تهديد: الأسرى السياسيون الفلسطينيون في إسرائيل/ لاليه خليلي
إستعراض لكتاب “تهديد: الأسرى السياسيون الفلسطينيون في إسرائيل” الصادر عن “بلوتو برس” في لندن. تحرير: عبير بكر وعنات مطر
تهديد: الأسرى السياسيون الفلسطينيون في إسرائيل/ لاليه خليلي
.
|د. لاليه خليلي|
ثمة الكثير من المقاطع الموجعة في الكتاب الممتاز الجديد الذي حرّرته عبير بكر وعنات مطر، والذي يتركز في الإجراءات والعمليات المرتبطة بالاعتقالات الإدارية وحبس الفلسطينيين في إسرائيل؛ حتى إنه يمكنك العثور على بعض هذه المقاطع في الفصول الأكاديمية منه. إلا أنّ أكثر ما يثير الجزع، وهو على سبيل المفارقة أكثر ما يبعث على التفاؤل، الرواية التي يقدّمها أسامة برهم حول الفترات الطويلة اللانهائية لاعتقالاته وحبسه والتحقيق معه. فقد بدأت هذه الفترة عام 1979، حين كان معتقلا بتهمة رفع وتطيير ألوان العلم الفلسطيني بواسطة علم مُرتجل صنعه من بلوزات والدته، ثم انتهت عام 2008، حين أُطلق سراحه بعد انتهاء محكوميته الأخيرة ومدتها خمس سنوات. وفي غضون هذه الفترة، أُعتقل وحُبس لفترات تراوحت بين 18 يومًا وسبع سنوات، في حوادث منفصلة.
تُذهلك قصة برهم من عدة نواحٍ: كيف أنه يشير إلى دوائر ومحطات حياته بواسطة فترات الاعتقال والحبس؛ وكيف قام بالخضوع لتشكيلة واسعة من الممارسات الاحتجازية التي تنشرها إسرائيل وتعمّمها كجزء مبرمج من السيطرة على السكان؛ ناهيك عن التأثير الأوسع لهذه الممارسات المبرمجة الذي لم ينحصر في المسجونين فقط، بل تعدّاه إلى المجتمع الفلسطيني كله؛ وكل هذا في ضوء السهولة التي يجري من خلالها تجاهل وطمس القانون والإجراءات العدلية لصالح الممارسات الساعية للسيطرة (على السكان).
وما يصدمك أكثر وأكثر أطول فترتيْ سجن قضاهما برهم، وهما فترة سبع سنوات بعد محاكمة وست سنوات ونصف السنة كاعتقال إداريّ من دون محاكمة، حيث تقوم المحكمة وبشكل ممنهج بتمديد أمر الاعتقال الإداري كل ستة شهور، لفترة وصل مجموعها إلى 78 شهرًا. هذه التشكيلة من تقنيات الحبس السياسية-القانونية هي ما يسميها سجين مستديم آخر حُووِر في الكتاب باسم “أشكال” من نظام السيطرة على السكان، وهذا السجين هو الشيخ محمد أبو طير، الذي قضى 30 عامًا، أو أكثر من نصف حياته، في السجون الإسرائيلية. ما أسعى للتشديد عليه هنا، هو ما يظهر تكرارًا ومرارًا عبر هذا الكتاب الواضح، المُركّز، حسن الكتابة وفائق الفائدة، أنّ التقييدات العنيفة الممارسة على حرية الفلسطينيين الجسدية ظلت متعاقبة ومنسجمة وقائمة في مستودع الأسلحة السياسية الإسرائيلية. وقد حصل هذا رغم جميع الأفكار المبتكرة في تقنيات السيطرة وكلّ عمليات تشويه وتحريف الحقائق من الناحية القانونية وخطاب إسرائيل المُملّ عن “الأمن”، حدّ القشعريرة. ومن الجائز أنّ أكثر الخاصّيّات المستديمة اللصيقة بالحرب الإسرائيلية الاستيطانية الكولونيالية عبر العقود، كانت عبارة عن نظام سجن وحشيّ يسعى من أجل تشويش وتعطيل المبادرات السياسية والحياة والمجموعات. يتجسّد الجوهر المتفرّد لهذا المشروع في ما تصفه المحرّرتان على أنه “تشريع أعمى وقاطع ومطلق، يقوم بنقل جميع الفلسطينيين إلى منطقة التهديد”. وهذا يؤدّي بدوره إلى اعتبار سجن الفلسطينيين أمرًا “غير سياسيّ”، باعتبار أنّ “كل وجود الفلسطينيين يتحجّر ويُنحت عبر وسائط تعتمد على أوسمة “التهديد الأمني”، والذي يحوّلهم إلى ما يشبه الأفراد الخطرين، لا يشكلون الخطر إلا على من حولهم”.
