“الحُبّ كِدَه” / رأفت آمنة جمال
حينها فقط، أدركتُ أنّ وحده الحُبّ ما يدفعنا لإظهار عدم الحُبّ، للتّظاهر أحيانًا بأنّنا “مُعافون”، تمامًا، مثلما نواجهُ الموتَ بامتلائنا بالحياة إلى أنْ تصعَقَنا الحقيقةُ ذات اشتياقٍ لطالما أنكرنا أيضًا احتمالاته. ولقد صار من السّهل عليّ أن أعترفَ بما كان يصعب عليّ الاعتراف به…
|رأفت آمنة جمال|
“تُرى ما الّذي سيحدث؟”
شيء ما كان سيحدُث قبل قليل، شيء ما لن يحدث بعد قليل!
لم يكن هذا “القليل” غير تلك السّاعات المُثقلَة بانتظار ما سيأتي و ما سيحدث. الّذي سيأتي كان عامه الجديد. والّذي سيحدث لم يكن ما هو مُتَوقَّعٌ بالضّرورة من معايدات وكلمات لطيفة، بعضها تافه من أصدقاء ومنافقين!
كان شيئًا ما.. لم يعتده من قبل.
ترى ما الّذي يمكن أن يكون غريبًا في يوم كهذا؟ رسالة تشتمه مثلًا! نعم، رسالة سباب فجّة تأجّلت طويلًا للحظة كهذه. الفكرة كانت كافية لكي يلغي كافّة الاحتمالات الواردة حول ما سيحدث. فكرة لم يَعتَدْها، غريبة، فجّة بعض الشّيء: رسالة تشتمك يوم عيد ميلادك، غالبًا من أقرب الأشخاص، وإلّا فإنها لن تكون غريبة أو فجّة، بل على العكس، ستكون متوقَّعة جدا، خصوصًا من هُواة قَنص اللحظات الجميلة.. ولو حُبًا!
اللحظات الجميلة؟!
مخطئ مَن يظنّ أنّ يوم عيد ميلادك هو من تلك “اللحظات” –يقنع نفسه دومًا- إنّها اللحظات الأكثر بؤسًا، والأكثر حنينًا.. أليس الحنين هو أكثر اللحظات بؤسًا وفَقدًا؟
*
تلك الليلة أبكته أغنية لـ سميرة توفيق، في العادة لا يُبكيه صوت سميرة توفيق، بل يضحكه، خصوصًا حين يقلّده صديقه مُضيفًا إليه بعض العبارات المُضحكة، ولكنّه ذلك البُكاء غير المتوقَّع في اللحظات غير المتوقّعة. حينها أجهش في البكاء، وناحَ كفرخٍ صغير على كتف صديقه، قبل أن يَخرُجا لسهرةٍ تبشّر بالولادة، ولادة كلّ الأشياء التّافهة الّتي تمنّاها له أصدقاءه قبل ساعات!
“إنّها اللحظات الرّخيصة”!
يقول وهو يضحكُ، فيما يُواصلُ صديقه فتح عينيْهِ على وسعهما وهو ينفخ في وجهه دخان السّيجارة ويردّد:
- “وهَمَس لي قال لي الحقّ عليه.. نسيت ساعتها بعدنا ليه”.
- مش قلتلك؟ رخيصة هاهاها
- أم كلثوم؟ حبيبتك؟ ما على أساس هاد مقطعك المفضّل!
- موسيقيًّا!
- موسيقيّا؟! كيف لو انك مش ساطل سماي بكلمات الأغنية، وبوجهة نظرك السنباطيّة حول نقمتك على ألحان عبد الوهاب لإم كلثوم لأنه…
- دخلك.. إنتو كيف بتقدروا تسامحوا بالحُبّ؟ كيف؟ الحُب هو الشي الوحيد اللي بتقدرش تسامح فيه.. هون يا حُبّ يا لأ.. هون فش حلول وسط، حتى لو كنت حضرتك مثلًا “وسطي”! دخلك إنت وسطي حتى بالحُبّ؟
- وإنت كيف فيك تكون عكس حالك بسهولة هيك؟ موسيقيًّا قلتلي؟
- بفوّتونا على البار إذا كنّا شابّين مش شب وصبيّة؟
- إنت ليه متطرّف بكلشي.. حتى بتغيير موضوع النّقاش لمّا تنهزم!
