عن الديكتاتور “الفحل” وتابعه “الوحش”/ عمر قدور
. |عمر قدور| «عاش الرئيس المفدّى. بالرّوح بالدّمّ نفديك […]
عن الديكتاتور “الفحل” وتابعه “الوحش”/ عمر قدور
.
|عمر قدور|
«عاش الرئيس المفدّى. بالرّوح بالدّمّ نفديك يا رئيس. وضربة بالعصا على الجثّة. ولك يا كلب بتشتغل ضدّ الرئيس، وضربة بالعصا. لك يا منيك، رئيسنا أحسن رئيس، ضربة بالعصا. حيدو يا منايك حيدو! ضربة بالعصا. الرئيس قبل الله نعبده. ويختلّ الإيقاع. ضربات عديدة بالعصا أتساءل: هل انتهت ذخيرة الوحش الكلاميّة التي كان قد حفظها لكثرة تردادها في الراديو والتلفزيون وفي الشوارع أثناء المسيرات التي تنظمها الدولة؟ يبدو أنّ الأمر كذلك لأنّ الوحش بدأ يلجأ إلى ذخيرته الكلامية الشخصية- الذخيرة الكلامية التي لمّها من الشوارع.
يتوقف قليلاً عن الضرب، ثم ضربة قويّة على الرأس أسمع من خلالها رنين العظام. ولك يا كلب، إنتو فيكن عالرئيس؟ ضربة عصا. ولك الرئيس أقوى واحد بالدنيا. ضربة. ولك الرئيس بدّو ينيك أمهاتكم. ضربة. ولك الرئيس عندو أطول إير بالدنيا كلها. ضربة. ولك بدو ينيكم وينيك أختكم واحد واحد. ضربة بالعصا. يتوقف الوحش قليلاً وهو يلهث، بعدها وبحركات هستيرية يضع أحد طرفي العصا بين إليتي الجثة ويدفع بها إلى الأمام، تتحرك الجثة كلها إلى الأمام، يستمرّ الوحش بالضغط، الطرف الثاني للعصا بين يديه الاثنتين يركّزه في موضع قضيبه ويبدأ بدفع العصا بين إليتي الجثة رهزاً، ومع كل هزّة إلى الأمام، يصيح:
“بالروح بالدم.. نفديك يا رئيس.”
المقتطف السابق من رواية بعنوان “القوقعة/ يوميات متلصّص”، تأليف مصطفى خليفة، منشورات دار الآداب 2008، وهي تنتمي إلى ما اصطلح على تسميته بأدب السجون، أو بالأحرى أدب المعتقلات العربية، حيث أنّ الروائيّ بدوره معتقل سابق، لذا تميل الرواية إلى التسجيل وتعجّ بأنماط من التعذيب المعروفة، أو تلك التي تفنّن الجلادون في ابتكارها، إلى حدّ يصبح فيه التنكيل بجثّة أقرب إلى المزحة. “الوحش” في المقطع السابق ليس جلاداً بالمعنى المهنيّ، هو سجين لأسباب غير سياسية يساعد الجلادين أثناء الإعدامات التي تطال السياسيين، وكما تعرض الرواية يُصاب “الوحش” بنوبة وجْد تدفعه إلى المغالاة في أداء مهمته، والتنكيل بالجثة، باجتهاد قد يكون شخصياً بمفرداته، لكنّ المفردات نفسها تملك من الدلالات ما يجعلها أكثر تعميماً لجهة الأثر الذي تطبعه الديكتاتوريات من أي نوع كان، وفي أيّ مكان.
