1948: حديث في الجزء والكلّ/ رائف زريق
القبول بأي تفصيلٍ يمهّد لوجود الآخر: المستوطنة للطريق المؤدية لها؛ الطريق يبرّر السياج؛ السياج يبرّر الحضور الدائم لدوريات الجيش. ينظر الفلسطيني إلى هذه السلسلة المتراكمة من الانتهاكات فإذا بها سلسلة من الادّعاءات يقود أحدها إلى الآخر بقبضة منطقية محكمة، ويحاول فكاكها دون جدوى
>
|رائف زريق|
نحن الفلسطينيون في أزمة. لا جديد في هذا القول. قد يكون الجديد في محاولة تعريف هذه الأزمة. لا تكمن الأزمة في عجزنا عن تحقيق المطالب الرئيسية الثلاثة: العودة، الاستقلال، المساواة، وهي مطالب تختلف باختلاف قطاعات الشعب الفلسطيني. الأزمة تكمن في انعدام الثقة والأمل بأنّ هذه المطالب قابلة للتحقيق؛ فيقف السياسي أمام أبناء شعبه يخطب بهم وهو على يقين بأنّه غير قادر على تحقيق مطالبهم، ليصبح القائد الفلسطيني كالكاهن الذي يقف أمام الهيكل يكرز في الرّعية بعد أن فقد إيمانه بالرّب، لكنه مواظب على تأدية وظيفته. لقد دفعه إيمانه إلى الوظيفة، ذهب الإيمان وبقيت الوظيفة. موازين القوى مختلّة إلى أقصى الحدود، والفلسطيني يقاوم “بلا حائط” . في عينَيْ اللاّجئ تبدو فلسطين بعيدة، والفلسطينيون في إسرائيل قد حصلوا على نصف مواطنة في دولة، فيما حصل الفلسطينيون في الضفّة على مواطنة في نصف دولة، ويقبع فلسطينيو غزّة، مواطنين كاملين، في أكبر سجنٍ عرفه التاريخ المعاصر.
في ظلّ هذا التشتت بين الأجزاء المختلفة للشعب الفلسطيني، تجري مفاوضاتٌ لإغراء الفلسطينيين بقبول ما تبقّى من فلسطين. رفضُ الضغط الدّولي صعبٌ، وقبول ما هو معروضٌ أصعب بكثير. والحال كهذه، يبادر الحريصون على مستقبل هذا الشعب بتذكير القيادة بالثوابت الفلسطينية وبالخطوط الحمراء وبالحقوق غير القابلة للتصرّف. جُلّ ما يشيرون إليه هو وحدة الشعب الفلسطيني غير القابلة للتجزئة.
أحيانًا من غير الواضح ما إذا كانت هذه الوحدة تعبيرًا عن حقيقة تاريخية، أم عن موقف أخلاقي، وكأن لسان حال هؤلاء الحريصين يقول: “الشعب الفلسطيني يجب أن يكون موحّدًا”. بدل ذلك يختصرون الكلام فيقولون: “الشعب الفلسطيني واحدٌ”.
لا طيف لحلّ قريب في الأفق. والحال كهذه، من المفيد الانشغال بصياغة الأسئلة بدل صياغة الحلول. وإذا كانت الحلول المطروحة كثيرة ومتعدّدة، يبقى الأهم هو طريقة طرح الأسئلة وسياقها. السياق واحدٌ وله عنوان واحدٌ: 1948.
في غابة الاقتراحات المتشابكة، لا بدّ من تحديد سياق واحد مرجعيّ يمكن من خلاله تقييم الاقتراحات المختلفة والعروض المطروحة. قد يتوفّر مجالٌ للمرونة والبراغماتية، وهما ضروريتان حين يتعلّق الأمر بالحلول، لكن لا مجال للمساومة على طريقة طرح السؤال التاريخي للشعب الفلسطيني.
1948 هو العامل الذي خسر فيه الشعب الفلسطيني وحدته كشعب، وخسر وحدته كوطن، أي أنّه خسر كلاّنيته. خسارة الكلاّنية تعني- ضمن ما تعني- خسارة السياق، والسياق هو شرط المعنى، وبدون السّياق يضيع المعنى في غابة التفاصيل المضنية التافهة والمملّة.
