حبّ حسب المواصفات والمقاييس…/ تمارا الكيله
في الثلاثين، تظنينّ نفسك أعقل، أكثر حكمة وتروّ، أقلّ جنوناً واندفاعاً من بلاهة العشرينات، إلى أن تقعي في الحبّ مجدّداً!
حبّ حسب المواصفات والمقاييس…/ تمارا الكيله
.
|تمارا الكيله|
أمّك التي كانت تجرّك معها إلى الكنيسة كلّ أحد، للصلاة طبعاً، وتخرج أحمر شفاه من حقيبتها في الطريق، تناولك إياه لتصبغي شحوب شفتيْكِ، وتزيدي ملامحهما بروزاً، رغم أنّك تكرهين أحمر الشفاه، وأصباغ الوجه، ولا تستسيغين وجهك سوى بكُحل خفيف في العينيْن لا أكثر. أمّك تلك نفسها التي تستغرق وقتاً أكثر من وقت القداس، لتدور بك على معارفها، مصافحة هذه، ومقبّلة تلك، ومُومئة إليك بصوت جهوريّ، يزيد على طولها بضع سنتمرات: “بنتي (الدكتورة) حنان”، فتتلقفين السّلام من هنا وهناك، والقبلات الحارّة على الخدّين، حتى تتسطّح تضاريسهما، ثم تجيبين على الأسئلة نفسها التي تتكرّر عشرات المرّات، وتبتسمين ابتسامة مدروسة الأفق في وجه المجاملات ذاتها:
“دكتورة شو؟”؛ “ما شاءالله، ما شاءالله”؛ “خاطبة، ولا لسّا؟”؛ “أكيد مشغولة بالدراسة!”؛ “وين بتشتغلي؟”؛ “بتاخدي راتب؟”؛ “طب مش مفكرّة بالزواج؟”؛ “خلص بكفي، هلأ وقتو، العمر بخلص ودراستكو إنتو ما بتخلص!”؛ “كيف دوامك؟من أي ساعة لأي ساعة؟ بتداومي ليلي؟”؛ “الله يعطيكي العافية، ويعينك على المناظر إللي بتشوفيها!”؛ “شكلو قلبك قوي!”؛ “بتعرفي الدكتور فلان فلان، بشتغل عندكو بالمستشفى، لازم تتعرفي عليه، شب بجنن وما شالله عليه وبفتّش على عروس، شو بدّك أحسن؟”؛ “والله معك حقّ، الواحد بحبّ يغيّر، يعني إنتو تنين تكونوا أطبّاء صعبة شوي، إمتى بدكم تشوفوا بعض، بصير زواج بالمراسلة!”؛ “طب إمتى بتكوني بالبيت، هيك حابين نيجي زيارة عندكم، أنا ابني مهندس أد الدنيا، وبشتغل بشركة معروفة، وعندو بيت وعمّرنالو شقة فوقنا، ومو ناقصو شي، والله وأنا حبيتك، دخلتي قلبي سبحان الله!”؛ “لسّا بدّك تتخصّصي؟وبعدين؟ أديش عمرك إنتي خالتو؟مفكرّة حالك لسّاتك صغيرة؟ خلص ما ضّل عندك وقت تأجّلي الموضوع أكتر، بكرا بتبطلي تلاقي حدا يوخدك، ولّا متجّوزة الطب يعني؟”…
تبتسمين، تجيبين إجابات مختصرة فيها الكثير من التعقّل، تضحكين مجاملة هنا وهناك، ضحكة رشيقة، خفيفة الوقع، لا رنّة لها، بينما تبتلعين القيء الذي يرتفع حدّ حلقك، وتحسيّن به يخنقك، بين الحين والآخر، خلسة، رغم كلّ القرف الذي تحسيّن به، وكلّ الضيق اللزج الذي يلتصق بك كثوب حريريّ في يوم خانق!
