“مسامير تبني الرُّكَب” وأخرى تفتّت الرُّكب/ شيخة حليوى
يعلنون دون خجل أو خشية أنّ دم الطفل اليهوديّ أغلى وأثمن من دم الطفل العربيّ، ليس بسبب تفوّقه في المكوّنات بل لأنّ الفكر الاستعلائيّ المريض أوحى لهم بذلك
.
|شيخة حليوى|
لقد أعادتني “معادلة الدم” الصهيونيّة والقنابل المسماريّة إلى الشتاء الماضي، إلى حديث عابر كادت تطويه من ذاكرتي مشاغل الحياة وصيفٌ عنيد لم يُبقِ من ذاكرة الشتاء سوى الحنين.
قابلتها في الشتاء الماضي، في يوم شديد البرد. عرضت عليها أن أوصلها بسيّارتي فرحّبت. المربّية فدوى (ط)، مربيّة أجيال وحاضنة تاريخ. كانت وما زالت تعلّم أطفال الروضة كيف يتهجّون الحروف ويختارون ألوان الحلم، ويغنون يافا كلمة ولحنا. لا تنفكّ تتحدّث عن يافا وعشقها لها من ذاكرة غريبة للزمان والمكان والإنسان.
قالت بفخر إنّ والدها سمّاها فدوى تيمّنا بالشاعرة فدوى طوقان. وقد التقت الفدويان في يافا عام 68 حينما زارتها الشاعرة وحلّت ضيفة على النادي الأرثوذكسيّ.
بدأ الحديث عن البرد الشديد وسرعان ما وصل إلى شوربة العدس! قالت: “أفضل الأطباق في مثل هذا اليوم “مسامير الركب”.” ضحكتُ فقالت: “شوربة العدس، تقوّي العظم وتبنيه، هيك كانوا يسمّوها، مليانة حديد وفيتامينات ودفا. فش متلها للصغار قبل الكبار”.
ثمَّ أردفت مؤكّدة على نظريّة المسامير: “أذكر في الخمسينات من القرن الماضي بعد النكبة بعدّة سنوات، تمّ إجراء اختبارات دم لطلاّب المدارس الابتدائيّة في يافا جميعهم، عربا ويهودا. وكانت مدرسة حسن عرفة هي المدرسة العربيّة الوحيدة التي تستقطب الطلاب العرب بعد أنْ أغلق الاحتلال مؤقّتا بقية المدارس العربيّة في المدينة، وأشارت نتائج الفحوصات إلى “تفوّق” دم الطلاّب العرب على دم الطلاّب اليهود في كلّ المكوّنات. طبعا فاجأت هذه النتائج المسؤولين الإسرائيليّين، وصدمتهم. أكيد دم مجبول بزيت الزيتون والزعتر والعدس مش بالخبزة والمرجرين!”. لم أتوقّف كثيرا عند تلك المعلومة وقد انتقل الحديث بعدها مباشرة إلى مسامير وأسافين العرب في سوريا ومصر.
اليوم ودم أطفال غزّة يختلط برمل بحرها ويصبغ أرضيّة المستشفيات وأحضان ذويهم وشاشات الإعلام الصادق الجريء، حضرت معادلة التفوّق بشدّة. هذه المعادلة البسيطة البريئة والتي أتت بنتائج غير مرضية للقادمين الجدد وأزعجتهم هي معادلة تفوّق بعيدة عن التعصّب ومبادئ العنصريّة وبعيدة عن أيّ حقد أو كراهيّة وهي ليست نتاج فكر عنصريّ فاشيّ استعلائيّ، بل هي نتاج الارتباط بالأرض والطبيعة ومكوّناتها؛ هي نتاجُ حياة شعب ارتبط بأرضه وما تلدُ فأصبح دمه شاهدًا على هذا الارتباط.
هل حقدَ هؤلاء على الطفل الفلسطينيّ واستكثروا عليه تفوّق دمه مخبريًّا على دم أطفالهم فسفكوه؟ أشكّ أنّ هذه الحقيقة لم تؤرّق كثيرين منهم وتمّ تباحثها على أعلى المستويات، تمامًا كما يتمّ تباحث حجم ووزن القنابل الملقاة على غزّة وعدد المسامير فيها.
وأشكُّ أيضًا أنّ هذه الحقيقة التي أثبتتها مختبراتهم قبل أكثر من خمسين عامًا غابت عن خططهم وسياساتهم فهم يعلنون دون خجل أو خشية أنّ دم الطفل اليهوديّ أغلى وأثمن من دم الطفل العربيّ، ليس بسبب تفوّقه في المكوّنات وليس لأنّ الفحوصات المخبريّة أثبتت ذلك، بل لأنّ الفكر الاستعلائيّ المريض أوحى لهم بذلك، لأنّ شعب الله “المختار” صدّق كذبته وأضاف للهِبة الإلهية المزعومة بندًا ربّانيًّا آخر وهو “دم أطفالنا أغلى وأثمن من دم أطفالهم”.
قد نكون في قمّة السذاجة والإنسانيّة معًا حين نعتقد أنّ مسامير الركب تأتي من شوربة العدس، بينما هناك من يؤمن بأنّ المسامير في الركب لا تأتي إلا من الـ f16!
“شتّان بين مسامير تبني الرُّكب وأخرى تفتِّت الرُّكب”- كانت ستقول إحدى الأمّهات وهي تعدّ شوربة العدس قبل القصف بقليل.