“خشبة”، خيمة من نور في حيفا/ رنا عسلي
هؤلاء المغامرون الجدد في “خشبة” استطاعوا بناء خيمة من نور في حيفا، بالرغم من وجودهم تحت سلطة ظلامية، هذا هو تعريف الأندرجراوند الحيقيقي، فإنّ مهمة الأندرجراوند دائمًا وأبدًا هي الحفاظ على النور، على نبض الحياة والثقافة في المجتمع.
| رنا عسلي |
خشبة في حيفا
حمل القائمون على “مسرح خشبة” الجديد في حيفا راية المسرح المستقل منذ البداية، ثم اختاروا لإيوائه مبنى قديم في منطقة وادي الصليب التاريخية، التي هجّرت منها أغلبية السكان الفلسطينيين قسرًا عام النكبة، والتي تعاني حتى الآن محاولات التهويد المستمرة… وتوسعت حلقة الأصدقاء في “خشبة” بسرعة وتبلورت مجموعة تعمل على المشروع وتتطوع وتسهر من أجل انجاحه.
ما الذي جعل هؤلاء يلتفون حول هذا المشروع؟ ما الذي يغويهم وماذا يتوقعون؟ ولماذا كل هذا الاهتمام في مسرح مستقل صغير يحمل اسم “خشبة”؟
بنظري، يرتاد الناس المسارح ليعيشوا تجربة، يتركون معتقداتهم من أجلها جانبًا، كي يستسلموا لعالم من الخيال، والمسرح بدوره يبعث إليهم من طاقاته، هذه الطاقة التي تنبعث من أداء الممثلين على خشبته، والتي تكاد تكون حقيقية لحد أنك تشعر بأنه يمكنك ملامستها. في هذه اللحظات، تكون حواسك كلها مسخّرة لالتقاط هذه الطاقة، وكل ما تحمله من مشاعر، لتشبعك بها، ويفرح قلبك بوجودها وتفتخر بنفسك لكونك جزءًا منها. أحب أنّ أؤمن بأنّ من أجل هذه اللحظات وُلد مسرح “خشبة”، من أجل بناء بيئة جديدة حيث تولد الأفكار الحرّة بأجواء جمعية حميمية.
البيلي بيلي بيل كمثال
تعرفت على طاقم “خشبة” صدفة عندما كنت أنا ورفيق حياتي في مدينة عكا، وقررنا مشاهدة مسرحية بعكس خططنا لذلك اليوم، ولم أكن قد سمعت عنها أو عن اسم مخرجها من قبل، ولم أعرف معظم الممثلين ولم تكن لدي أي توقعات منها. عدا عن فرحتي بأنّ أشاهد مسرحية في عكّا وداخل أسوارها وبين عقودها التاريخيّة والتي تنبع من حبّي لهذه المدينة.
عندها، كلّ ما جاء بعد جلوسي على كرسي بلاستيكي داخل قبو عكّي تملؤه حجارة عملاقة تاريخية، كان مدهشًا ولم أتوقعه أبدًا.
فمنذ لحظة جلوسي وحتى خروجي من هناك، أكاد أقسم أن عيني لم ترف أبدًا، خوفًا من أن أخسر حركة يد معينة أو جملة أو حتى نَفَس.
كانت هذه المسرحية، مسرحية “البيلي بيلي بيل”، من إخراج بشار مرقص، مسرحية قادمة من مسرح العبث الذي تتحول فيه الكائنات والكلمات إلى أرقام ومدلولات ورموز، وما كان يميزها هو التجديد الكبير في طريقة الطرح والأداء والتصميم!
مسرح في ظل احتلال
يعي “مسرح خشبة” أهمية هذه الحميمية والطاقة الجمعية في علاقة المسرح والمشاهد، مما سيجعل دوره في هذه المرحلة طلائعيًا، فأمام الهجمات السلطوية الشرسة على الفن الحرّ، تتضاعف أهمية وجود هذا المنبر والنهوض به عبر اختيار رسائل سياسية واجتماعية وإنسانية جريئة، بدون التنازل عن الجماليات والسحر والصبغة الإنسانية العامة التي تميز المسرح. فمن الخيال والجنون والجرأة تأتي الرسالة أقوى وأجمل وأعمق.
لن أدخل في أهمية وجود المسرح في مجتمع تحت الاحتلال، والتفرقة العنصرية وسياسات فرق تسد، وفقدان الهوية وعقدة النقص التي تؤدي إلى محبة وبل الافتتان بالمستعبد والمحتَل، لأن هذا مفهوم ضمنًا، ولكن تكمن اليوم هذه الأهمية في طريقة الطرح المغايرة، في فن بعيد عن الشعارات الجميلة وعن الوعظية الأخلاقية، فن يتميز بالتقدم والخلق الإبداعي الصافي، فكيف يمكنك عرض مسرحية تعالج موضوع ما، وتوفر فنًا جماليًا خالصًا، وتخاطب قلوب مختلفة، وتزودهم بإحساسات وأفكار جديدة، بنفس الوقت؟
هنا يكمن الإبداع الذي يخلق التغيير، وأعضاء “خشبة” في تجاربهم السابقة أثبتوا أنهم يستطيعون القيام بذلك!
ثقافة في حيفا؛ لغة جديدة من بلاد العجائب
في القرن الواحد والعشرين، تقاس صحّة ونهوض الثقافة في مدينة ما، ليس بمسرحها المحلي الوحيد، وإنما بفقاعات من المسارح والمسرحيات المستقلة التي توفر ثقافة حقيقية ممولة من الشارع نفسه، هؤلاء المغامرون الجدد في “خشبة” استطاعوا بناء خيمة من نور في حيفا، بالرغم من وجودهم تحت سلطة ظلامية، هذا هو تعريف الأندرجراوند الحيقيقي، فإنّ مهمة الأندرجراوند دائمًا وأبدًا هي الحفاظ على النور، على نبض الحياة والثقافة في المجتمع.
ما نحتاجه الآن بالحقيقة في المسرح هو لغة جديدة، لغة القلب، حيث لا توجد أهمية إلى اللغة نفسها بل إلى الشعور المنبعث من تلك اللغة، “لغة الشعر التي تخلقها النحلة الراقصة وهي ترشدنا إلى العسل”! وحتى نستطيع بناء هذه اللغة علينا تعلم النظر عبر المرآة، لنصل إلى إدراك ووعي جمعي جديد من خلاله يمكننا بناء هذه اللغة الراقصة!
مسرح صغير دافئ لن يخاف من هذا التغيير، ولذلك قاموا طاقم “خشبة” بتلك الخطوة الأولى، ودخلوا عبر المرآة إلى بلاد العجائب! أو قامت فروع شجرتهم بكسر المربع لترى ماذا يوجد في الأبعاد الأخرى ولترجع وتُخبر باقي الفروع.
ونحن الآن في انتظار أنّ نشاهد ما جاءوا به من هناك.