أمك تلك، نفسها التي كانت تفاجئك بمشاريع زيارات مدروسة يتوجبّ عليك فيها أن ترتدي الثوب الذي تظنّه هي عليك أجمل، وأن تصفّفي شعرك في الصالون كأنك ذاهبة لحفلة ما، وأن تصبغي وجهك بالألوان، ثم أن تجلسي لساعة من العذاب مأسورة في أناقتك، تقدمين العصير والقهوة والحلوى للضيوف المجهولين، وتجيبين عن سلسلة من الأسئلة الأشبه باستجواب منمّق، وتتجاهلين النظرات المتفحصّة المحدّقة في تفاصيلك، والتي تكادين تسمعين دبيب خطوها الثقيل وهي تذرع جسدك من الأعلى إلى الأسفل، ثم من الأسفل إلى الأعلى، دون أن تتبرمين، أو تبدين ضيقك من الاعتداء المفضوح على خصوصيتك دون إذن عبور منك!
أمّك تلك، التي لسنوات ظلّت تحاول تزويجك كونها تريد أن “تفرح فيكِ”، وتطمئن عليك، وعلى انصياعك لـ “سنّة” الحياة، ولطاحونة القدر الأعمى، هي ذاتها التي تقول لك الآن: “لا”…
“لا” مبطنّة، مخفية، منمقّة، جبّانة!
“لا”، بحجّة أنّك تستحقين من وما هو أفضل..
أفضل؟
أفضل حسب من؟ أفضل لمن؟
من وضع المعايير؟ ومن أنزل تعليمات إلهيّة بشأن ما هو المفروض، وما هو غير المفروض؟ وما هو المناسب، وما هو غير المناسب؟
لا إجابات واضحة، لا إجابات صريحة!
• • •
والدك، الرجل الحكيم، الذي يمسك الحياة بقبضته، ويعرف كلّ زواريبها، مداخلها، ومخارجها، حفرها الكثيرة، صخورها الزلقة، قعرها، وفضاءها، طعم مرارتها أكثر من طعم حلاوتها، ملمسها الخشن، والفرو الأملس الذي يغطي كتفيها، مواطن قوتها، وبواطن ضعفها..
والدك، الرجل العاقل، الذي يحمل السّنين التي بارزته وبارزها، وهزمته وهزمها، كما يحمل رجل أبيض جلد فروات رؤوس الهنود الحمر التي سلخها على كتفه، يجلس صامتاً، يمصّ سيجارة من عقب سيجارة أخرى، ينفث الدخان في المسافة بينكما حتى لا يرى عينيك، ولا تري خذلانك في عينيه!
والدك الذي “شحد ليعلمّك إنتي وإخوانك”، يقول بدبلوماسيته المعتادة: “القرار قرارك، هادي حياتك، إنتي إللي بدك تعيشيها، وأنا ما بوقف عقبة بطريقك…”
ترتاح قليلاً قدماك المسمّرتان في أرض الصالة، تنفرج أساريرك بعض الشيء، وتكاد تفلت ابتسامة من وجهك!
“بس …”
يعود التوتر يتصاعد دخاناً كثيفاً يحجبكما عن بعضكما البعض، لكنّ والدك ينجح آخر الأمر بسياسته المحنكة، في تقييد معصميك، ووضع لجام حول عنقك بخفّة لا تشعرين معها بأيّ ريبة أو توجّس، ويمضي تاركاً إياك غارقة في شعور بالامتنان نحوه ونحو تفهمه العميق لمشاعرك!
القرار قرارك بالطبع، ولكنّك إن فعلت ما تريدينه حقّاً، ونفذّت رغبتك، فلن تفلتي يوماً من نير شعورك بالخيانة، خيانة هؤلاء الذين بذلوا حياتهم لأجلك، ولأجل أن تصلي إلى أحلامك مضحيّن بحياتهم وراحتهم وسعادتهم!
