بين الوئام والانتقام/ وديع عواودة
في حسابات العقل البعيدة عن الثرثرة والمواقف الانفعالية والغوغائيّة، كما دلّلت تجربة الانتفاضة الثانية، عادت عملية خطف نفذّها فردان على الشعب الفلسطيني كيدًا مرتدًّا عليه
.
|وديع عواودة|
في توقيتها وساديّتها وملابساتها تبدو جريمة قتل الطفل المقدسيّ محمد أبو خضير صهيونية الصنع انتقامًا لقتل المستوطنين الثلاثة. المؤكّد بالقاطع أنّ دم أبو خضير سُفك قبل أن تطلق عليه الرصاصة وشارك بالجريمة كل من انفلت بتحريض هستيري وبكراهية عمياء للفلسطينيين والعرب بمن فيهم وزراء وحاخامات. القتلة داخل غابة دير ياسين هم المسدس والرصاصة فقط. صحيح أنّ قتل ثلاثة فتيان والكشف عنهم بعد 18 يومًا في نهاية مسلسل دراميّ مشحون يؤجّج الخواطر ويرفع منسوب الحقد والتوتر؛ لكن لولا التحريض الرسمي المنفلت لما شهدنا هذا التسونامي غير المسبوق من كراهية تجعل قتل العربي قيمة لا عنصرية. تجلى ذلك بوضوح بصور “السيلفي” ودعوات القتل والذبح والإبادة داخل مواقع التواصل الاجتماعي وبصفحة “شعب إسرائيل يريد الانتقام”.
العلاقة السببيّة المباشرة بين العنفيْن الكلامي والجسدي تجلت قبل شهر في تصريح عَجول بائس وأرعن لوزير الشرطة يتسحاق أهرونوفيتش بقوله إنّ الفتاة من العفولة قتلت بمجدال هعيمق على خلفية قومية، من دون أيّ دليل حقيقي. في اليوم التالي خرج الآلاف من سكان العفولة في مظاهرة عنصرية عنوانها “الموت للعرب” احتجاجًا على قتل عربيّ ليهودية. بعد أيام أطلقت الشرطة سراح ستة عرب مشتبهين بالضلوع بالجريمة لكنّ وزيرها لم يعد للقول إنّ خلفيتها ليست قومية وهكذا وسائل الإعلام العبرية (باستثناء “هآرتس”) نشرت تصريحاته التحريضية ولم تذكر كلمة حول الإفراج عن المشتبهين العرب. رغم توصيات لجنة أور كانت وما زالت الشرطة في إسرائيل معادية للمجتمع العربي وترى بهم طابورًا خامسًا ولا تنظر لهم إلا كمخرّبين أو مخبرين وبالحالتين يستحقون الازدراء. يتجاوز الحاخامات السياسيين بخطورة تحريضهم وبعضهم دعا لقتل العرب ومن يدخل مواقع المدارس الدينيّة اليهوديّة تفزعه كمية وخطورة التحريض القائم منذ سنوات.
وذهب نوعم فيريل حاخام المدرسة الدينية “بني عكيفا” لحدّ دعوة طواقم الباحثين عن المخطوفين للتحوّل لكتائب انتقام. الناطقة بلسان الشرطة أعلنت أمس أنها ستحاسب وتلاحق جرائم التحريض على العنصرية والعنف لكننا لا نثق بها وبتصريحاتها طالما أنها تشارك بنفسها بالحملة وتكيل بمكيالين. حتى تكون الشرطة جدية وجديرة بالثقة عليها تغيير نفسها أولا وإقران أقوالها بالأفعال وبسرعة توازي سرعة فتح تحقيق مع الطالب العربي في التخنيون غداة كتاباته الحمقاء عن تسديد المنتخب الفلسطيني ثلاثة أهداف! وإلا، فإنّ استمرار التحريض المنفلت لن يتوقف عند تعاظم “تدفيع الثمن” ويصبح وقوع جريمة قتل لعرب مواطنين في إسرائيل مسألة وقت.
بالمقابل لم يهبط بعد غبار عملية خطف وقتل المستوطنين حتى بدأت تتوالى تبعاتها بما ينذر ربما بأنّ العاصفة أمامنا لا العكس؛ لكن حسابا مرحليا يفيد بأنها كانت عملية غير محسوبة وفوضوية، هي علينا لا لنا. مبدئيًّا وأخلاقيًّا يبقى خطف وقتل مدنيين وقاصرين من قبل مظلومين ومحتلين ومضطهدين عملا غير شرعيّ بموازين الشرائع والقيم الأخلاقيّة، رغم أنّ القضية الفلسطينية أعدل قضية على وجه الأرض، وربما بفعل ذلك لا مفرّ للفلسطينيّ إلا المحافظة على إنسانيته. ويدفع لذات الاستنتاج حساب الربح والخسارة؛ فالعملية ورغم ضبابيّتها ألحقت بالشعب الفلسطيني عدّة خسائر أولها قتل خمسة منهم آخرهم الشهيد الطفل محمد أبو خضير، وإصابة العشرات واعتقال المئات علاوة على عذابات وخسائر الحصار للخليل وأماكن أخرى. في توقيتها كانت عملية بائسة فقد حجبت الأضواء عن قضيّة عشرات الأسرى المضربين عن الطعام بعد نضال بطوليّ دام 60 يومًا واضطرّتهم لوقفه مقابل مكاسب زهيدة، فبقوا خلف القضبان وانضم لهم أضعافهم. كما منحت حكومة إسرائيل هدية دعائية ثمينة: ذرائع وذخائر فعّالة للطعن بشرعية حكومة المصالحة الفلسطينية وإحراج الفلسطينيين في العالم. التقط نتانياهو الهدية ولوّح فيها يوميا لإقناع العالم بأنّ حماس “حركة إرهابيّة” حتى لو غيرّت لهجتها وثوبها ولتبرير عمليات ضربها بناها التحتية المدنية وفق مخططات مُعدّة من قبل كانت تنتظر اللحظة المواتية.