إذا لم يسترجع الفلسطينيون في الداخل مرجعيّة عام 1948، باعتبارها اللحظة الفارقة في تاريخهم، لحظة خسارة السّياق وخسارة المدينة، لحظة تحولّهم من أغلبية إلى أقليّة، فإنّ نضالهم من أجل المساواة سيذهب أدراج الرّياح، ليس لصعوبة تحقيقه وإنما لصعوبة صياغته أصلاً. من الصعب على مفهوم المساواة القانوني الليبرالي الكلاسيكي استيعاب مطلب الفلسطينيين في الداخل، وسيضيع المطلب في غياهب الإحصائيات والمقارنات، وستجد إسرائيل ألف مخرج لتقنع نفسها وغيرها بأنّ الاختلاف بين العرب واليهود في المستوى الاقتصادي، وفي الحصص من الأرض والثروة لا يعود إلى التمييز بل إلى أسباب أخرى. وستجد إسرائيل ألف سبب لتبرّر تفضيلها بعض مواطنيها اليهود باعتبار أنّ لديهم احتياجات خاصّة: فهم تارة قادمون جدد، وتارة خادمون في الجيش، وتارة أخرى ناجون من المحرقة. وفي سياق آخر هم سكّان كيبوتسات، وهم ينتمون إلى عائلات خسرت أفرادًا في الدفاع عن أمن الدولة، وهم عائلة يخدم أحد أفرادها في سلك الشرطة، وهم ينتمون إلى الطائفة الدينية المتزمتة ( الحريديم) ولذا اقتضى دعمهم مادّيًا.
في جميع ما سبق من الحالات، تخبرنا الدولة الإسرائيلية بأنّها لا تميّز بين عربي ويهودي، إنّما الأمر لا يتعدّى تلبية الحاجات المختلفة للمجموعات المختلفة. يقضي الفلسطيني في الداخل نصف حياته محاولاً إقناع نظام، لا رغبة لديه بالاقتناع، بأنّ الحديث يدور عن سياسة تمييز. العقلية المختلفة، وأماكن السكن المختلفة، ومبنى العائلة، والحاجات المختلفة، واللغة المختلفة كلّها ادّعاءات جاهزة مدعومة بالوثائق. يقف الفلسطيني أمام أبواب المحكمة محاولاً للمرة الألف أن يثبت بحماسٍ سيزيفي أنّ الدولة تميّز ضدّه، لكنه في كل مرة يعود أدراجه مستغربًا كيف استطاع منطق العدالة ألا يرى ما يمكن رؤيته بالعين المجرّدة. تنساب العدالة من بين أصابع الفلسطيني دون أن يستطيع القبض عليها، كما يهرب لغز الحياة من بين أصابع عالم الأحياء الذي يقضي حياته وهو يدرس الخليّة.
بدون السّياق التاريخي، بدون أن نحدّق في عين الخسارة، يصبح كلام المساواة مزيجًا من الركض السيزيفي والاستجداء الذي هو أشبه بلغة المهاجرين أو اللاجئين المطالِبين بتحسين أحوالهم. لا طريق سوى استحضار الخسارة والسياق التاريخي من أجل أن تظهر عدالة قضية فلسطينيي الداخل. عندها تبدو لغة المساواة القائمة على الإحصائيات متواضعة في أحسن الأحوال، وبكماء في أسوأها.
حقّ الفلسطينيين في الدّاخل هو استعادة مشروعهم المديني الجمعي، والعيش المحترم والكريم، وبناء المدينة والجامعة والمسرح، والمشاركة في الحياة العامة، الاقتصادية والسياسية. إنّ حديث المساواة خارج حديث الخسارة، ودون اعتبار للسياق هو متاهة لا تفضي إلى شيء سوى تعزيز الدّونيّة.
كذا الحال مع الضفة وغزّة. فبدون إعادة الاعتبار لعام 1948، يبدو الخلاف وكأنّه على الأراضي المحتلة عام 1967، ويتراءى الحلّ بتقسيم هذه الأراضي، على نحو أو آخر، بين إسرائيل والفلسطينيين باعتباره حلاّ وسطًا، وينسى العالم أنّ الفلسطيني قد تنازل عن 78% من وطنه عام 1948، وكأنّ هذه الخسارة لا وزن لها على طاولة المفاوضات. سياق 1948 هو الذي يحوّل حلّ الدولتين على كامل أراضي 1967 حلاً وسطًا، وبدون هذا المنظار يصبح الإصرار الفلسطيني على جميع هذه الأراضي نوعًا من التطرّف والعناد، ويدخل متاهاتٍ لا حصر لها في تفاصيل عن الطرق الالتفافية وموقعها، والمعابر، والأراضي الزراعية ، وسكك الحديد، والوقائع على الأرض، والضرورات الأمنية.
