قاتل يقرأ الخرائط/ صفاء عبده
شارون رأى أنّ عليه الاختيار بين الضفة وبين غزة، فقام بالاختيار الذي أثبت مفعوله لاحقا وتمثل بأنّ غزة عاشت وهم التحرّر, لكنه لم يكن بالواقع إلا سلخا للقطاع عن امتداده, وشعورا مزيفا بالأمارة المستقلة
|صفاء عبده|
يتمثل أسوأ ما اقترفه أريئيل شارون بحياته ضد الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، برأيي، بالانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005. وقد يقول قائل إنّ مجازره من قبية إلى صبرا وشاتيلا وقبلها أثناء النكبة, هي أسوأ ما اقترفه, وقد يدعي أحدهم أنّ اجتياح لبنان عام 1982 وحصار منظمة التحرير هناك لنفيها إلى تونس هو أسوأ نكسة لحركة التحرير الفلسطينية ولمنظمة التحرير الفلسطينية. لكنني على اقتناع بأنّ أسوأ ما عمله هو “فك الارتباط” وليس ما ذكرت, لأنّ القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني يتلخصان بما قاله جورج حبش: “الثورة الفلسطينية قامت لتحقيق المستحيل لا الممكن”، ولذا فإنّ زخمها وقوّتها تستمدهما من الحلم والأمل والرؤيا, وليس من الأوضاع المادية والبشرية, مهما كانت حجم التضحيات على الأرض.
لا بدّ من ذكر إنجازه القويّ خلال حرب تشرين عام 1973, والتفافه على الجيش المصريّ بسيناء ممّا كان من الممكن أن يؤدّي إلى وصول الجيش الإسرائيليّ إلى القاهرة, لولا المقاومة الشعبية المصرية الضخمة التي لاقاها الجيش الإسرائيليّ والتي حالت دون ذلك.
غنيّ عن الذكر أنّ إنجازه هذا ما كان ليتحقق لولا أوامر السادات بتوقف زحف الجيش المصري شرقا إلى نقب فلسطين, لكن قوّة انجازه ذلك جعل الشارع العربي يشعر بأنّ لا حسمًا أو نصرًا عسكريًا على إسرائيل، الأمر الذي سهل على الأنظمة العربية لاحقا, تبرير محاصرة حركة التحرّر الوطني الفلسطيني المتمثلة تارة بمنظمة التحرير وطورًا بالزخم الشعبي للاجئين الفلسطينيين.
أعود لاجتياح لبنان ومقولة عرفات “لو كانت بيروت مدينة فلسطينية لما انسحبت منها وإنما استشهدتُ”. من الجدير ذكره أنّ ذلك الحصار ما كان لينجح ومعه عملية النفي المذلة للمنظمة, لولا تواطؤ الأنظمة العربية الفاعلة بالحرب الأهلية اللبنانية ولولا صمت شبه شعبي وشعور عام بالهزيمة للشارع العربي.
كان ذلك عام 1982؛ لكن في عام 2001 ولدى انتخابه رئيسا للحكومة, كان عرفات على بعد بضع كيلومترات منه, بمدينة فلسطينية (رام الله) وتم انتخاب شارون في ظل انتفاضة ثانية وهدوء فلسطينيي داخل الخط الأخضر بعد استشهاد الشبان عام 2000, ووضع عام دوليّ قويّ برئاسة الولايات المتحدة وعلى رأسها المحافظون، ومن ضمنهم جورج بوش, وأحداث 11/9 شكلت أرضية خصبة لتبرير القمع الوحشي الذي سيستخدمه ضدّ شعبنا الفلسطيني بالضفة على كامل مدنها وقراها. بعد مقتل عرفات برزت طبقة رجال أعمال فلسطينيين ترى تناقضا محدودا بين الاحتلال بكافة أشكاله وبين مصالحها الاقتصادية الضيقة ممّا سهّل عملية انتهاء الانتفاضة الثانية على مستوى الضفة الغربية.
