كابوس الأرض اليباب -3: أسئلة لا تفقد معناها في الطريق/ رياض مصاروة
نهضت فتاة الزنابق مستنفرة سائلة: متى؟ وكيف؟ سنموت قبل أن ينبت الدم المسكوب وريقة واحدة، حتى الرياح نقضت وعدها بجلب غيمة، غيمة واحدة، وما نسمعه الآن ليس سوى الرعد العقيم الجاف، ماذا تنتظرين؟ من تنتظرين؟ أنت لا تنتظرين غير الصدى، الصدى العقيم لصوت الرعد العقيم.
| رياض مصاروة |
هل سيتحول الكابوس إلى صفاء في مرحلة ما، إلى صفاء وعي، إلى صفاء خيال واع، كي تتطور علاقتي بشخصياتي الافتراضية إلى علاقة جمالية لا تقيدها العاطفة الغاضبة على ذلك الماضي الاستباقي؟
قال لي صديق أن الأرض اليباب واقع ناجز في حاضر حاضرنا، وأضاف: ألا يكفي هذا الدمار الذي أنجزه التخاذل، الذي أنجزته الحماقة؟ ماذا تريد أن تقول؟ دع خيالك يخوض تجربة أجمل من أرضك اليباب هذه.
لم أرد أن أطور مع صديقي هذا نقاشًا حول الجماليات، فلن يفهمني إذا قلت انني أبحث عن جماليات أرض اليباب، عن جماليات الخراب والبؤس، عن جماليات المأساة، عن جماليات القبح، عن جماليات الفارعة وفتاة الزنابق، والبؤس الإنساني ككل، وعن جماليات المأزق الإنساني. لن يفهمني إذا قلت له أنني أبحث عن جماليات لا يمكن أن نعثر عليها في أزمنة السعادة إن حضرت أو في لحظات نعتبرها أنها سعيدة.
جماليات السعادة، أو جماليت الرخاء الإنساني لا تكمن فيها طاقات تفجر طبقات الوعي المهزوم، وطبقات الوعي المطمئن، وطبقات الوعي العفن وتفضحها، ولا شيء يخدع أكثر من السعادة كما قالت “ميديا” كريستا وولف.
كيف لي أن أنام وشخصيات كابوسي هائمة، باحثة عن نقطة ارتكاز لشوق ما؟ وهل بإمكانها أن تحلم أيضًا؟ أن تنادي أملا؟ أن تعيد لغة الحاجات اليومية؟ أن تقول: أنا جائع/ة؟ أنا بحاجة إلى ساعة راحة كي أستقبل الحبيب عندما يعود من عمله؟ أنا بحاجة إلى قبلة، إلى ملامسة، إلى أن يمارس الجسد حقه في الشهوة والنشوة؟ وهل باستطاعة من يمارس نشوة الكابوس أن يدخل إلى أعماق شخصيات متخيلة تسللت إلى رأسه من أرشيف صوره؟
ما زالت فتاة الزنابق تتفحص العظام والهياكل المطرزة على شادر الفارعة، وما زالت الفارعة تتفحص وجه فتاة الزنابق، وما زال صوت قضم العظام يسمع من وادي الفرات…وأنا…؟ أحاول أن أزيل ضبابية الشخصيات الأخرى التي ستدخل إلى هذا المشهد، أؤجل حكاية الفارعة كي تنمق خطابها المحبوس في صدرها، كي تصغي إلى نفسها، هذا ما ستقوله عندما ستقف فارعة أمام جمع لم يصغ لنفسه آنذاك. ماذا يعني “آنذاك” بلغة الماضي، بلغة الانقضاء، انقضاء الأشياء، انقضاء الأمر، انقضاء التمني، انقضاء الشهوة، انقضاء الحياة؟ وهل كتب علينا أن نشتهي الحياة ونحن أحياء؟ هل سيكتب علينا أن نجر عظام من أحببنا على شادر كي نحميها من قضم الجرذان لها؟ وهل ستتراكم العظام في أرشيف صورنا؟
