عن الطوطمية وعن عبثية اعتقال الأطفال/ رياض مصاروة
لن تنتهي ظاهرة خلق الديانات إلا بعودة الإنسان إلى مرتبة القرد. ستختفي الأديان بعد آلاف السنين، وربما يكتشف الإنسان بطوره الحالي حياة أخرى على كواكب أخرى تنفي وجوده كليا
httpv://www.youtube.com/watch?v=0S8d5FljTK8
.
|رياض مصاروة|
لكلّ حقبة تاريخية عبثيتها التي انطلقت من أول حالة عبثية واجهت الإنسان الأول، حين أدرك أنه لم يعد قردًا وعليه أن يبدأ بالتفكير بالظواهر التي تحيطه، بدءا بالظواهر الطبيعية، وبدءا بإعطاء الظواهر مسمياتها، ووجد نفسه أنه مجبر على تغيير سلوكياته وهو يصارع من أجل بقائه. ويخطئ الفلاسفة والمحللون أن العبث كظاهرة فكرية وكظاهرة سلوكية بدأت بعد تطور الآلة؛ فالطوطمية التي سبقت ميلاد الآلهة هي أول حالة دينية عبثية تواجه الإنسان في أول شكل اجتماعي اختاره (القبيلة) “إن الدين المميز للمجتمع القبلي في أكثر مراحله بدائية هو الطوطمية. وكل عشيرة تتألف منها القبيلة مرتبطة بشيء طبيعي ما، يسمى “طوطم”ها. ويعتبر أفراد العشيرة أنفسهم مشابهين لنوع طوطمهم ومنحدرين منه. وهم ممنوعون من أكله، ويؤدون مراسيم تقليدية تستهدف زيادة أعداده…” (جورج طومسون- أسخيلوس وأثينا). لقد واكب العبث الإنسان منذ أن انتقل من مرتبة القرد إلى حالته الإنسانية. هناك تعريفات شتى للعبثية ولكنها في الوقت نفسه تتفق في تفسيرها لحالة الضياع التي تتملك الإنسان في تفسير الوجود وتفسير الكون.
لست بهدف دراسة العبث والعبثية في مراحلها التاريخية. ما جعلني أتطرق لهذا الموضوع هو اعتقال الطفل الفلسطيني الخليليّ (ابن السنوات الخمس) على أيدي جنود الاحتلال الإسرائيلي المنعوت من قبلهم أنه أكثر الاحتلالات إنسانية على مر العصور، وفي التسمية أيضًا عبث صارخ إذ لا يوجد احتلال إنساني حضاري، الاحتلال هو اغتصاب، والاغتصاب لا يمكنه أن يكون إنسانيا وحضاريا إلا في الذهن المريض (وفي هذا الصدد أقترح على الفلسطينيين أن يضموا طفلهم إلى موسوعة جينيس كأصغر مناضل معتقل رغم وجود أطفال أصغر منه، الذين ولدوا في السجون، ولكنه اعتقل وهو”يرمي” الحجارة على جنود الاحتلال).
وأتى خبر اعتقاله في خضم عاصفة بحر من الأخبار عن القتل وإراقة الدماء في أكثر من بقعة على هذه الأرض المنكوبة بفعل الإنسان نفسه وخصوصا على أرض إسلامنا من ليبيا إلى تونس، إلى مصر والجزائر، إلى العراق وسوريا ولبنان، إلى فلسطين وهنيئا لك أيها الطفل الفلسطيني الذي تصدرت هذه الأخبار الكونية، فأنت جزء هام في هذا الكون العبثي.
وأجد نفسي في حالة عبثية أنني اخترت هذه المرة أن أتحدث عن عبثية هذه الحقبة التاريخية، إذ لا يستطيع العقل البشري أن يعد هذه الحالات ولكن علي في النهاية أن أختار حالة أو حالتين.
طفل ابن خمس سنوات يعتقل لمجرد أنه لعب بكومة أحجار، أو أنه جمع بعض الأحجار بهدف اللعب، إنها حادثة من شقين: اللعب والاعتقال. الطفل بحاجة إلى اللعب، واللعب حاجة إنسانية غريزية وفي لعب الأطفال تقليد ومحاكاة. هل أراد محاكاة مشهد رآه؟ هل الحجارة هي اللعبة الوحيدة التي يجدها في ظروف الفقر وعدم إمكانيته التجول في الكانيوهات ليشتري له لعبة يتسلى بها؟ وهل الاحتلال نفسه الذي فرض على أطفال فلسطين اللهو واللعب بالحجارة؟ إنه لمن العبث أن نقول ونحلل إنّ هذا الطفل واع لما نسمّيه احتلالا واختار بذلك الحجارة وسيلة لمنهاضته. لست بنفسية طرح الشعارات التافهة والمضللة أن هذا الطفل مناضل ويشترك بانتفاضة شعبية فرضتها ظروف السلطة الفلسطينية بدلا من الانتفاضة الأصلية لأنه يجب أن نرحم وعينا وأن نرحم عقلنا ولكي نتحلى بالعقلانية والإنسانية أيضا، إذ من الممكن أن يظهر بعض المحللين الساذجين ويروا بهذا الطفل ظاهرة نضالية هي حكر على الشعب الفلسطيني. فلندع الاحتلال بوعيه الاحتلالي أن يجعل من هذا الطفل مقاوما وهذا هو الشق الثاني في هذه الحالة العبثية: أن ينتقم جنود احتلال من طفل يلعب ويلهو، والأكثر عبثية في الخبر أن الضابط الإسرائيلي عنف جنوده لأنهم اعتقلوه أمام الكاميرات، إذ همه أن يبقى الاحتلال الإسرائيلي حضاريا وإنسانيا أمام العالم. العبث يكمن في عدم تعنيف هذا الضابط لجنوده لأنهم يعتقلون طفلا ابن خمس سنوات.