- خدني بحنانك خدني.
- شايف؟ شايف؟ لما تصير تغني أكثر الأغنيات اللي بتكرهها، هاد شو بتسمّيه؟
- الحُبّ.
*
اختلفنا على القهوة، حين لفظها بالعبريّة: “كافيه” لأصحّح له وأنا أنظر إلى الأرض:
- قهوة!
- لأ كافيه!
ليشرب السّكون بعدها قهوته على مهلٍ. هكذا كنّا نختلف دومًا، مستسلمَيْن لسطوة صمتٍ، لا نعلم هل هو مراجعة ضميريّة لاختلافاتنا الدّائمة (التّافهة غالبًا) أم هو عجز كلٍّ منّا عن تغيير الآخر!
ثمّ لماذا نتغيّر؟ ومن منّا على صواب؟ لكنّ موضوع “القهوة” كان مثيرًا، ذلك لأنّ كليْنا لا يحبّ القهوةَ الّتي اختلفنا على لفظها. “حتّى طوشاتنا هي هي، بتتغيّرش” – يقول ويضحك بعد ثوانٍ وهو يقرأ “ستاتوسًا” قمت بكتابته في الفايسبوك وأنا مستلقٍ في السّرير إلى جانبه:
“رائحة القهوة
في سوق يافا القديم
تُغريني
لكي أقول: أحبّك!
ولكنّي أتراجعُ
إذا أتذكَّرُ أنّي
لا أحبّ القهوة!”
- “يعني بطّلت تحبّني؟! طب إسمع…”
كان يعلم أكثر من غيره أنّ أم كلثوم هي ما يصلُحُ لتهدئتي حين أكون غاضبًا وسيّئ المزاج، ولكنّه لم يكن يدري أنّ “إنت عمري” أكثر الأغنيات الّتي لا أحبّها، ولأنه كغيره ممّن لا يعرفون أم كلثوم كما يجب أن تُعرَف، كان يحبّ الأغنية، أو أنّه لم يكن يعرف غيرها. ضحكتُ حين قام بتشغيلها بحركة ماكرة يسعى بها إلى ترويض غضبي، لكنّني سُرعان ما استطردتُ:
- بس أنا بطيقش هاي الأغنية، عبد الوهاب فيها كان خبيث، فكّر يسجّل انتصار على الستّ بالموسيقى لأنها كانت أول تعاون بيناتهم، لدرجة إنها الستّ خربشت بالحفلة وهي تغنّي بس مع هيك تفوّقت.. بعدين بتعرفوش غير هالأغنية؟
- ليه.. شو بتقترح أسمع؟
- “أنا وانت ظلمنا الحُبّ بإيدينا”!
انفجرَ ضاحِكًا، طوَّقني من الخلف وهو يقطر كلماته في أذني بأنفاس حارة: “ولك ب ح ب ك”!
*
كان يعبّر عن حبّه بلغة تطغى عليها التّعابير العبريّة فأشعر أنّ الحُبّ بدأ بالتمزّق بيننا.
لا تأخذ الكلمات معانيها في لغاتٍ مختلفة -أقول بعصبيّة جادّة- خصوصًا حين تكون اللّغة رصاصًا يهشّم قلب العاطفة. يصمتُ صمتًا نفهمه كلانا، صمت الاعتراض على فلسفتي “السّطحيّة” الّتي ستفرّغ علاقتنا من معانيها أيضًا (كما يدّعي هو وأوافق أنا) فيما أواصلُ محاضرتي حول هذا الاختلاف بالذّات مُضيفًا: كنت أبحث دومًا عن أسباب تقرّبني من القهوة لأصير من شاربيها ومصوّيرها صباحًا والكتابة عن متعة العلاقة معها كما يفعل كثيرون، لكنّني أكره القهوةَ.. نعم أكرهها.
الآن، حين افترقنا، أحاول أن أحبّها وأن أدعوه لشربها معًا في مقهىٍ مع احتمال الاختلاف مجدّدًا حول المكان، هل نرتاد مقهى عربيًّا في إحدى زوايا حيفا، أم مقهى إسرائيليّا يقدّم قهوتنا على أنغام أغانٍ هي أصلًا لنا، حرّفوها فصارت لهم!
