المعلمة تحيّة كاريوكا/ ألكسندر بوليكيفيتش
كذلك عُرفت تحية كاريوكا برفضها للصهيونية ولإقامة علاقات مع إسرائيليين، فخسرت جراء مواقفها فرصتها الذهبية لبلوغ العالمية. إ
| ألكسندر بوليكيفيتش|
لبنان
اسمها الحقيقي ”بدوية محمد أبو العلى النيداني كريم”. أطلق عليها اسم “بدوية”، تيمناً بالشيخ السيد البدوي، أحد أبطال المقاومة أثناء الحروب الصليبية. ولدت في الإسماعلية يوم 22 شباط/ فبراير 1919، وتوفيت يوم 20 أيلول/ سبتمبر 1999 عن عمر ناهز الثمانين.
الصحافة العربية، مدفوعةً بميل فضائحيّ وتلصّصيّ، أكثر ما اهتمّت بالتعرف على أزواج تحية الـ14، حتّى أنها نُصّبت صاحبة الرقم القياسي بين الفنانات في عدد الزيجات. وثمّة كثيرون رجّحوا وجود زيجات أخرى لم يعرف بها أحد. لكن ما يفوق ذلك أهميّةً، بعيداً عن صحافة الإثارة واهتماماتها، ما كانته فعلاً تحيّة كاريوكا. فهي ليست فقط أعظم من رقص “البلدي” في تاريخه، إذ
استطاعت حتى يومنا أن تبقى قدوة تحتذى من جميع الراقصات والراقصين.
لقد أُطلقت على تحيّة ألقاب عدّة، كلّ واحد منها يشي بجانب من جوانب تجربتها وغناها. فهي “بنت البلد” و”المعلمة” و”الجدعة” و”أم الغلابة” وسوى ذلك، فيما قارنها إدوارد سعيد بأم كلثوم بوصفهما رمزين مرموقين في الثقافة الوطنية المصرية. وبالفعل تعدّت تحيّة الحيّز المتاح تقليديّاً للراقصة، إذ انفردت بدور بارز يتقاطع عنده الرقص والسياسة والصورة العامّة التي يتناقلها جيل عن جيل. يكفي القول إنّ مسيرتها امتدّت على ستين عاماً قدمت خلالها أكثر من مئتي فيلم، فضلاً عن عروض الرقص والمسرح السياسي.
البداية
البداية كانت مع الفنانة السورية سعاد محاسن بصالتها الفخمة المعروفة في الإسكندرية، صالة “الكورونا بالسلسلة”، حيث كان أجرها ثلاثة جنيهات شهريّاً لا أكثر. وبعد فترة من التدريب مع فرقة سعاد محاسن، التحقت تحيّة، أو بدوية، بفرقة بديعة مصابني؛ الفنانة اللبنانية الأصل التي كانت فرقتها تلك معهداً لتدريب الفنانين وصقل مواهبهم. كان ذلك في بداية الثلاثنيات.
ويذكر سليمان الحكيم في كتابه “تحية كاريوكا بين الرقص والسياسة” أنها، لكي تتميز عن باقي الراقصات، طلبت من ديكسون، مصمم الرقصات الإسباني الشهير حينها، أن يصمّم لها رقصة خاصة بها. وبالفعل نجح ديكسون في استلهام رقصة “الكاريوكا” المستوحاة من التراث الشعبي البرازيلي والتي كانت عرضت في فيلم أمريكي نقلته شاشات السينما المصرية. وهي، في هذه الرقصة، حققت نجاحاً كبيراً. فكان روّاد كازينو بديعة مصابني يهتفون كل ليلة مطالبين بها، بحيث تكرّس لها هذا الاسم بسبب معجبيها الذين هتفوا به. ولمّا كانت بديعة مصابني قد أطلقت عليها من قبل اسمها الأوّل، تحيّة، اكتملت تسميتها التي صارت تُعرف بها: تحية كاريوكا.
وعنها يقول الموسيقار والمغنّي محمد عبد الوهاب: “كوّنت تحية كاريوكا شخصية الراقصة المصرية. وكان ظهورها ونجاحها ظاهرة وطنية، في الوقت الذي كان المصريون يعانون فيه الاستعمار على جميع الأصعدة”.