في ميزان الرعب القائم بين المجتمع العربي وبين إسرائيل والإسرائيليين نستطيع استخدام استراتيجيّة “توجيع الرأس” من خلال لعب دور المشاكس المظلوم لإشغال بال الظالم وسلبه الشعور بالأمن والأمان طالما تسلب حقوقه
لم يصوّب نتنياهو وحكومته رصاصه الديماغوغيّ على حماس فحسب- بل على الرئيس عباس وعلى حكومة الوحدة الوطنية وحشد العالم لجانبه بعدما كان في خانة المعزول المخادع المشكوك بروايته حول المفاوضات وطبيعة التسوية. أعادت عملية الخليل إسرائيل لصورة الضحية مقابل “داعش الفلسطينية” ويسّرت عليها مبتغاها بتبرير انتهاكاتها ووقاحتها وربما تقتنصها فرصة للإقدام على حظر الحركة الإسلاميّة الشماليّة. في حسابات العقل البعيدة عن الثرثرة والمواقف الانفعالية والغوغائيّة، كما دلّلت تجربة الانتفاضة الثانية، عادت عملية خطف نفذّها فردان على الشعب الفلسطيني كيدًا مرتدًّا عليه.
محليًّا من الطبيعيّ أن نرفع صوت الاحتجاج على قتل أبو خضير والتحريض المنفلت في إسرائيل، ولكن من دون كسر العلاقات المخلخلة أصلا مع الطرف الآخر. تقتضي حسابات المصلحة العليا أيضًا أن تستنكر الفعاليات العربية خطف وقتل المستوطنين الثلاثة كما فعلت “الموحّدة”. ليس بالضرورة أن يكون صاحب التصريح الأقوى والصوت العاطفيّ الأعلى أو صابّ الزيت على النار أكثر وطنيّة أو إخلاصًا أو صوابًا بالرأي من آخرين، مثلما أنّ دولة سويّة لا تعتمد الانتقام سياسة؛ فالردّ الانفعالي من جهة ضحايا العنصرية لا يخدم الهدف وربما يضع الذرائع بيد العنصريين.
درهم حكمة
هذا ليس خوفا من تهديدات وتصريحات أو مراضاة الإسرائيليّ في برجه الاستعلائيّ، بل احتفاظ بالقدرة الأخلاقية والسياسية على شنّ الهجوم المفيد والتصويب على أهداف سليمة وبالتوقيت المناسب. الواقع المركّب للمجتمع العربي في ظلّ موازين القوى الراهنة تحتّم لعبة سياسية أكثر ذكاءً وصبرًا ومرونة، يغلّب فيها حساب الجماعة على منفعة الحزب والفرد، وويل لقيادة تسير وفق أهواء الشارع. هذا لا يعني تزلف الجانب الإسرائيليّ والقبول بالفتات دون المواطنة الحقيقيّة، بالعكس؛ لكن خطاب المحقّين يحتاج لدرهم حكمة فالقضية العادلة تحتاج هي الأخرى لمرافع ماهر. وينبغي على صاحب السقف السياسي العالي بيننا إبداء خطاب أكثر نعومة واتّزانًا وحذرًا بالتصريحات والاحتفاظ بفرصة الحوار والإصغاء المتبادل وإيصال الرسائل النافعة للظالمين، خاصّة تلك القادرة على زرع الشك بالذات وتحريك الشعور بالذنب وإفقادهم الثقة بمواقفهم كما تقتضي أصول المواجهة النفسية والدعائية الأساسية. من يكتفي بالفتات بوسعه أن يصرخ ويطلق تصريحات حادّة كما يفعل بعض النواب العرب في أحزاب صهيونية. أمّا من هم من لحمنا ومنا وفينا فلن يصيبوا الهدف مهما كبرت غيرتهم الوطنية وتضحياتهم -وهي حقيقيّة- باعتمادهم مواقف عادلة فقط.
قضايا عالقة
كشفت الأزمة الأخيرة منذ خطف المستوطنين وحتى قتل أبو خضير هشاشة العلاقة بين الشعبيْن داخل إسرائيل وأظهرت مجدّدًا أنّ قضايا مفصليّة بيننا وبينهم ما زالت عالقة، رغم المواطنة الرسمية الجامعة للجانبيْن. في إطار ميزان الرعب القائم بين المجتمع العربي وبين إسرائيل والإسرائيليين نستطيع وواجبنا أن نستخدم استراتيجيّة “توجيع الرأس” من خلال لعب دور المشاكس الذي يقوم به المظلوم لإشغال بال الظالم وسلبه الشعور بالأمن والأمان طالما تسلب حقوقه. بيد أنّ هذا الدور لا يعني كسر العلاقات وهدم الجسور أو الاكتفاء بتصريحات شعبويّة فارغة وهو يحتاج لتعبئة وتثقيف منهجيّ حتى لا تكون القيادة في قمة النضال والجماهير مسترخية في وادٍ، وتبقى سيوفنا من ورق. ويحتاج الأمر فهمًا مثابرًا لتحوّلات المجتمع الإسرائيليّ نتيجة الهجرة والتطوّرات الديموغرافية وسطوة التيار الدينيّ والقومجيّ، وفهم نفسيّته ونقاط قوته وضعفه وإتقان لغته.