ورقة صفراء عمرها 40 سنة/ رياض مصاروة

مارس 23, 2013 مواضيع ساخنة, نثر | 2 comments

.

|رياض مصاروة|

رياض مصاروة- تصوير: قديتا

منذ فترة ومنذ أن تقاعدت عن العمل الإداريّ نهائيًا، أحاول أن أقترب من صنعة الكتابة ولم أفلح. وفي كل مرة أعزي نفسي بمقولة إنّ على الكاتب أن يصمت أحيانا وخصوصًا إذا لم تتوفر في داخله الجهوزية لذلك، وبدلا عن ذلك أشغل نفسي بالقراءة لعلي أفلح في “سرقة أفكار” أو التأثر بكاتب ما أو كما يقولون لعلي أشحن داخلي، وأقول لنفسي معزيا إياها: كثير من المبدعين صمتوا سنوات عدة وأنت لست أفضل منهم، وفي الوقت نفسه أذنّب نفسي لدخولي مغامرة مسرحية فشلت فيها لأنني لم أجد صنعة الصمت هذه.

اليوم هو الثلاثاء، 19/3/2013 توحدّت في مكتبي البيتيّ في بئر الأمير في الناصرة وقررت أن أعود وأقرأ في نظرية الكاتب والمنظر الألماني برتولد بريخت وركزت على مخطوطاته التي تبحث في نظرية التمثيل المسرحيّ، وركّزت على عمل المخرج المسرحي في الصفحة 126 من الكتاب، وإذا بي أقلب الصفحة وأجد نفسي في الصفحة 128، فوجدت هناك ورقة صفراء صغيرة حجمها 10\5 سم، لم أعرها اهتمامًا لأول وهلة ولكنني قرّرت بعد ثوان أن أدقق النظر فيها فماذا وجدت؟ وجدت إيصالا بالكتاب يعود تاريخه إلى 40 سنة بالتمام والكمال والتاريخ المدوّن على الإيصال 16/3/1973- أي قبل 40 سنة وثلاثة أيام. توقفت عن القراءة، وأصابتني رجفة، ولثوان مرّ شريط ذكريات يظهر فيه شارع غوته 3 ومكتبة فرانتس ميرينج ودار الأوبرا في لايبزيغ. وفجأة تجمّع الأصدقاء في هذا الشريط وشاهدت صديقي وأخي المرحوم وفيق حسيان ابن البعنة. تخلصت من الشريط وركزت بالرقم المذهل والمحبط 40 سنة. ورقة صغيرة صفراء بحجم 10/5 سم تعيدك الى واقع تعوّدت الهروب منه بوعي يدوس على وهمك بأنّ لا شيء يبقى على حاله، والفناء القريب هو مصيرك ووعيك الآن يشير الى بدء العد التنازلي لوجودك الجسدي.

هذه الورقة الصفراء دفعتني الآن لفتح الصفحة البيضاء في حاسوبي وهي الآن ماثلة أمامي كتمثال يشير الى مسار رحلة رسمت خطوطها على صفحات حياتي، خطوط مستقيمة وملتوية ومتكسرة، خطوط واضحة وخطوط واهية تكون لوحة سريالية لم تكتمل بعد، وفي الزاوية نقطة سوداء تنتظر الخطوط المتبقية في هذه الرحلة.

هل ستكسر هذه الورقة الصفراء هذا الصمت؟ الصمت عن ماذا؟ الصمت عن العجز الفكري الذي لف سنواتك الأخيرة وعن التخلي عن الجرأة أن تقول ما تفكر به لكي تكون مقبولا على الكل، ولكي تتحلى بذلك الوعي المطمئن وتقول كاذبا إنّ كل شيء على ما يرام، وأنا بحالة جيدة بل ممتازة، لا ينقصني شيء؛ وبذلك تتجنب اخفاقاتك المهنية والفكرية وتتنصل من المسؤولية التاريخية التي ألقيت على كاهلك وكاهل أمثالك من المثقفين وأشباه المثقفين وعلى كاهل المبدعين وأشباه المبدعين الراكضين وراء البوست وما بعد البوست، وأولئك المتشبثين بالفردانية والوجودية القاتلة، ولو أنني أشكر الزميل الناقد إسماعيل ناشف، الذي رفع عاليا شأن مجموعة قصصية لي هي “ملهاة الألم” التي تعثر إصدارها مؤخرًا، وهنا أتوقف قليلا لأطرح السؤال في البدء على نفسي: أنت أيها المسرحي المُدّعي، ما موقفك أيها الماركسي ممّا يجري الآن من تطورات مأساوية على الصعيد الفلسطيني والعربي؟ بماذا تشغل نفسك وتشغل تفكيرك في خضم اشتعال المآسي؟ لماذا تلجأ الى تفاهات الوجودية والى ما يشغل مبدعي الرفاهية في العالم الغربي؟