تبًا لخيال يتعامل مع هياكل عظمية مخلعة مفاصلها، مطرزة على شادر سنعتبره لاحقًا تحفة فنية يشتريها متمول أجنبي أو عربي ساهم بسلخ جلودنا عن عظامنا هذه. لا شيء يخدع أكثر من السعادة…هل كنا فعلًا سعداء كي ننخدع؟ أسئلة لن تفقد معناها في الطريق لأننا أجلنا الأجوبة إلى حين أبدي. لن تطرح الفارعة أسئلة فقدت معناها في الطريق: ماذا حصل؟ هي تعرف. لماذا حصل؟ هي أيضا تعرف. ماذا حل بنا؟ هي لا تعرف. ماذا سيحل بنا؟ لا حاجة لسؤال مستقبلي في هذه الأبدية التي تمارس علينا. لو كان ذلك باختيارنا لما قبلنا بأن تمارس الأبدية علينا. الأبدية تعني السكون، تعني اللافعل، تعني اللاشيء في الشيء الذي يفقد جوهر وجوده. أعرف أن الأسئلة ستتراكم عندما ستتخلص الشمس من خجلها، عندما تضطر إلى الشروق، أسئلة لن تحاسب عليها شخصياتي على الأرض اليباب، وسأحاسب عليها إذا تجرأت على طرحها، وربما سيسفك دمي، وستلاحقني الساحرات لاصطيادي وربما أذبح بسكين صنع في نيويورك أو في الرياض، أسئلة ليست وجودية انما أسئلة تخص الوجود ذاته. هل تبحث شخصياتي عن وجود في السكون الأبدي؟
من ذا الذي سيكسر الصمت بين الفارعة وفتاة الزنابق؟ من ذا الذي يحارب من أجل موقع في فضاء الأرض اليباب عل خشبة مسرح سيخاطر في اقتحام جماليات البؤس والقبح؟ لماذا تظهرين الآن في هذه الليلة الكابوسية بالذات، دعيني أتعامل معك في صفاء ذهني وفكري، دعيني أرسم ملامحك التي تخيلتها، وكأنك بدوية خارجة لتوها من الحمام. أردت تأجيل لعنتك وتأجيل “كفرك”، الحادك، وتأجيل الحديث عن ذلك العشق الأسطوري الخابي في طيات زمانيتنا..مييييييييييييييييديااااااااااااااااااااا القرن الواحد والعشرون… هل أنت هي أم أنك تظهرين لي مجسدة؟ لقد تمزقت أوتار صوتك جراء تكرارك للعنة:” اللعنة عليكم جميعا. اللعنة عليكم. ستقبل عليكم حياة مروعة وموت بائس. فليرتفع عويلكم إلى السماء ولا يؤثر فيها. أنا ميديا ألعنكم” وهل ستنهين مناجاتك بقولك:” إلى أين أمضي. هل يمكن التفكير في عالم، في زمن يناسبني. لا أحد هنا يمكن أن أسأله” هل هذا هو الجواب؟
يقول منظرو ما بعد الحداثة أن زمن الأساطير ولى، لا مكان لخلق أساطير في هذا الزمن الما بعد حداثي، لا مكان لخرافات ابتدعها وعي الإنسان الطفولي. لن أخوض هذا النقاش السخيف مع منظري ما بعد الحداثة، سأدع شخصياتي تنزل إلى قاع أسطورتها ، سأدعها تمارس الحلم الذي ينادي الوعي الإنساني الطفولي بعد أن تكمل صرختها وبعد أن تعيد اللحمة لأوتار صوتها.
صدى اللعنة يتبدد…اللعنة عليكم…اللعنة عليكم..عليكم…عليكم…
وصل وقع الصدى إلى سمع الفارعة وفتاة الزنابق. أغمضتا عيونهما لتجمعا مفاصل اللعنة: اللعنة عليكم جميعا..اللعنة عليكم. تردد الصوت، اللعنة، ملأ الفضاء من كل الاتجاهات، دارت الفارعة حول نفسها مصغية، وكذلك فتاة الزنابق. عرفت الفارعة أن: لا يبدد الصدى إلا الصدى المقابل وصرخت: اللعنة، اللعنة، اللعنة. تداخل الصدى بالصدى، إنه إعلان بدء سرد الأسطورة التي ستقوض خرافة ما بعد الحداثة التي أنهت دورها بإنتاج حالة الأرض اليباب.