أحلامك؟
ألم تكن أحلامهم كذلك في يوم من الأيام؟
• • •
في الثلاثين، تلتقين مصادفة بشخص يثير فيك رغبة أكبر في الحياة، ينزع السجادة الحمراء من تحت قدميك، يخطفك خارج دائرة الأمان المغلقة، يفتح عينيك كبتلات وردة على نور طازج، يتحدّاك لتدوسي على المستحيل، يتحدّاك لتعودي طفلة، تركب درّاجة وتنطلق بها ولو على منحدر دون خوف من السقوط، دون خوف من الخدوش على الركبيتيْن والتواء في القدم! يغريك بالشوكولا التي يتقاسمها مناصفة معك، وبلون السّماء الأزرق تقطعه خطوط غيمية بيضاء، بشلال مياه يبلّلكما، بثلج على الجبل تتزحلقين فوقه وحدك لضعف خبرتك فيمدّ هو ساعده ويلتقطك، ثم يعيرك حذاءه بعد أن يبتلّ حذاؤك، فترتعش قدماك داخل الحذاء دفئاً وتقشعرّان طمأنينة!
يتسلل عبر جدرانك العازلة بفيروز في الصباح، وبجبران خليل جبران في المساء، وبفرح خفيّ غامض مسروق من محمود درويش بين الحين والأخر، بـ “صانع المطر” لـ “ياني”، وبـ “مجاز” تريو جبران، بنزهة يرافقكما فيها البحر ويمتدّ أبعد كي لا تصلا إلى النهاية، بأصابع متمرّسة على الكتابة فوق الجسد، وبيدين دافئتين جاهزتين للحبّ!
• • •
في الثلاثين، تظنيّن أنّك قد تجاوزت تلك المرحلة، مرحلة الانصياع لذاك الخدر اللذيذ، والاستسلام لصوت الناي القادم من بعيد، الذي يعزف عليه ساحر غريب ما، لكنّك تدركين متأخرة، أنّه كان الأجدر بك أن تدّقي قدميك بمسمارين في الأرض، وتحشي أذنيك بسدّادتين، وتبقي عينيك محدّقتين نحو الأسفل، لأنّك لم تكبري قط!
• • •
الجميع مستيقظون، ووحدك نائمة تحلمين، لا تريدين أن تستفيقي…
الجميع يرون ما لا ترين، يقولون لك:
“الحبّ أعمى!”
وفي هذه الحالات بالذات عليك الاعتماد على نظر من حولك، هؤلاء الذين يهمهم أمرك وسيقودونك إلى برّ الأمان.
ليس حبّاً حسب المواصفات والمعايير، قيلت لك بأكثر من طريقة، عدا الطريقة المباشرة!
“دكتورة إنت، عارفة شو يعني دكتورة؟ كيف بدك تاخدي واحد صاحب صنعة؟”
“الحبّ إشي والجيزة إشي تاني، ما إلو علاقة بالحبّ!”
“شو بكرا الناس بحكوا عنّا؟ أعطوا بنتهم لواحد حيالا؟”
“بدك يحكو بنتهم (بايرة) وبدهم يخلصوا منها؟”
“ومش عندو شهادة؟ طب ما يشتغل بشهادتو؟ ولا يعني المصاري صارت أهم؟”
“لأ خليكي عنّا بالبيت أحسنلك، في إشي ناقصك؟”
“بكرا بجيكي واحد أحسن منو بمليون مرة، عشو مستعجلة؟”
تحسيّن بنفسك حبّة بندورة “مخمجة” حيناً، وحيناً آخر رأسمال، أو قطعة أثاث أثرية معروضة في إحدى المزادات، أشياء كثيرة لا تمت بصلة لك، لا تشبهك، أشياء كثيرة ليست على قيد الحياة!
• • •
كيف تقولين لهم إنّك لا تريدين من هو “أحسن منو”، وأنك تريدينه هو؟
كيف تقولين لهم إنّك لست “دكتورة” فقط؟ وإنّ تلك هي مهنتك فقط، تماماً كما أنّه “هو” “هو” وليس مهنته!