حيث تكون الديكتاتورية من المتوقع أن نعثر على وحوش على شاكلة الوحش السابق، فالديكتاتور لا يستقرّ على رأس الهرم بلا تابعين يتمثّلون رسالته، وهم على أتمّ الاستعداد لاقتراف أية فظاعة يستوجبها بقاؤه. طبعاً “الفظاعة” من وجهة نظرنا نحن، فشخص كالوحش يرى الفظاعة في وجود أناس يعادون معبوده، ولأنهم كفرة بهذا المعنى فهم يستحقّون أقصى درجات العقاب. والوحش لا يستوعب النسبوية في العبارة السابقة، لأنّه في حقل الإيمان المطلق، ولأنّ الإيمان المطلق يتنافى مع التعدد، أي أن مصير الرّأي الآخر هو الإبادة التي لا تتوقف عند حدود القتل. “الرئيس قبل الله نعبده” هكذا يتحدّد موقع الديكتاتور؛ يغادر إنسانيته ليصير فكرة عظمى تغذّي حاشيته، وربما جزءاً كبيراً من شعبه، بالبارانويا الجماعية. الحاكم المطلق هو المُلهِم ومصدر القوة، وإليه تُنسب الخوارق ما دام قريناً لله أو يعلو عليه، لذا يصبح الفداء واجباً مقدساً لا للدفاع عنه، هو القويّ بذاته، بل لإثبات الجدارة بملكوته. إنّ أعلى ما يتوصل إليه المؤمن بالديكتاتور هو أن يكون وحشاً، لا على سبيل المجاز وإنما بالممارسة الواقعية كلما اقتضى الأمر.
كما رأينا يعتقد الوحش أنّ رئيسه أقوى مَن في الدنيا، ولا غرابة أو طرافة في أن يعتقد أنه أيضاً صاحب أطول أير في الدنيا، فلكي يستقيم الديكتاتورُ كلّيَّّ القدرة، قادراً على استباحة أعدائه، ينبغي له أن يكون فحلاً يمتلك عضواً ومقدرة جنسية هائلين. وعلى أقل تقدير تكون الفحولة هي الفكرة العامّية المتمّمة للألقاب والمزايا التي يبرع في صياغتها المدّاحون الرسميّون، ويمتحون باطّراد من الإرث الدينيّ، كإرث يمتاز بعلاقات الخضوع، وإن ابتعد النظام الديكتاتوريّ عن الدين. لا عجب إذن أن تنشر صحيفة البرافدا الشيوعية، أيام ستالين، قصائد تحتوي على مدائح من نوع: “لماذا تشرق الشمس زاهية كلّ صباح؟ لأنّ الرفيق ستالين موجود”. لا عجب أيضاً في أنّ الإعلام الرسميّ لكوريا الشمالية يعتمد روايات عن ظواهر طبيعية غير معتادة حدثت وقت ولادة الرفيق كيم جونغ إيل، وحتى خوف الأخير من ركوب الطائرات لا يخدش مقدراته ومعجزاته اللامتناهية.
تتوالد مزايا الديكتاتور باطّراد مع زمن بقائه في السلطة، ويتبارى التابعون في اقتراح مؤهلات جديدة له، وفي ظلّ مزاد مماثل،لا يجرؤ أحد على تكذيب المبالغات والشطط. الديكتاتور نفسه قد يكون راضياً فقط في البداية عمّا يُشاع عنه، وعلى الأغلب يقتنع فيما بعد بصحّة ما يُنسب إليه، فيستوي على عرشه كإله يستمدّ السلطة من نفسه لا من “رعاياه”. هم خُلِقوا من أجل عبادته، أمّا المارقون فمصيرهم جهنم المعتقلات. هو إلى بقاء، وهُم إلى زوال، هكذا يراهم حتى وهو يعاني سكرات الموت؛ روي عن فرانكو أنّه سمع أصوات المتظاهرين خارج المشفى، وهو في مرض الموت، سأل الطبيب: ما الذي يريده هؤلاء؟ أجاب الطبيب: إنه الشعب أتى لوداعك. فسأل فرانكو: إلى أين سيذهب الشعب؟
