“عمي أعطيني سيجارة”/ وليد دقة
. |وليد دقة- سجن الجلبوع| ساعة صباح، وصوت صكيك صادر عن […]
“عمي أعطيني سيجارة”/ وليد دقة
.
|وليد دقة- سجن الجلبوع|
ساعة صباح، وصوت صكيك صادر عن حزمتي الأصفاد التي يحملها السّجان المقترب منا. يرميها على الأرض عند أقدامنا، ينطفئ الصوت الذي امتصّته أرضية الباطون فيسود الهدوء الذي لفّ المكان؛ حزمة واحدة لتقييد الأيدي، وأخرى بسلاسل أطول لتقييد الأرجل، ثمانية أصفاد من كلّ نوع ونحن سبعة أسرى. أقف مع الآخرين وسط ساحة صغيرة يحيطها عدد من زنازين الإنتظار، أحاول الإتكاء على الحائط فقد أنهكني الترحال بين السّجون منذ أن بدأنا الإضراب المفتوح عن الطعام. أستجمع طاقتي وأحاول استنشاق أكبر كمية من الهواء تهيئة لسفر سيدوم ساعات داخل علبة من الحديد التي سرعان ما تتحوّل في هذا الحرِّ إلى فرن لا يطاق.
يغادرنا السّجان نحو عربة نقل الأسرى بعد أن انتهى من تقييدنا..
صوت يأتي من الزنزانة خلفي…
“عمي أعطيني سيجارة”..
أطلّ في ظلمة الزنزانة فلا أرى أحدًا، وأحسب نفسي للحظة بأني أهذي، فيأتي الصوت مرة أخرى أعلى وأكثر رجاء..
“عمي.. عمي أعطيني سيجارة”.
أطل في الزنزانة مرة أخرى وأنادي الصوت..
“ولك وينك إنت”؟
“أنا هون تحت”..
أنظر من فتحة الباب السفلي المخصصة لإدخال الطعام وتقييد الأسرى، فأجد طفلاً لم يتجاوز عمره الثانية عشرة. طفل.. طفل يطلب سيجارة!
إحترت التصرّف معه، هل أستجيب لطلبه وأمنحه سيجارة، أم أرفض ذلك وأنهاه عن التدخين كما يفعل الكبار خارج زمان السّجون تجاه الصغار؟
الكبار.. آه الكبار.. ألهذا الحدّ تقدمتُ في السن وأبدو كبيراً حتى يناديني بعمي؟ أذعرتني مناداته لي بهذه الصفة، فهذه هي المرة الأولى خلال سنوات إعتقالي الـ ٢٦ التي ألتقي فيها بأحد يخاطبني بهذه المسافة العمرية؛ فنحن في السجون اعتدنا ألا نخاطب بعضنا البعض بهذه التسميات الإجتماعية ذات المعنى العمري مهما كان فارق السن، وإنما نخاطب بعضنا البعض بـ “أخ” أو بـ “رفيق ومؤخراً بـ “يا مجاهد”.
نظرتُ إليه وأحسستُ بحاجته للسّيجارة لا كي يمتصّ نيكوتينها وإنما ليرتدي معناها.
كان قلقاً بحركته يخشى صغر سنه في عالم قسوة السّجن فأراد أن يكون رجلاً وبسرعة. تماماً كما هي رغبتي الآن بأن يعود بي الزمن إلى الوراء حتى أغدو طفلاً، أو على الأقل شاباً كما دخلت السجن قبل أكثر من ربع قرن.
كلانا كان خائفاً، أنا ممّا انقضى من الزمن وهو ممّا لم ينقضِ.. أنا من الماضي وهو من المستقبل.. أنا ممّا أحرقه السّجن من عمري وهو ممّا لا ينجح بحرقه بسيجارة أصبحت الآن بين شفتيه يمدّها لأشعلها له عبر الشبك العلويّ الذي لا ينجح بالوصول إليه، وقد أصبح للسيجارة معنى آخر بعد أن نفث دخانها واستطال واقفاً على رؤوس أصابعه، فبدا لي أكبر من عمره الحقيقيّ وغدت اللفافة بيده فانوساً يطرد به عتمة الزنزانة ويبدّد خوفه ووحدته.
لم يكن يدخّن بل كان يحاول حرق صورة الطفل التي كان يبدو عليها؛ فالطفولة عبء عليه في عالم السّجن وقسوة السّجان. كان يسعى للتخلص من براءته وهو يقدم على مواجهة سنوات السجن، براءة لم تشفع له حين حُكم لأربع سنوات.
سار السجان باتجاهنا. إلتقط من الأرض القيد الثامن وصاح بالطفل بأن يمدّ معصميه من طاقة التقييد، فمدّهما وهو يحمل السّيجارة بين أصابعه. صرخ السّجان نحوه مرة أخرى كي يلقي السيجارة من يده وتمتم بضع كلمات لنفسه بالعبرية مُحتجاً على التناقض بين كونه طفلاً ويدخن، لكنه مع ذلك واصل بإصرار تقييده من دون أن يشعر بأيّ تناقض بين المعصمين الصغيرين والقيود. حاول إغلاق القيد مراراً فكان معصماه أصغر من أن يُقيّدا، فقرّر السّجان استخدام قيود الأيدي لتقييد ساقيه.
أﹸخرج من الزنزانة استعداداً للسفر. نظرت إليه وتخيلته ابني الذي لم يشأ القدر أن يأتي إلى الحياة بعد. أردتُ معانقته بشدّة واجتاحتني مشاعر الأبوّة ورغبة شديدة بالبكاء..
أخفيت مشاعري حتى لا أفسد عليه صورة الرجل الذي أراد أن يبدو.. تقدمتُ نحوه لأصافحه كندٍّ وكمناضل من أجل حرية شعبه مخاطباً إياه:
“كيفك يا مناضل؟…”
4 نوفمبر 2011
قليلة هي القصص التي تجعلني أتصاعد مع أنفاسي متألمة سريعة، وأراجع ما قرأت لكي أشعر بها من جديد فتصبح قراءة تدور حول نفسها أو حول ومع شخصياتها.. صفحة واحدة جعلت من برنامجي المخطط ملغيًا.. حتى تهدأ يداي من الارتجاج من قيود الوقت…… الوقت الذي بيننا وبينهم أو بينهم وبين شعلة السيجارة التي تخلص في كل نهاية…
قصة أكثر من مكثّفة ومتماسكة وتحثك على خوض كل كلمة منها تجربةً أبعد من مفهوم الزمن الذي تعيشه رغمًا عنك… قصة أكثر من كونها رائعة.. قصة أكثر من كل شيء.
20 أكتوبر 2011
حين أقرأ وليد دقة دائما يفاجئني ألم المخاض.. وكأنّ من واجبي خارج أسوار سجنه أن ألد له أكبر عدد من الأولاد ليشبع بهم أبوّته المفقودة حين يعانق نسمات الحريّة…
إبني الأول… وليد… سيكون ك”ميلاد” ابنه الذي يكتب عنه وله!!