باستطاعتي أن أشير إلى الحدث وليس باستطاعتي أن أحلل سلوك الجنود وسلوك ضابطهم، ولا أريد أن أخوض بذلك لأنني لا أريد أن اقع في المرض الشعاراتي أن الجنود يخافون أطفال فلسطين ولا أقترح على أحد أن يقع في هذا المطب. المؤكد هو أن هذا الطفل لن ينسى هذه الحادثة ولا أستطيع اليوم أن أتكهن كيف سيؤثر هذا الاعتقال على تطوّره. يحق له أن يتباهى أمام أصدقائه الأطفال، ومن الممكن أن الآخرين سيقلدونه وإذا ما فعلوا فستتطور عبثية الاحتلال، وسنقف مستقبلا أمام مدرسة كوميدية جديدة تفوق مدرسة المستر بين في هزليتها ولا أريد أن أترحم على ما بقي من إنسانية وأتكلم عن مأساوية االمحتلين فالمأساة تتطلب الرحمة والشفقة. فليشفقوا هم على أنفسهم عند اكتشافهم لحالتهم العبثية هذه.
عودة إلى الطوطمية كحالة عبثية نشأت في مرحلة انتقالية عندما شعر الإنسان بعد انتقاله من مرتبة القرد إلى إنسان واحتاج أن يعيش ضمن مجموعة، القبيلة.
وها هي الطوطمية تعود بشكلها الما بعد حداثي عند الإعلاميين الذين وزعوا أنفسهم وانتموا الى قبائل إعلامية، قبيلة الجزيرة، قبيلة العربية، قبيلة القدس العربي، قبيلة المستقبل، قبيلة المنار، قبيلة الأن بي أن الخ… والقبائل التكفيرية. وغيرها المئات والآلاف من القبائل. ولكل قبيلة رئيس ينتمي إلى طوطم، أو أنه سليل طوطم. أعضاء القبيلة يعيشون على اصطياد الأخبار والأحداث بأطواره المختلفة، ويقومون بأداء طقوس الرقص والغناء جماعات وفردانا لطوطمهم لكي تتكاثر الأخبار والأحداث. المحللون السياسيون ومن يسمون أنفسهم “مفكرون” نظموا أولمبياد التحليل السياسي وأخطر لعبة في هذا الأولمبياد هي رمي السهام بأشكاله المختلفة وسمومه المتنوعة: سهام التخوين، سهام التكفير، سهام الفتنة الطائفية والمذهبية؟ (وأترك للقارئ اختيار الحيوان، الطوطم المناسب لكل قبيلة) وتقوم كل قبيلة بطقوس التلقين لأطفالها وتهيئتهم لمسابقات الأولمبياد.
والمعروف أيضا أن كل مرحلة أو حقبة تحمل في أحشائها عوامل انحطاطها وزوالها، ويتوجب علينا أن نعاني من هذه العبثية ونشاهد يوميا طقوس الذبح وقطع الرؤوس (ألا يحق للاحتلال الحضاري أن يتباهى بإنسانيته وحضاريته حين يعرض هذه الطقوس على شاشاته؟) لن نتخلص من هذه المرحلة الطوطمية إلا بمرحلة انتقالية تنشأ فيها آلهة جديدة تعيد إلى الإنسانية طفولتها وإنسانيتها واشتياقها إلى مرتبة القرد في طورها الأولي. بعد الطوطمية ظهرت الآلهة التي تحكمت بعقل ووعي الإنسان وتدخلت في تقرير مصيره، وجزء منها كان سليل طوطم (يحكى أن رب الأرباب زيوس هو سليل خنزير) وتوالت الحقبات التاريخية وتطورت عبثيتها، وأصبح نضال الإنسان نضالا من أجل الانتقال من عبثية إلى أخرى، وخلق ديانات جديدة تتصارع فيما بينها، ولن تنتهي ظاهرة خلق الديانات إلا بعودة الإنسان إلى طفولته، إلى مرتبة القرد. ستختفي الأديان بعد آلاف السنين، وربما يكتشف الإنسان بطوره الحالي حياة أخرى على كواكب أخرى تنفي وجوده كليا. والى ذلك الحين سيظل يمارس لا إنسانيته ويكتشف أن تسميته بـ “إنسان” هي تسمية عبثية.