عمليًا، تقوم المحررتان والكُتاب بطرح ادعاءات هذا الكتاب بشكل جيّد ومُسوّغ. وقد شغلت عبير بكر أثناء قيامها بعملية تحرير الكتاب مهامّ محامية رفيعة في مركز “عدالة” لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، فيما تتصف عنات مطر بكونها ناشطة لا تكلّ ولا تملّ ضد الاحتلال، وهي مؤسّسة شريكة للجمعية الإسرائيلية من أجل الأسرى الفلسطينيين. ويشمل كُتاب هذا الكتاب خمسة أسرى فلسطينيين سياسيين، سابقين وحاليين، وتسعة محامين على الأقل (بعضهم أكاديميون أيضًا) دافعوا عن أسرى فلسطينيين، والكثير من الناشطين والباحثين.
هذه المقارَبة بين الدراسات الأكاديمية وبين الروايات الموزونة الخاصة بالأسرى والمُدافعين عنهم، تقوم وبشكل مثابر بتوليد احتكاك خلاق. فبرهم يخبرنا كيف قام محققوه، وبشكل متعمد، بتعذيبه عبر نقل الخبر الكاذب حول وفاة زوجته وأطفالهما والحفاظ على هذه الكذبة لخمسة أسابيع. الأسيرة السابقة عطاف عليان (هودلي) تسرد كيف رفض محققوها توفير الفوط الصحية لها وهي حائض. ويسرد وليد دقة –الذي يقضي حاليًا حكمًا مؤبدًا- كيف تقوم مصلحة السّجون الإسرائيلية بتقسيم الأسرى وتوزيعهم في أجنحة بالغة الصغر، “تتطابق حدودها مع المُطوّقات المغلقة التي تُنشئها إسرائيل على الأرض” في المناطق المحتلة:
“جناح خاص لسكان مدينة جنين، وجناح آخر للسجناء من مخيم جنين للاجئين.. جناح للسجناء من قباطية وقراها المحيطة، وآخر لطولكرم وآخر لقلقيلية وقراها.”
الكتاب طافح بالمقاطع المفيدة والخلابة. بعضها ينتقد الطرق التي اُستخدمت لدمج وغرس الحبس والاعتقال في داخل القانون الإسرائيلي، وأيضًا: كيف جرى خلط القانون مع الحبس والاعتقال… النص الفذّ الذي كتبته ياعيل بَرداه يعكس ممارستها المهنية السابقة كمُحامية ومهنتها الحالية كباحثة في علم المجتمع. فهي تبدي اهتمامًا في التنظير لعملية التصنيف نفسها، وكيف تعمل البيروقراطية المحيطة بها على نقل مجموعة سكانية برمّتها وتحويلها إلى تهديدات أمنية بواسطة “تبسيط وتوحيد قياسيّ وتجنيس فائقي التطرّف”. كما يقوم باحثون في القانون ومُحامون بمساءلة الممارسات على أرضية قانونية. ففي أحد طرفي الطيف، وعبر قبول شرعية الجهاز القضائي الممنوحة من الرأي العام السّائد، يقوم ألون هرئيل، ورغم ذلك، بمُساءلة قانونية التصنيف “أسير أمني”. المحامية سمدار بن نتان، التي مثلت مقاتلي “حزب الله” عام 2006 من أجل تصنيفهم كأسرى حرب (وبالتالي سريان العديد من أجهزة الحماية القانونية الدولية عليهم)، تطرح نفس المنظومة من الادعاءات التي تسري على المعتقلين الفلسطينيين هنا. وعند الطرف الآخر من الطيف، بعيدًا عن هرئيل، يطرح الباحث شارون فايل الادعاء بأنّ بوسع القانون عمليًا أن يتحوّل إلى “أداة فعّالة من أجل ممارسة القوة التعسّفية”.
بعض المقالات الأخرى توفر تفحصًا حذرًا لعمليات وسيرورات التحقيق والاعتقال والحبس. إسماعيل ناشف، الذي كتب دراسة حصرية ونظرية وغنية حول الأسرى الفلسطينيين السياسيين (الأسرى الفلسطينيون السياسيون: الهوية والمجتمع)، يدّعي أهمية الظروف المادية الملموسة أثناء الحبس من أجل فهم السيرورة نفسها. سحر فرنسيس وكاثلين غيبسون، والاثنتان مرتبطتان بمؤسسة حقوق الأسرى الفلسطينيين، “الضمير”، والطبيبة النفسانية النسوية روحاما مارتون، جميعهنّ تفحّصن العزل والحبس الانفراديّ.
ما يجعل من هذا الكتاب كتابًا ناجحًا هو المتاخمة بين التحليلات القانونية وبين الادعاءات الأكاديمية وبين الروايات والسِّيَر الشخصية. وكنت أتمنى لو أنّ مطر وبكر كتبتا مقدمة أطول قليلاً أو وفرتا مقالات أكثر كمقالة بَرداه، بنقاشها البلاغيّ مع النظام برُمّته. مع ذلك، يظلّ الكتاب مُرحَّبًا به وإسهامًا قيّمًا لفهمنا وإدراكنا لكيفية تحوّل الحبس إلى جزء لا يتجزأ من الجهاز الإسرائيلي للسيطرة والعقاب والعنف.
(د. خليلي محاضرة أمريكية-إيرانية في مجال سياسات الشرق الأوسط في “مدرسة دراسات الشرق وإفريقيا” (ساوَس) في جامعة لندن؛ ترجمة خاصة بموقع “قديتا”- بتصرف؛ رابط المقالة الأصلية بالإنجليزية)