أن تكون عربيًّا… عندما يغني الأصلانيّ لمستعمره/ صالح ذبّاح
وفي نظرة استرجاعية للإنتاجات الفنية والموسيقيّة في المشهد “البديل” للداخل الفلسطيني في السنوات الأخيرة، نلحظ أنّ معظمها حاول كسر شكل الأغنية “الملتزمة” المائلة للكآبة والمطعّمة أحيانا بالكليشيهات، وتقديم أنماط جريئة وخارج الصندوق، تناولت قضايا اجتماعية دون ذكر فلسطين بين كل شطر وآخر بشكل صدىء.
| عن “فصل المقال” - صالح ذبّاح |
تبدو أغنية “أن تكون عربيً”ا والتي أطلقها مؤخرًا الفنان جوان صفدي من الحالات القليلة في تاريخ الأغنية السياسية- الاجتماعية، يقوم بها مغنّ ينتمي لسكّان أصلانيين بصنع أغنية فصّلها على قياس شريحة من جمهور المستعمر (بكسر الميم) وهي شريحة اليهود العرب في إسرائيل، أو “اليهود الشرقيّون” كما يحلو للمؤسسة الصهيونية تسميتهم.
ما يميّز هذه التجربة الغنائية ما بعد حداثيّتها الخلّاقة، من خلال العمل على مستويين من التأليف بشكل فيه نوع من التضادّ المبدأي في بداية الأغنية كون الفّنان فلسطينيّا يغني أغنية عبريّة استقت من أغاني التيّار المركزيّ، وبعدها يتآلفان مع مرور الثواني والدقائق، بطريقة قد تعزّي قليلا منظّري مدرسة فرانكفورت، حيث أتى المستوى الأول للتنفيذ الموسيقي منصاعًا لقوانين القالب الإيقاعيّ للأغنية الإسرائيلية “المزراحيت” (الشرقية) عن طريق اللحن الأليف والمتكرّر، والتوزيع الموسيقي المعتمد على الألات الوترية والجيتارة الكهربائية، وتماشى معها على مستوى الصورة في الكليب الذي أخرجه نايف حمود، الشكل المطبوع في الأذهان لما يعرف إسرائيليّا بالـ”عرص” الشرقي، بفظاظة سلسلة عنقه الذهبية، وذكوريته المبتذلة التي جعلت من النساء خلفية ديكوريّة بصرية تتراقص لا أكثر، وبدا الأداء التمثيليّ لصفدي في هذه المقاطع مقنعًا للغاية حدّ الشبه والتوحّد مع المغنّي المعروف “زوهار آرغوف”.
أما المستوى الثاني وهو المضمون، فقد جاء على نحو ذكيّ، أكثر ما يميّزه الاتّساق الأيدولوجيّ في طرح الجانب الإثني للاستعمار الصهيوني في المنطقة العربية، والتشديد على عروبة اليهودي المهاجر من موطنه العربي إلى فلسطين، منطق كان قد قدّمه وتقاطع معه يهود عرب في كتاباتهم الروائية أو التنظيرية من أمثال شمعون بلاص، ويهودا شانهاف، وتحفيز النظر إلى القواسم الثقافية المشتركة ما بينهم وبين الفلسطينيين، الأمر الذي قد يفضي في نهاية المطاف إلى خلخلة منظومة السيادة الصهيوينة الغربية، التي دأبت منذ قيام الدولة العبرية على تذويت العداء لكلّ ما هو عربي، خالقة واقعا نفسيا منفصما لدى “المزراحييم” (اليهود الشرقيين) جعل منهم الأكثر تطرّفا وتحريضا على الفلسطيينين، والأكثر التحاقًا بالوحدات الحربية والقتالية في جيش الاحتلال من قبيل الوحدات “جولاني” و”دوفديفان”.
الرؤية التي يقدّمها صفدي في مقدّمة أغنيته تبدو وكأنها ذات طابع جنسانيّ، تصفع المستمع – اليهودي الشرقي على أقلّ تقدير- بعد مرور ثوان من الجمل الأولى، يشبّه فيها تنكّرهم لأصولهم الشرقية بحالات كارهي المثليين جنسيا الذين هم بأنفسهم مثليون، ويردفها بالتقسيم الطبقي الإثني متمثلا برزوخ الفلسطيني واليهودي الشرقي معا تحت عنصرية سلطة “الرجل الأبيض”، في إشارة إلى اليهود الأشكناز، وبين هذين الشطرين تدخل اللازمة الأبرز في الأغنية “ما أصعب ان تكون عربيا”، التي عدا عن كونها لازمة موجعة وساخرة، إلّا أن بها خاصيّة (موتيف) فنيّة لازمت مرارا الأغنية الشرقية في إسرائيل وهي “الندب” والشكوى، وكأنها المعادل للهجران واللوعة في الأغاني العربية، وفي نفس الوقت تنحدر في السياق المجتمعي الداخلي في إسرائيل من التمييز الذي تعرّض له اليهود الشرقيون لعقود طويلة، وكان الرهان على هذه اللازمة ذكيّا موفقا للغاية.
في المشهد الأخير للأغنية المصوّرة يتم اختصار كل التعقيدات الهوياتية المذكورة في العمل من خلال مشهد لرجل وإمراة أشكنازيّين، يمرّان على حفلة الرقص الشرقيّة والزغاريد الشعبية على الشاطئ بين الفلسطينيين وأعضاء تنظيم “لهافاه” اليمينيّ ، دون أدنى فهم لما يحصل بين هؤلاء العرب/ الشرقيين، وبعد ذلك يسدّد صفدي صفعته الأشدّ في الأغنية، ليفسد الأجواء الراقصة رغم توتّرها ويوقفها فجأةً، عندما يختتم الأغنية بأن كل هذه المجريات تحدث على أرض فلسطين. ومن بعدها يأتي صمت على شكل نهاية مفتوحة، يراها البعض تبشّر بجولة جديدة من المواجهة،أو بواقع جديد مغاير.
وفي نظرة استرجاعية للإنتاجات الفنية والموسيقيّة في المشهد “البديل” للداخل الفلسطيني في السنوات الأخيرة، نلحظ أنّ معظمها حاول كسر شكل الأغنية “الملتزمة” المائلة للكآبة والمطعّمة أحيانا بالكليشيهات، وتقديم أنماط جريئة وخارج الصندوق، تناولت قضايا اجتماعية دون ذكر فلسطين بين كل شطر وآخر بشكل صدىء. على سبيل المثال لا الحصر، هنالك تجارب ناقشت جوانب اجتماعية – سياسية من طلائعيّيها فرقة “الدام”، وأخرى جوانب جندريّة (“مشروع غنّي عن التعريف”، “قول لي مين إنت” لفرقة الدام وميسا ضو )، أو من خلال محاولات لتفكيك المقدّس الدينيّ (“يا حرام الكفّار”، “طير أبابيل” لجوان صفدي) وغيرها من الأعمال، وما يقدّمه صفدي في تجربته الأخيرة، يجوز اعتباره تحديثا على السيرورة الفنيّة في الداخل،حيث يتبنّى مخاطبة الإسرائيلي بلغته دون تقديم تنازلات سياسية، وفي الآن نفسه قادر على أن يبقى جذّابا وممتعا للمتلقّين.