إلى جوليانو: نعترف لك بضائقتنا/ رياض مصاروة
سرّك يا جول في سحرك وهم قتلوا هذا السحر الشافي، هذا ما قتلوه. أنت أردت لنا أن نعترف بضائقتنا وها نحن نعترف أمامك لأننا نلجأ إليك ونلجأ إلى كشف سرك
إلى جوليانو: نعترف لك بضائقتنا/ رياض مصاروة
.
|رياض مصاروة|
تقول كريستا وولف في بداية روايتها “ميديا-أصوات”: “نهبط الى القدماء، أهم يتعقبوننا؟ مد الأيدي يكفي. إنهم ينتقلون إلينا ببساطة، ضيوف غرباء، مساوون لنا. نحن نملك المفتاح الذي يفتح جميع الأحقاب، نستخدمه أحيانا بلا حياء، نلقي نظرة عاجلة عبر فتحة الباب، مولعين بالأحكام المتسرعة، ولكن لا بد أن يكون ممكنا أيضا أن نقترب من بعضنا خطوة، بتهيب أمام الممنوع، راغبين، أن ننتزع من الأموات سرّهم ليس دون ضائقة، الاعتراف بضائقتنا، علينا أن نبدأ بهذا”.
الكلام أعلاه موجه الى الشامخ في وعينا، إلى جوليانو مير خميس، الذي أطلب منه غفران سهوي وتأخيري عن التوجّه إليه في الذكرى الثانية لمقتله. ربما كان سهوي نتيجة لضائقة، ونتيجة لانشغال ببعض التوافه الحياتية، وربما أيضًا بسبب التأمل والصمت الضروريين في حالة الوعي للاجترار الأدبي والمعرفي.
ولو أنك لا تنتمي إلى أحقاب غابرة ولا إلى القدماء، ولكن تلك السنتين وتراكم أحداثهما المجنون بدتا لي كحقبة تاريخية طويلة كطول عمري المتآكل. وأطرح على نفسي السؤال أيضا: لماذا نلجأ دوما إلى الأموات؟ ألكي ننتزع منهم سرّهم بسبب ضائقتنا؟ ولماذا النبش بالأسرار؟ ربما لكي نعي ضائقتنا ولكي يكون بإمكاننا صياغتها فلسفيًا، وذلك يهبنا الوهم بالراحة والنرجسية المعرفية أنه باستطاعتنا أن نفلسف ونتفلسف وأن نقوم بطقس التخدير الذاتي وننام هادئين مستنعمين بالرضى عن وعينا ونطمئن ونهرب من القلق الوجوديّ، الذي هو سر الإبداع يا جوليانو؟
أعترف لك بأنّ كريستا وولف هي السبب وروايتها ميديا-أصوات هي الدافع للتوجه إليك. والآن أعرف سبب سهوي: إنه الانشغال اليومي بالرواية والتفكير بتحويلها إلى عمل مسرحيّ يكشف لي ضائقتي/ضائقتنا، وفجأة أكتشف الشبه بينك وبين ميديا كريستا وولف، هذه الروائية الألمانية الشرقية التي استدركت معنى توحيد الألمانيتيْن بعد روايتها كاسندرا.
أعرف أنّ الأموات في راحتهم الأبدية لا يحتاجون إلينا ولا يحتاجون تملقنا ولا يبالون، وأعرف أيضًا أنّ توجّهنا إليهم نابع من أزمتنا وحاجتنا أحيانا الى خلق هالة حولهم وخلق ربما عناصر أسطورية تساعدنا على بلورة حالة تجلٍّ يشبه مفعولها مفعول السموم المخدرة، وعندما تفقد بعض الأساطير معناها نحاول جاهدين خلق أساطير جديدة بدلا من ممارسة الاعتذار عمّا اقترفنا من سوء تقدير وسوء تقييم لحالتنا، والأموات ليسوا بحاجة إلى الاعتذار ولا بحاجة إلى الشكّ والى كشف أسرار مثلما نفعل. ما حاجتنا إذًا إلى أسراركم التي تغاضيْنا عنها في خضمّ نشوتنا الزائفة أحيانا بانتصارات تافهة صغيرة هنا وهناك، وفي خضمّ نشوتنا أننا “هوب” اكتشفنا الحقيقة واطمأنّ وعينا؟
مرت سنتان وما زلنا نسأل من قتلك ولماذا قتلك وسؤال جوهريّ آخر: ماذا قتل؟ ميديا يا جول بعد أن سئمت التخلف والاستبداد قرّرت خيانة وطنها كولخيس وأحبّت ياسون الذي حضر لتوّه إلى كولخيس ليعيد الفروة الذهبية التي تركها أبوه فيها في إحدى زياراته. أبوها يقتل ابنه لكي لا يخلفه بعد سبع سنوات من الحكم، تساعد ياسون بالحصول على الفروة وتجمع أشلاء أخيها وترميها في البحر من على سفينة الآرغو وتهرب مع “عشيقها” ياسون إلى كورنت، وهي ميديا الواثقة من نفسها تملك أسرار الشفاء من الأمراض والباحثة عن حقيقة سلوك البشر تكتشف جريمة أخرى ارتكبت في كورنت، مقتل ابنة ملكها على أيدي أبيها الذي يريد أن يبقى في الحكم أيضا. يتهمونها بالسحر ويتهمونها بجلب مرض الطاعون إلى كورنت، لأنها اكتشفت الجريمة واكتشفت حقيقتهم وكان عليهم أن يبحثوا عن ضحيّة يلقون عليها مسؤولية شقائهم. وأنت يا جول رحلت من كورنت (إسرائيل) إلى كولخيس (فلسطين) واكتشفت الجرائم في البلدين؛ جرائم القتل وجرائم التخلف الاجتماعيّ، وأنت مثل ميديا كنت تملك ذلك “السحر” الشافي واتهموك بالسحر وكان عليهم أن يبحثوا عن ضحية يلقون عليها مسؤولية شقائهم، وأنت كنت ذلك الواثق من نفسك والواثق أيضًا من نهايتك المأساويّة، وعلى ما يبدو أنك عدوتَ عدوًا إلى هذه النهاية لكي تكشف لنا ولهم حقيقتنا وحقيقتهم.
سرّك يا جول في سحرك وهم قتلوا هذا السحر الشافي، هذا ما قتلوه. أنت أردت لنا أن نعترف بضائقتنا وها نحن نعترف أمامك لأننا نلجأ إليك ونلجأ إلى كشف سرك.
14 أبريل 2013
طيب مين اللي قتله؟