وكيف ستشرحين لهم، أنّه يفهم لغة قلبك، ويؤنس روحك، ويوقد ناراً في جسدك، وأغنيات؟
كيف تقنعينهم بأنك لن تقعي في حبّ شهادة مملّة بلا روح، تسكن في الطابق الأعلى لأولياء أمرها، وتتابع مسلسلاً تركياً مدبلجاً في المساء.. لا تقرأ محمود درويش، ولا تستمع لفيروز في الصباح، ولا تتسلق الجبال في عطلة نهاية الأسبوع، ولا تحتفل بالمطر كلما هطل ولا تفكّر بالطيران أو القفز من طائرة يوماً ما، ولن يحدث يوماً أن تذهب بالدراجة لعملها، أو أن تعود مشياً على الأقدام لتستمتع برائحة الهواء، وتضفّر للشمس جدائلها، وتتبادل مع الأمواج حديثاً سريعاً عن مزاج الأصداف على الشاطىء ذاك النهار!
• • •
تشعلين التلفاز، اليوم يتجه المصريون لانتخاب رئيس جديد لهم.. بعد أن أسقطوا أباهم الذي كان يظنّ نفسه جاثماً على عرش السماء- لمصلحة المصريين أولاً وأخيراً بالطبع!
تقولين لنفسك، غداً سيسقط طاغية أخرى، سيسقط “أسد”، وستنهش لحمه كلاب ضالة، قد لا تستسيغ طعم لحمه القذر!
في الثلاثين، تفكرّين، كم من الصعب يمكن أن تكون سرقة شعلة واحدة من إحدى هذه الثورات، وإضرامها بين جدران البيت الأربعة؟ أليس الأجدر أن تبدأ الثورات هنا بين جدران البيوت الصغيرة؟ لتسقطي المواصفات والمقاييس والمفاهيم السائدة والتقاليد الحمقاء وكلّ القوانين التي لا يعرف أحد من وضعها ولا من أيّ سماء نزلت؟
كم يمكن أن يكون من الصعب أن تسقطي خوفك، وتزيحي عن كاهليك “شوالات” الذنب “الخيشية”؟ وتنتصري لرغبتك، لحلمك الشخصيّ الذي لا تريدين لأحد أن يتقاسمه معك ويرسم تفاصيله سواك؟
تملئين صدرك بشهيق عميق، تبطّنين الروح بألف سؤال لن تقنعك إجاباتهم عنه، وتشحذين زوايا القلب..
تلوح ابتسامة على شفتيك.. وتراودك ألف فكرة خبيثة..
“ماذا كان قد يحدث لو كان مسلماً أيضاً أو بوذياً أو حتى ملحداً؟”
“وماذا لو كان مقعداً أو أصمَّ أو أعمى، أو يعاني أيّ إعاقة جسدية أخرى؟”
“مدهش الحبّ، كم يرى أبعد مما ترى كرتا الضوء السخيفتان المثبتتان أعلى هذه الكرة الحجرية!”
“مدهش الحبّ، كم يرى، وكم لا يرون!”
(29-5-2012)
14 يوليو 2012
جميله انت..
11 يوليو 2012
نص ادبي جميل به نقد اجتماعي حساس يستميل القارئ بلطافته. رغم قيئ الكاتبه وقرفها من العقليه الاجتماعيه المحشيه داخل قوالب من حديد لا تعترف بفردية الانسان ، ورغم تعبيرها عن رغبتها بثورة ربيعيه كثورات العرب ، الا انها لا تثور وتبقى الثوره لديها امنيه جميله لطيفه. لا احسدها على مأزقها ، فأنا رجل وقد عبرت الثلاثين بعشرين اخرى … ولكني أؤكد لها انني لم اختر يوما اي من ثوراتي فهي كانت قد عصفت بي الواحده تلو الأخرى كثورات العرب بلا مخطط ولا مصمم، فهنيئاً اذا للكاتبه بكل ما سيعصف بها مقبلا.
11 يوليو 2012
رائع جدا !!!
10 يوليو 2012
جميلةٌ تلك الحروف وما تحمله من صدقٍ وواقعية.