إنّ القبول بأي تفصيلٍ يمهّد لوجود الآخر: فقبول المستوطنة يجرّ منطقًا معيّنًا يفترض قبول الطريق المؤدية إلى المستوطنة، ووجود الطريق يبرّر السياج الذي يحمي المستوطنة من الأطفال الفلسطينيين “المشاغبين” الذين يرمون الحجارة على سيارات المستوطنين. وجود السياج يبرّر الحضور الدائم لدوريات الجيش على طول السياج. هكذا تصبح كل حلقة من انتهاك الحقوق بمثابة خلق لواقع جديد يشكلّ مبرّرًا لانتهاك جديد ضمن منطق أدواتي يجري فيه تبرير الانتهاكات المتأخرة بالانتهاكات السابقة، وعلاقة الانتهاك بسابقه هو كعلاقة الهدف بالوسيلة. ينظر الفلسطيني إلى هذه السلسلة المتراكمة من الانتهاكات فإذا بها سلسلة من الادّعاءات يقود أحدها إلى الآخر بقبضة منطقية محكمة، ويحاول فكاكها دون جدوى.
في مثل هذه الحال، لا بدّ من العودة إلى السّياق، إلى رؤية الكل من وراء غابة التفاصيل. نجحت إسرائيل في جرّ العالم العربي والفلسطيني إلى لعبة التفاصيل هذه، فضاعت اللغة وفقدت بريقها. إنّ معول الاعتراض الفلسطيني يستطيع أن يضرب بكامل قوّته إذا تعامل مع الانتهاك الأول، فإذا فاتته هذه اللحظة الحرجة ضاعت فرصته في خلخلخة حلقات الانتهاك. اللاجئون بدون منطق 1948 يبدون كالمهاجرين على أعتاب قارة جديدة، يبحثون عن حظ بديل لحظهم المتعثّر في أوطانهم الأصلية. بدون 48 لا يخسر الفلسطينيون عودتهم فحسب، وإنما لا يجري احتسابها كخسارة أصلاً، وبالتالي تبدأ المفاوضات بدونها. تقوم إسرائيل بلعبة غريبة عجيبة: فهي تريد من الفلسطينيين التنازل عن حق العودة، دون أن تعترف بهذا الحق أصلاً. يمكن أن تعترف به بعد أن يتنازل الفلسطينيون عنه، أي حين يتجرّد من معناه، تمامًا كما اعترفت بالمنظمة بعد أن اعترفت المنظمة بإسرائيل وبحقّها في الوجود.
قد يقبل الفلسطينيون بحلّ الدولة، وقد يقبلون بحل الدولتين. والواقع هو أنّ حل الدولة الواحدة لا يختلف كثيرًا عن حل الدولتين. في حلّ الدولة الواحدة من الضروري الحديث عن كيانين قوميين داخل هذه الدولة الواحدة، وعند الحديث عن حلّ الدولتين فلا بديل عن وجود ترتيبات وتنسيقات بين الدولتين تجعل منهما كيانين ضمن وحدة معيّنة. ايّا كان شكل الحل، لا بدّ للفلسطينيين أن ينظروا إليه من منظار 48 . لقد دفع الفلسطينيون ثمن السلام عدًّا ونقدًا وبالدفعة الواحدة منذ عام 1948، حين خسروا كلاّنيتهم كشعب وكوطن.1948 هو اسم المجهر الذي يجعلنا نرى ما لا يمكن رؤيته: أن نرى الشرخ العميق والهوّة بين أجزاء الشعب، تلك الهوّة التي تفرّقنا وتجمعنا في آن واحد.
11 أبريل 2014
بورك قلمك وعقلك أيها المعلم
10 أبريل 2014
مقال رائع يصيب لبّ الحقيقة المؤلمة. شكراً!