العمل النقابي وفلسطين
تعددت نشاطات تحيّة وميادينها. ففي عام 1955، وخلال انتخاب أعضاء جدد لمجلس نقابة المهن المسرحية، أي مهن التمثيل والرقص والغناء والموسيقى، حصلت تحية على أعلى نسبة من الأصوات. وبالفعل أصبحت تحيّة رمزاً لتفوق المرأة و كفاءتها. لكن على الرغم من فوزها الساحق، فإنها لم ترشح نفسها نقيباً للممثلين، فتنازلت عن ذاك الموقع للمثل الكبير أحمد علام مكتفية بدور الوكيل. إلا أن تحيّة كانت دائماً تفكر بنقابة خاصة للراقصات مستقلة عن نقابة الممثلين. فهذه الأخيرة كانت تشترط على الراقصة، كي تقبلها عضواً، أن تؤدي مشهداً تمثيلياً أو أن تكون قد شاركت في أحد الأفلام أو المسرحيات. ولما كانت كثيرات من الراقصات لا يجدن غير الرقص، فقد بقين على الهامش، محرومات من كلّ دعم نقابي حتى لو كان معنوياً محضاً.
كذلك عُرفت تحية كاريوكا برفضها للصهيونية ولإقامة علاقات مع إسرائيليين، فخسرت جراء مواقفها فرصتها الذهبية لبلوغ العالمية. إلا أن ذلك لم يحل دون تسجيلها، عام 1956، انتصاراً كبيراً على نطاق عالمي. فقد أحدث وجودها في مهرجان كان السينمائي ضجة كبيرة كونها خطفت الأضواء من جميع النجمات، إذ تألقت بـ”الملاية اللف” لبنت البلد حين قدّمت فيلم “شباب امرأة” الذي كان من المتوقع له أن يفوز بعدة جوائز. ويُروى أنه، خلال حفل الغداء الذي دعت إليه إدارة المهرجان، تعمدت الممثلة الأمريكية سوزان هيوارد فتح موضوع إسرائيل وكيف أنها نموذج لمنطقة الشرق الأوسط. ولم يكن من تحية إلا أن ثارت (وكما يقال في العامية “فردتلها الملاية”) وأسمعتها وصلة من الردح ذي العيار الثقيل أجبرت مدير أعمال سوزان على سحبها خوفاً منه عليها! وحين جاء النجم الأمريكي داني كاي ليرد الإهانة التي لحقت بزميلته، عاجلته تحية ببصقة على وجهه. فانسحب من أمامها مسرعاً. هكذا احترقت ورقة تحيّة كاريوكا في تلك الأوساط لكنّها لم تندم بتاتاً على ذلك.
كباريه وزنزانة وإضراب عن الطعام
كانت تحية عضوًا ناشطاً في حركة “حدتو” (الحركة الديمقراطيّة للتحرر الوطني) الشيوعية. وهي، بحسب سليمان الحكيم، أوضحت أنها لم تكن ضد جمال عبد الناصر، لكن عندما خرجت الثورة عن مسارها، كما تصوّرتْه، وزعت ما يقارب المئة وخمسين ألف منشور في معارضة النظام الجديد! وقد ضبطت في بيتها كميات أكبر من المناشير، وكانت حينذاك متزوجة من الضابط مصطفى كمال صدقي.
لكن بعد دخولها السجن اتخذت تحيّة كاريوكا “اسماً حركياً” جديداً لنفسها، وهو: عباس! وهي في السجن لم تنس أنها “المعلمة”، فقادت مظاهرات للسجينات تطالب إدارة السجن بوقف التعذيب ضد بعضهن وتخفيف الخدمة الشاقة عن بعضهن الآخر.
كذلك كان لتحيّة مواقف شهيرة حين أخفت أنور السادات، إبّان عهد الاستعمار البريطاني لمصر، في منزل شقيقتها في الإسماعيلية. إلا أن أشهر مواقفها يبقى بكل تأكيد إضرابها عن الطعام في مقر نقابة المهن السينمائية ضد “القانون 103″ الذي جاء مجحفاً بحق الفنانين. وهي لم توقف إضرابها عن الطعام رغم تدهور حالتها الصحية والضغوط العاطفية الكثيرة التي مارسها عليها محبّوها من أصدقاء وزملاء، حرصاً منهم على صحّتها وحياتها. ولدى نيل المطالب المرفوعة جميعاً، قالت تحية فيما كانت تنهي الإضراب: “لتذكر الأجيال القادمة من الفنانين أن الذين سبقوهم على الطريق من فنانين كانوا طليعة المدافعين عن الديمقراطية والحرية، ونحن بموقفنا هذا نرفض العودة إلى الوراء”.
أنهي مقالتي بكلمات تحية كاريوكا لنتذكر ما كان عليه واقع الرقص في الماضي ولنعبر عن أسفنا على واقعنا وواقع الراقصات والراقصين في العالم العربي، حيث لا توجد حتى اليوم نقابة خاصة لنا، وحيث راقصات مصر تتسابق لإعلان الولاء للحكام خوفاً منها على استمرارية قد تزول كما الغبار في رياح الهمجية والتخلف والتطرف الديني.
*راقص ومصمم رقص لبنانيّ