شيءٌ عن “الشيء”/ تمارا ناصر
تصف كاردينال بدقة موجعة تدهورها نحو فوهة الجنون، وعلاقتها المرضيّة بأمها التي دفعتها إلى حالة ذهان (Psychosis) وسيكوسوماتيّة جعلتها تريق دمًا غير منقطع عبر عضوها التناسلي طوال ساعات، أيام وشهور السنة.
| تمارا ناصر |
لقد وقعت في الحُب مجدداً. ذلك “الشيء” الذي تكابد ماري كاردينال بسببه في روايتها ”كلمات لقول الشيء” (Les Mots pour le dire) يستدرج القارئة أيضًا، يستهويها، يغازلها ثمّ يتّخذ روحها عرشًا ويتربّعه. ولكن ستجدين نفسك، خلال قرائتك لهذه السيرة الذاتية، في قلب مفارقة وجوديّة؛ ستبحثين تارة في كل ركنٍ عن الجزّاز الملائم ليقوم بقطع هذه العلاقة المشيميّة مع النصّ وما يسكن سطوره، وستقومين تارة أخرى بشدّ حبل المشيمة إليك ولفّه حول عنقك بإحكام كي يمدّك بغذاء يطيب له الروح. هذا هو الحُب.
لا عجب أن تُخلّف قصة كهذه شعورًا كهذا. إذ أنّ إحدى المفاتيح الأساسية في حقل التحليل النفسي يقوم على مصطلح “التماهي المُسقط” (Projective Identification) أي أنّ يقوم المتعالج، بشكل غير واع، إيداع مشاعر أو حالة نفسية استعصت عليه احتواؤها عند الأخصائي، فيقوم الأخصائي بدوره بالتماهي مع هذه الحالة أو المشاعر المُسقطة. فمن العبقرية الفنية أن ينتقل مصطلحًا مفتاحيًا من المضمون، أي من ثيمة رئيسية سردية في عالم النصّ الروائي، عبر البنية السردية المحكمة والمتينة إلى النفوس المتلقية بحيث يصل “هذا المصطلح” مولودًا حيًا يرزق. بكلمات أخرى، ينسلخ المصطلح من عالم الشخصيات الروائية إلى مستوى العلاقة بين القارئة والنص ليكون جسرًا بينهما.
تحكي ماري كاردينال (كاتبة فرنسية ولدت في الجزائر أبان الاستعمار الفرنسي) في سيرتها الذاتية، قصة نجاح علاجها النفسي، قصة ولادتها من جديد من خلال لقاءات علاجية عبر التحليل النفسي الكلاسيكي. تصف كاردينال بدقة موجعة تدهورها نحو فوهة الجنون، وعلاقتها المرضيّة بأمها التي دفعتها إلى حالة ذهان (Psychosis) وسيكوسوماتيّة جعلتها تريق دمًا غير منقطع عبر عضوها التناسلي طوال ساعات، أيام وشهور السنة.
قد يصيبك شعورًا بالدي جا فو أثناء القراءة، خاصة إذا كنتِ من متابعات كاتبات غربيّات ونصوص خاصة بهن. فحالة الجنون والحالة النفسية هذه تتمايز وتتشابه في الوقت ذاته مع حالات من قصة “ورق الحائط الأصفر” الشهيرة لتشارلت جيلمان ورواية “الناقوس الزجاجيّ” لسيلفيا بلاث وغيرها. إذ لا يمكن غض البصرعن الظرف المشترك لجميع هذه الأعمال الأدبية، وهو القمع الجندري (ذات طابع طبقي) الذي يفقد الكثير من النساء صوابهن. ولكن من ناحية أخرى، توجد هناك حالة نفسية متفردة ومتميزة لكل امرأة تتهاوى إلى ظلمات النفس. وهذا لب ما تطرحه علينا “كاردينال” من تساؤلات وإشكالات. فهي تتساءل في مراحل متأخرة من علاجها، لو كان ما يدفعها إلى الجنون، لتصاب بذلك “الشيء” كما تسميه، هو نفسه ما قد يدفع جميع النساء إلى الجنون، فلماذا هي فقط من تتجاوب مع الظرف الاجتماعي، الديني، السياسي على هذا النحو؟ لماذا هي فقط أفضل من يتجاوب مع هذا الترويض والتطويع وأسوأهن في ذات الوقت؟ بكلمات أخرى، تروي لنا “كاردينال” من اللحظة الأولى، قصتها الشخصية التي تربطها ربطًا عضويًا بالجنون، وعلينا أن نستكشفها كقراء كما كان عليها أن تستكشفها هي بذاتها في لقاءاتها العلاجية.
هناك الكثير ما يقال عن هذا العمل العبقري والمتكامل، وفعلًا قد تم تناوله من مختلف التخصصات الأكاديمية، نفسيًا وأدبيا وفلسفيَا. هذه المقالة لم تكن بصدد تناول العمل على نحو أكاديمي، بل هي مبادرة مني للإشارة إلى وجود هذا “الشيء”.