وسؤال أطرحه على زملائي بعد أن طرحته على نفسي: ما الذي يشغلكم فكريًا قبل أن تنشغلوا فنيًا؟ أعرف وأعي وأقدّر السعي وراء لقمة الخبز لكم ولأولادكم ومن المفروض أن تعيشوا أيضا بكرامة، ولكن كرامة عن كرامة تختلف. وأعرف أيضًا أنّ الحوار الفكريّ ليس من سمات هذه الحقبة الفردانية التي تبني البوتقات حول المبدعين وأنانياتهم ومزاوداتهم.

في البدء أردت أن أعبر عن إخفاقي وعن هروبي من المسؤولية التاريخية وعن عجزي أيضًا عن إدارة حوار وعن المبادرة أيضًا، إيمانا مغلوطا مني بأنّ لا جدوى من طرح مبادرة محكوم عليها مسبقا بالفشل. والمبرهن تاريخيا أن ازدهار المشهد الثقافي والإبداعي مشروط بازدهار فكري وبنتاج فكري وبجوّ فكري وبحوار فكري يدعم ويطور الأدب والنقد الأدبي ويطور الفنون الأصيلة التي تتعامل مع العمليات التاريخية وتكشف حراك هذه العمليات وتتعامل مع حركتها ومع تطوراتها وانعكاساتها على الإنسان الفاعل فيها ومحركها أيضا.

وعلى ما يبدو فإنّ عصرنا هو عصر “البوست”؛ هذا البوست المستورد والذي طرحه لنا الفكر الغربيّ. والمعروف أنّ الفكر الغربي البرجوازيّ والاستعماريّ الحديث يرمي في ساحاتنا اصطلاحات ونظريات تشغلنا وتقوقعنا على مدار حقبة من الزمن، وهذا الغرب سرعان ما يتخلى عنها ناظرًا إلينا ساخرًا كيف نجهد أنفسنا بالتقليد منبهرين من أنفسنا ومن مقدرتنا على ممارسة البوست، وننظر الى رافضي البوست على أنهم متخلفون وتقليديون ليس بمقدورهم أن يواكبوا العصر وبُوسته.

حالة الانسان العربي وحالة المثقف العربي تشبه حالة المثقف الغربي وإحباطاته ما بعد الحرب العالمية الأولى وما بعد الحرب العالمية الثانية وما سببته من إحباط وهروب واكتئاب، عندها نشأت التوجهات الفنية والإبداعية التي كفرت بالقائم وتبناها أيضًا عدد ليس بقليل من المبدعين العرب (التعبيرية والانطباعية والسريالية والدادائية الخ…). أقول تبناها واستوردها لكي يطبقوها على واقعهم دون إجراء حوار فكري حقيقي. المبدعون الغربيون أداروا هذا الحوار الفكري وتأثروا ببعضهم البعض، أمثال أراغون وأبولينير والوار في مجال الشعر، اعترفوا بجنون وتمرد رامبو. أما ما يحصل في ساحتنا في هذه الحقبة المأساوية ليس فقدانًا للحوار فقط، بل الأسوأ من ذلك أننا ننفي بعضنا البعض ولا نعترف بالآخر، وننتظر أيضا ونحتفل “بفشل” الآخر، ولا نناقشه “فشله”. والسؤال الذي يطرح نفسه من نفسه ولا نطرحه: ما معنى الفشل؟ وحسب اعتقادي علينا أن نناقش الفشل قبل أن نناقش النجاح. ومناقشة الفشل تحتاج أيضا الى موقف فكري.

وأنا شخصيا أعلنها على الملأ: لست معنيًّا أن أمارس البوست-دراما ولا أتقن ممارستها فكريًا، ولست معنيًا بممارسة الكتابة الما بعد حداثية المقلدة للغرب، ولكنني على استعداد أن أعمل على حداثتي الأصيلة العاكسة لحركتي التاريخية والمنبثقة منها وهذا لا يمنع حواري مع الآخر الغربي ومع انجازاته.

وأخيرا: شكرًا للورقة الصفراء بحجم 10/5 سم.

(الناصرة)