نجحت الفارعة أن تحدد مصدر الصدى، وقررت أن تتحلى بهدوء انتظارها لظهور ذلك الجسد اللاعن. تقدمت خطوة، ثم خطوة أخرى، توقفت وهي مركزة أيضا بخيوط أشعة الشمس الخجولة، التي تأبى أن تتجلى بعنفوانها. حبست في صدرها عشرات الصيغ لأسئلة فقدت معناها في الطريق…أشاحت بنظرها إلى الخلف ولم تلحظ فتاة الزنابق التي انكبت على الأرض تحفر بأيديها بالتراب، فزعت الفارعة عندما لحظتها أخيرًا وصرخت: لا تحفري بالتراب أيتها الغبية حيث أضاع الموتى عظامهم، لا تكشفيها للجرذان والكلاب، ستورق، أقول لك أنها ستورق.
نهضت فتاة الزنابق مستنفرة سائلة: متى؟ وكيف؟ سنموت قبل أن ينبت الدم المسكوب وريقة واحدة، حتى الرياح نقضت وعدها بجلب غيمة، غيمة واحدة، وما نسمعه الآن ليس سوى الرعد العقيم الجاف، ماذا تنتظرين؟ من تنتظرين؟ أنت لا تنتظرين غير الصدى، الصدى العقيم لصوت الرعد العقيم.
لم تعرف فتاة الزنابق كيف جمعت قواها متوجهة إلى الفارعة، قابضة على ذراعها بيد، وباليد الأخرى مشيرة باتجاه الصدى قائلة: إنه “نشيج نواح الأمهات/ ما تلك الحشود المتلفعة تفيض على سهول مترامية/ تتعثر بأرض متصدعة يسورها الأفق المنبسط وحده/ أية مدينة خلف الجبال، تتصدع وتتفجر في الهواء الشفقي/ انها بروج متهاوية” (ت.س.اليوت)، بغداد، القاهرة، حلب، القدس، دمشق، ناصرة المسيح، مكة محمد، صنعاء، عدن، الإسكندرية، تونس، طرابلس، بيروت، جزائر جميلة…أنظري: “ثمة بروج مقلوبة بالهواء/ تدق نواقيس ذكرى، تعد الساعات/ وأصوات تغني من صهاريج خاوية وآبار ناضبة” (اليوت). هوت فتاة الزنابق وصرخت ثانية: لقد أهداني الزنابق البيضاء قبل رحيله لتحرير الأرض من الوحوش التي نبتت على ضفاف أنهرها، ولم يقل لي انتظري أن تنبت زنبقة حمراء على تراب دمه على ضفة هذا النهر الحزين. اني أحترق ولا أستطيع أن أبدع صلاة تنشلني من احتراقي.
ركعت الفارعة على ركبتيها إلى جانب فتاة الزنابق، رفعت رأسها بيديها الاثنتين، قربت كف يدها إلى وجهها وبدأت تمسح الغبار من على وجهها بلطف استسلمت له وهمست لها: لا حاجة لك للصلاة، وجهك الجميل هذا هو الصلاة التي ستشرق على هذه الأرض، وأقول لك، عندما ستظهر ملامح وجهك كاملة…..لم تكمل الفارعة الفكرة، ولم ترد أن تصغي في هذه اللحظة لفكرة بدت لها مرعبة، مخيفة. نفضت جسدها ونظرت باتجاه الشروق الواهي وصرخت: لا أريد أن أكون عرافة، لا أريد أن أمارس هذه المهنة القاتلة، تمهلي أيتها الجموع، تمهل أيها النواح، تمهل أيها النشيج. ولم النواح في هذا السكون الأبدي؟
دققت ثانية في ذلك الوجه الذي أوحى إلى جمال إنساني خارق، أصابها الرعب ثانية، غرست يديها الاثنتين بالتراب وجمعت حفنة رمادية وانقضت على الفتاة تمرغ وجهها بالتراب الرمادي. ماذا تفعلين؟ صرخت فتاة الزنابق. لا أريد للجموع الآتية أن تكتشف جمال وجهك، قالت الفارعة.
ارتعدت فتاة الزنابق قائلة: انه يأتي. من؟، ماذا يأتي سألت الفارعة. النشيد، أنشودتي الأخيرة أيتها الفارعة، أيتها الساحرة، أيتها الجنية، أيتها العرافة ” لا تذبحوني قبل موعدي”، ما الذي أتى بك إلى حاضر حاضري الأبدي؟ اذهبي، اذهبي وانتظري حتى يتبدد الصدى وتظهر لك تلك التي قتلت أطفالها انتقاما ولوعة. أعرفها، وأعرف هذا الصدى المتكرر، إنه صدى المأساة يا فارعة.