ثلاث هزائم من المخيم/ زياد خداش
انكمشت في حضن أبي الذي بكى هو الآخر، ولم أفهم حينها سر الغضب والرضا السريعين، فيما بعد كبرت، وعرفت. ما زلت أعرف وأنكمش
ثلاث هزائم من المخيم/ زياد خداش
|زياد خداش|
في المخيم رأيت هذا المشهد الذي سيظل يرافقني في أحلامي وواقعي بوجع غريب: مُسنّ غاضب يقف على حدود قطعة أرضه الضئيلة، أمام مُسنّ آخر غاضب، المُسنّ الأول يتهم الثاني بالتقدّم في قطعة أرضه القليلة جداً، المسن الثاني ينفي بغضب تقدمه ويتهم الأول بالخرف، يتصارع المسنان على حدود القطعتين، ويتبادلان اللكمات الواهنة جداً، يقعان على الأرض، في مشهد مخيف لم أفهم منه شيئاً، كنت صغيراً على حدود عقدي الأول، يتقدم فجأة مسن غاضب ثالث هو جدي: “متقاتلين على ربع متر من أرض مش إلكم، وإنتو اللي تركتوا آلاف الدونمات، يا عيب الشوم”.
نهض المسنان فجأةً، هجما على بعضهما البعض دموعاً وعناقاً.
انكمشت في حضن أبي الذي بكى هو الآخر، ولم أفهم حينها سر الغضب والرضا السريعين، فيما بعد كبرت، وعرفت. ما زلت أعرف وأنكمش.
● ● ●
في المخيم حين تفتّح وعي السؤال داخلي، لم تكن أسئلتي لأبي المدرس والشاعر تشبه أسئلة الأطفال الآخرين، مثل: كيف نجيء إلى العالم؟ وما هو الله؟ ولماذا يموت الإنسان؟ وماذا تفعل مع أمي حين تغلقان الباب يا أبي؟.
كان أول أسئلتي الغريبة: لماذا سعال جارنا قريب جداً إلينا أبي؟
● ● ●
في المخيم خسرت حبي الأول، كنت أقف خلف النافذة في غرفة قليلة الضوء، وأمسّد لها شعري بيدي كرمز خفيّ لتحية أو شوق (طريقة المحبين القديمة، انقرضت الآن)، لم أكن أعرف أنّ عشرات البنات والشباب كانوا يمسّدون شعر رؤوسهم خلفي وبجانبي وأمامي لبعضهم البعض، لم يعرف أحد من يمسّد لمن، في مهب عتمة المخيم.
هل كانت خسارتي الحبّ مجازاً لخسارتي بلادي؟ هكذا ضاع حبي في حمى حشود المحبين الواقفين خلف نوافذ قليلة الضوء. كما ضاعت بلادنا في حمى الغزاة المحتشدين أمام نوافذنا.