من ضمن ما قتله شارون بعملية قمع الانتفاضة الثانية, برز قتله تقريبا لكافة المناضلين الكبار من الكفاح المسلح ضدّ رموز الاحتلال على أرض الضفة, وإبقاء من أرسلوا عمليات تفجيرية داخل الخط الأخضر أسرى بيد الاحتلال. كما أنه اهتم بإنهاك المجتمع المدني الفلسطيني وهدم البيوت بطريقة جنونية؛ فمجزرة مخيم جنين كانت مجزرة للبناء وليس لأعداد الشهداء أو الضحايا. كما أنه اهتمّ بهدم وقصف كافة المؤسّسات الحيوية في السلطة الفلسطينية وغيرها من مبانٍ مدنية, الأمر الذي أدّى لتنامي تلك الطبقة المستفيدة من إعادة الإعمار تلك بأموال الدول المانحة. وفي ظلّ تلك الأوضاع قام بالانسحاب من قطاع غزة بالكامل وفرض حصار ومنع التنقل والحركة بين غزة والضفة وبين غزة وكامل فلسطين التاريخية.
وكما قالها محلل إسرائيليّ, فإنّ شارون رأى أنّ عليه الاختيار بين الضفة وبين غزة، فقام بالاختيار الذي أثبت مفعوله لاحقا وتمثل بأنّ غزة عاشت وهم التحرّر, لكنه لم يكن بالواقع إلا سلخا للقطاع عن امتداده, وشعورا مزيفا بالأمارة المستقلة, ممّا يدفع من يتحكم بالسلطة على غزة لعدم الحاجة للتطرق لعودة لاجئي غزة -الذين يشكلون أكثر من ثلاثة أرباع سكان غزة- إلى أراضيهم في النقب الشمالي والمجدل واللد ويافا. كما أنه سمح بحكم ذاتيّ معيّن داخل التجمعات السكانية بالضفة الغربية لكن وسط جدار, مما أنشأ حالة تشبه لحدّ ما حالة الأسر؛ فالارتباط الفلسطيني يقدم طلبات المواطنين إلى الحاكم العسكريّ الإسرائيليّ, الأمر الذي يذّكر بحالة ممثل الأسرى وإدارة السجن.
الانسحاب من القطاع بظروف مختلفة كان يمكن أن يشكّل للفلسطينيين فرصة مواتية. لكنّ فساد وابتعاد بعض رموز السلطة -ومن ضمنهم فتح- عن الشارع وهمومه, ولهفة بعض الحمساويين على السلطة أيًا كانت, ناهيك بتأجيج الصراع الفلسطينيّ-الفلسطينيّ الذي اتخذ طابعًا فصائليًا لكنه هامشيّ. وكل ذلك مقابل وضعية: ضفة منهكة ومدمّرة وغزة ما زالت تحمل السلاح وبيدها قدرة معينة على العمل والتحرّك, بحيث حال ذلك الفصل دون أيّ إمكانية للتعاون فيما بينهما.
إنّ بيت شارون في النقب الأوسط (على أراضي لاجئين نقباويين فلسطينيين هُجّروا بالنكبة أو بعدها إلى دول مجاورة) يختزل الحالة من “دفرسوار مصر” إلى عزل الضفة عن غزة بحيث انحصر الرابط بينهما بأراضي النقب التي يستوطن هو عليها.
قيل إنّ بن جوريون قال لشارون: “لا تقرأ فنحن بحاجة لقتلة لا لمثقفين”؛ لكن ما هو مؤكّد أنه كان يقرأ الخرائط بجديّة.
19 يناير 2014
أظن أن ثغر الدفرسوار كان نتيجة تقدم القوات المصرية وعدم بقائها في مكانها بعكس ما خطط له الشاذلي… على فكرة الطرف المصري أوهم الطرف السوري بشأن خططه. في أي حال القطبان لم يرغبا بأن يفوز طرف على آخر لا الاتحاد السوفييتي ولا أمريكا لكن دعم أمريكا لإسرائيل كان أوثق.