لن نشرب القهوة.. تراجعت، ولن أحاول أن أحبّها !
*
حينها فقط، أدركتُ أنّ وحده الحُبّ ما يدفعنا لإظهار عدم الحُبّ، للتّظاهر أحيانًا بأنّنا “مُعافون”، تمامًا، مثلما نواجهُ الموتَ بامتلائنا بالحياة إلى أنْ تصعَقَنا الحقيقةُ ذات اشتياقٍ لطالما أنكرنا أيضًا احتمالاته. ولقد صار من السّهل عليّ أن أعترفَ بما كان يصعب عليّ الاعتراف به، ولأنّ شعورًا بالذّنب اننتابني تجاه أم كلثوم، وتجاه قلبي، وجدتُني أصرّ على الاستماع للأغنية، منحازًا، بالضّرورة، إلى ذلك المقطع بالذّات، مقتنعًا بأنّ “الحُبّ كده”!
*
- حبيب قلبي يا قلبي عليه
- بحبّه وهو ظالمني
- ويعجبني خُضوعي إليه.. و…
- وأسامحه وهو ظااااالمني!
تملأ أصواتهما شارع “يافا” في حيفا، وهما يتبادلان غناء المقطع على شكل حوار بينهما. يضحكان عاليًا بعد أن مَدّ “ظاااالمني” فَكَسَرَ وحدة الغناء المشترك على “طبقة واحدة” بينهما.
ثم يلفُّهُ صديقُه بذراعِهِ ويسأله:
- شو قصتك مع هاد المقطع بالذّات؟
- إنت اللي شو قصّتك؟ لكلشي عندك لازم في قصّة؟
- بس إنت كنت تبكي وجرّصتنا.. صاحب البار انتبه عليك!
- ما حدا طلب منه يحُطّلي الـ غٌنّاي هاي.
يتوقّف صديقُه عن السّير، يقبضُ على كتفه ويقول منفعلًا:
- لا إنت أكبر من مجرّد “قصّة”.. إنت فيلم.. يا زلمي مش إنت طلبت منه “الحُبّ كده” وقلت له…
يقاطعه بعصبيّة وهو يُسرِعُ في خطواته.. وكلماته:
- بعرف شو قلت له
بعرف شو قلت له
بعرف شو قلت له!
كان مقتنعًا أنّ مقهًى أو بارًا لا يبثّ أغاني أم كلثوم هو مكان لا يليق بمزاجه. هكذا قال لصاحب البار الّذي استرسل يشرحُ نظام ذلك المكان الّذي لا يبثّ سوى الأغنيات البديلة أو الغربيّة، قبل أنْ يُرضيه بأغنية لم يكن يعرف أنّها ستعرّفُهُ على فئة جديدة من الزبائن الّذين يشاهدهم فقط في الأفلام والمسلسلات يجهشون في البكاء خلف طاولة في مقهى أو بار!
*
قال: أحلمُ برَقْصٍ سريعٍ، سريع جدّا.. على أنغام موسيقى لا تشبهنا بالضّرورة!
أحلم بعتمة، نعم، بعتمةٍ وضوء خفيف لا يبرز كلّ ملامحي، وأتخيّل ذلك المكان، نعم أتخيّله، حتى أنّني أرى أمامي الحائط، والنادل، وفتاة شقراء.. أنا لم أكن في ذلك المكان، ولا أعرف هؤلاء.. لا أدري أصلًا إن كان المكان موجودًا! أنا لستُ ثَمِلًا، لم أشرب كثيرًا، أنا لا أشرب كثيرًا، أنا.. أنا أحلُم فقط.. هذا كلّ ما في الأمر.. أنّني أحلم برقص سريع.. سريع جدًّا.. هناك حيث لا أحد يعرفنا، نرقُصُ ونرقُصُ، فيسقط أحدنا -لعلّي أنا- ويجثو على ركبتَيْهِ باكيًا بشدّة الرّقص من شدّة الرّقص.. باكيًا على أنغام تلك الموسيقى ذاتها.. ثمّ ينتشلُ أحدنا الآخر وينتهي الرّقصُ بحضن متواصل.. بنحيبٍ متقطّع..
يومًا ما سيسقُط كلّ شيء.. سيسقط كلّ شيء..
- كلّ شيء؟
- حتّى الحُبّ… !