاته؟
أمضي وقتاً طويلاً معه، في أوقات الفراغ وفي الاستراحة، لا أفارق فرجًا. فرج يقول كلّ ما يحس بأنه يجب أن يقال، يغضب حين يجب أن يغضب، لا يمدح أحداً ولا يذمّ أحداً. يبنيني فرج، يبنيني بطريقة لا أفهمها (كنت يا أستاز البس بلوزة شتوية في آب وأنا أحرث حقلي، كان الناس يمرون عني وهم يسخرون: بلوزة شتوية في آب؟ كنت أسخر منهم في سري وأنا أقول لهم دون أن يسمعوني ولا يهمني إن سمعوا أم لا: أنا اقنعت نفسي أن الدنيا برد، فأنا بردان الآن).
فرج يقتلني بسعادته وهو يحدثني عن الأفعى التي قرصت ابنه وتركها تمضي دون أن يحاول قتلها بل ومنع زوجته من قتلها: يا أستاذ الأفعى قامت بعمل يؤذينا صحيح، لكنها كانت تعبّر بصدق عن نفسها وعاداتها وحياتها وطريقتها في العيش.
يفاجئني فرج وهو يقول لي: أستاذ انت تسمن بشكل غير لائق، اعتن بصحتك. أغضب، ولا أرد عليه، إذ من هو هذا غير المرئي الذي يفاتحني بموضوع شخصيّ جداً؟ لكني في البيت أتذكر كلماته وأمتنع عن العشاء (مؤقتاً طبعاً).
كثيراً ما يطرق فرج باب حصتي، يدخل ويجلس مع الطلاب، يستمع باهتمام شديد، يناقشني، ويناقش كتابات الطلاب ويطلب مني أن أهتم أكثر بالصامتين من طلابي.
حين أعطيه مبلغاً معيناً نظير تنظيفه لبيتي، يعيد لي نصف المبلغ وهو يقول لي: كثير هيك أستاذ حرام ما “تبعزق” مصاريك. وآخر صدمات فرج قوله فجأة ونحن نجلس جميعاً في غرفة المعلمين: محمود درويش كان يموت في مخللاتي، يضحك المعلمون، بينما لا أضحك أنا، أقترب منه وأطلب تفاصيل: أستاذ أنا اشتغلت في مطعم “الفلاحة” سنين طويلة وكان محمود الله يرحمه دائم التردّد هناك، وكان يسأل وهو يأكل بتلذذ: من صنع هذا المخلل؟ فيشيرون نحوي، ينظر إليّ وهو يبتسم، ويشكرني.
- فرج صديقي يؤسفني أن أقول لك أن المخلل سبب رئيس للنوبات القلبية.
- شو بتقصد يا أستاذ؟
- يعني مخللاتك هي التي قتلت محمود يا فرج.
جُنّ جنون فرج، أستاذ شو بتحكي مستحيل مستحيل.
عرفت فيما بعد من فرج أنه لم ينم ليلتها وأنه ذهب في صبيحة اليوم التالي الى ضريح محمود وطلب منه أن يسامحه فيما لو كان صحيحا ما قاله الأستاذ زياد.
مولع فرج بالحيوانات، وخاصة الخيول، مولع حد الهوس: استاذ الخيل وفيّ جداً مثل الكلب والرسول بحب الخيول ووصى عليها. وانا حين اركب على الخيل أصبح مثل الأطفال اصرخ وأنادي على شي ما لا أعرفه.
يشارك فرج في مشاريع استثمارية صغيرة جداً فهو يأخذ زجاجات الزيت البلدي من معلم آخر، ويبيعها ويربح في كل زجاجة شيكلاً واحداً.
من نوادره الغريبة، اعتقله الاحتلال مرة، وعذبه المحققون ليعترف على أصحابه، فاعترف على 70 شخصاً، وحين ذهب الاحتلال ليعتقلهم، فوجئ بأنه يعتقل رجالاً منهكين، ومسجونين في سجون التعب والهرم، كانوا في الثمانين من أعمارهم.
أحب حياتي مع فرج، أحب فرج في حياتي، يخفف هذا النوراني الصافي مثل الشعر الصافي من تفاهة المكان وعدائيته ولا معناه، أستطيع أن أقول اني اتعلم في مدرسة اسمها فرح، فرج درسي اليومي، آخذه على يديّ حكاياته الغريبة، وتفاصيله التي لا تُفهَم في هذا الزمن المعادي لكل شيء صادق ونقي.
تخيلوا لو كل الناس في العالم هم فرج، لنعترف، حتماً سيكون العالم مملاً من غزارة وتكرارية وثبات طاقة الحب والصراحة والحقيقة، فحن نحتاج الشر لنستمتع بوجود الخير، فرج هو خير يومي.
أحب حضور فرج في عالم الشر والكذب، أحبه وهو يكون نفسه مع المدير والمعلم وكل الناس، أحبه وهو يشرب شايه بصمت، محدّقاً من خلال الشباك بحصان يبول في حاكورة خلف المدرسة.
أحبه نقيضاً لكل طريقة حياتنا، أحبه حلمنا الكبير بالانسجام والتصالح مع الذات، أحب وجهه الصنمي العظمي الذي نتجاهله، ونخافه، بل ونضحك عليه.
لا أتوقع ان (سارتر) كان يتكلم عن شخص آخر غير فرج حين قال في كتابه الشهير (الوجود والعدم): “إذا كان الإنسان على حقيقته، يصبح سوء النية غير ممكن على الإطلاق، وتكف الصراحة على أن تكون مثله الأعلى، لتغدو وجوده”.
حبيبي فرج: شكراً لنافذة الصدق التي تشبه يوم قيامة مصغّراً، هذه النافذة التي تفتحها لي كل صباح في مكاني هذا الذي بلا نوافذ.