وحدها مأساة العراق/ علاء حليحل
تنجح رواية “وحدها شجرة الرمان” لسنان أنطون ببناء حالة عميقة من الضياع السياسيّ والمجتمعيّ، وهي تبني ببطء ومثابرة وهدوء الحالة الطائفيّة التي تفشّت في العراق بين السنة والشيعة… إنه سيناريو رعب لا حدود له!
>
|علاء حليحل|
رواية “وحدها شجرة الرمان” للعراقيّ سنان أنطون هي رواية جيدة جدًا وما بعد حداثيّة بامتياز. فمفهوم السرد الخطيّ (السببيّ) فيها منقلب عليه، وأنطون يعبث بنا وبالزمن الخطيّ المتتاليّ، ليقفز للأمام ويعود للوراء، وهذا قرار حرفيّ قويّ وصحيح في سياق هذه الرواية: فكيف يمكن رواية مكان مثل بغداد الحرب والحصار والدمار، وفق رؤية زمنيّة متماسكة؟
ينضاف إلى قرار كسر مفهوم الزمنّ الخطيّ قرار اللجوء إلى الأحلام-الكوابيس كبطل ثانٍ للرواية، تتكرّر بكثافة وبتنوّع، وتضفي على القراءة شعورًا بالعبثيّة المطلقة، تندمج مع عبثيّة الزمن الذي يُغرّر بنا. هذان العنصران المجتمعان يُنشئان، وبنجاح كبير، رواية قاسية وقاتلة تعمد إلى تطوير مفهوم القسوة واليأس والاغتراب، بخطى بطيئة ولكن حثيثة، تجعلك تدمع على بغداد القتيلة، من دون أن تنهمر دمعة واحدة حقيقيّة. البكاء في هذه الرواية بلا دموع، مآقٍ جافة وعيون زجاجيّة لا تعرف إلا النظر إلى الجثث المتراكمة في الشوارع والمزابل وعلى دكة غسل الموتى في مغيسل جواد وأبيه من قبله.
(يمكننا أيضًا تعداد بعض مواصفات هذه الرواية التي تضعها في خانة السرد الحديث، أي غير الكلاسيكي: 1. البطل هو لا بطل؛ 2. اعتماد المونولوجات الداخليّة وتكثيف الوعي؛ 3. غياب أو شبه غياب للروابط السببيّة؛ 4. غياب البداية التقليدية والنهاية المفتوحة.)
يستعين سنان أنطون بالحوارات العراقيّة الحقيقيّة في الرواية، وهذه مغامرة قد تنفر البعض من القراء العرب في أقطار أخرى من القراءة أو تصعّب عليهم هذه المهمّة، لكنني وبحكم حبّي للّهجة العراقيّة الغليظة والموسيقيّة، فإنّ التماهي مع الحوارات المحكيّة العراقيّة فعل فعله بي، وهو ما يجدر بالحوارات أن تفعله في النص الأدبيّ السرديّ: بناء الشخصيات وتمييزها، وإضفاء الحياة والرونق واللون على الأحداث والنفوس الحاضرة في النص.
وينجح أنطون في بناء حالة عميقة من الضياع السياسيّ والمجتمعيّ، وهو يبني ببطء ومثابرة وهدوء الحالة الطائفيّة التي تفشّت في العراق بين السنة والشيعة (أساسًا) وعمليات الإرهاب المتبادلة بين الطرفين في الأسواق والمساجد ومقامات الأولياء والأئمة. إنه سيناريو رعب لا حدود له؛ كابوس يخيف كلّ عربيّ خائف على بلده ومجتمعه، وأنطون يسرد هذا الدمار المجتمعيّ الطائفيّ في ظلّ الاحتلال الأمريكيّ لبغداد والعراق (2003) مبرزًا القسط الذي لعبه كلّ طرف (الغريب والحبيب) في إذكاء هذه الفتنة واستعارها وتحوّلها إلى الواقع المعاش الوحيد في العراق.
هذه مرثيّة مؤلمة وصادمة للعراق وما حلّ به. مهد الأمة والحضارات الذي تحوّل إلى ساحة وغًى لا ترحم وإلى أكوام من الجثث تتراكم فوق دكة غسل الموتى في مغيسل جواد كاظم. لقد تدمّرت أحلام جواد بأن يكون فنانًا عالميًّا على طول الرواية، وحتى عندما قرّر في النهاية الهجرة عبر الأردن، مُنع من دخوله بدعوى منع دخول الشباب الأفراد للمملكة. عاد جواد لغسل الموتى، ولتسجيل أسماء وأوصاف الرجال والأطفال الذين يغسلهم كلّ يوم في دفاتر يحرص على التدوين اليوميّ فيها. هذا هو التاريخ الحقيقيّ للعراق اليوم. دفتر مُغسّل الأموات.
لقد مات جواد وهو حيّ؛ مات بين الجثث التي يغسّلها ومن خلال علاقات الحب والشهوة مع امرأتيْن تركتاه في النهاية. “ما ظلّ عندي قلب”، قال لحبيبته الثانية التي رحلت إلى الأردن مع أهلها، مخلّفة إياه في القاع العراقيّ السحيق، بلا قلب أو مستقبل أو قدرة على مناقشة الواقع والناس من حوله.
هذه رواية حزينة بلا ابتذال أو صياغات رومانسيّة. سنان أنطون يحبّ عراقه حتى الألم، ولكنّه يبكيه بلا دموع. الدموع لمن لم يجفّ الماء في أجسادهم، ولم تهمد الحياة.
(صدرت الرواية عام 2010 ولم أحصل على نسخة منها حتى الآن. بانتظار الحصول على نسخة من رواية سنان الأخيرة، “يا مريم”، التي رُشحت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربيّة لعام 2013، فهل من مُجيب؟)