يبدو لي أنّه ثمة علاقة ملتبسة بين الديكتاتورية والدّين، وقد سبق أن أشارت حنّه أرندت إلى أنّ الدين، كفكر شموليّ، يحتوي عناصر توتاليتارية قابلة للتفعيل متى أتيح لها أناس توتاليتاريون. تفسّر مقولة أرندت جزءاً من آليات الديكتاتورية، ومنها التوتاليتاريات الدينية، لكننا نرى الديكتاتورية تنزع باستمرار إلى تأليه الحاكم المطلق، أي أنّه ينفصل عن الفكر الشموليّ الذي يمثّله، فيستمدّ حينها الديكتاتور شرعيته من سلطته، لا من الفكرة التي حملته إلى السلطة. ينطبق هذا أيضاً على الديكتاتورية الدينية، فخليفة الله على الأرض يتضخّم لينافس الله مستغلاً الخصاء الكبير لأناس لا يمانعون في، وربما يفضّلون، رؤية الله مجسّداً. الوحش في مثالنا يعبد الرئيس قبل الله، ما دام يرى فيه تجسيداً مباشراً للمقدرة المطلقة، وسيكون من المنطقي لأمثال هذا الشخص أن يرسموا في أذهانهم صورة مجسّدة لله تقارب صورة الرئيس. فهل لنا أن نتخيّل قياساً إلى ذلك الصورةَ التي يقترحها الوحش لله؟
يقترف الوحش فعلاً عامياً في ظاهره، لكنه نموذجيّ في دلالاته النفسية، فالخصاء المعمّم لا يكتفي بالخوف من التمرّد، بل ينتقم لنفسه من مظاهر التمرّد، ما دام غير قادر على الانتقام ممّن تسبب بالخصاء. إن كان التمرد على الديكتاتور يخدش هيبة السلطة، فهو من ناحية أخرى يخلخل الاطمئنان النفسيّ للرعايا الذين اعتادوا على الخنوع، وفي الحالات المختلطة يمكننا أن نلمس الأثر المزدوج للتمرّد؛ فأولاً هناك تهليل خجول، أو مضمر، يبتغي الانتقام من الديكتاتور، وسرعان ما ينقلب التهليل، عند الفشل، ليصبّ نقمته على المتمردين.
قد لا يعي الوحشُ الرابط النفسيَّ الدفين بين العصا والقضيب، حتى وهو يقوم بالاستبدال بينهما. النيك، من وجهة نظره، فعل تراتبيّ يقوم به الأقوى، والأكثر فحولة، ضد الآخر المُستباح. على هذا ينبغي للقضيب أن يناهز العصا، ولا بأس في أن تقوم العصا بالفعل أصالة عن نفسها. الخازوق هو الرمز البدائيّ الفظ للديكتاتور، لذا لم يصل الوجد بالوحش إلى الانتعاظ واغتصاب الجثة، خصاؤه لا يسمح له بذلك، وهو مدرك على نحو ما أنّه يقوم بالاغتصاب وكالة عن الديكتاتور الفحل صاحب “أطول أير في الدنيا كلها”، إذن ليس من المصادفة أن يترافق الفعل بالهتاف للرئيس. هكذا تكتمل صورة الوحش، حين يتجاوز خصاءه، فيستعير مجازاً قضيبَ الديكتاتور، ويمتحن به فحولته المستعارة.
(عن “الأوان”)
20 أكتوبر 2011
شكرا يا ورد على هذا الإهتمام بالزاوية بشكلها السابق والحالي والغيرة على حالها..
وبودي أن ابشرك أن النصوص متوفرة وتنتظر النشر
أما هذه المادة فهي في عمق وجهة النظر الكويرية في فضح وتفتيت البنيان الذكوري\الأبوي\الغيري\الأبيض\الناكح(النييك) اليست هذه من جوانب الفكر الكويري؟؟؟
على كل حال يا ريت تساعدنا على فهم الكويرية كفلسفة وايديولوجيا
20 أكتوبر 2011
ما شغلني بعد القراءة أكثر من المقال نفسه هو سبب وجوده في هذه الزاوية! بكل وضوح لا يرتبط النص بالزاوية سوى باحتواءه على تعابير جنسية. لماذا يجب أن يحسب كل نص مباشر وصريح في تعابيره الجنسية على أنه كويري؟! أكاد أجزم أنه لو استبدلت كلمة “نيك” بكلمة “جماع”، وكلمة قضيب بـ”عضو ذكري” لكان النص في زاوية أخرى، وهذا انما يدل على عدم فهم الكويرية كفلسفة وأيديولوجيا.
أتفاجأ أيضًا انني ما زلت أعلق في هذه الزاوية بعد النكبة التي ألمت بها وشردت قراءها وكتابها.
(وأتمنى أن يعفيني المحرر من خطاب طويل عن صعوبة ايجاد النصوص؛ شكرًا أعرف ذلك وأقدر جهدك)