مَن يملك أرواحَنا؟! الفاشيّة الإسلاميّة والصّمت المخزي / رأفت آمنة جمال
في الفترة الأخيرة، استوحشت الفاشيّة الإسلاميّة في الدّاخل الفلسطينيّ، وارتفعت نبرة التّحريم للفنّ والأفكار، حتى باتت خطابًا سائدًا مُعتمَدًا بجهلٍ مضلِّلٍ، وممارسةً تشكّل خطرًا على شريحة كبيرة من أبناء الشّعب الفلسطينيّ، تتجاوز مرحلة “الوصم”، حيث يُوصَم الإنسان بالكُفر، إلى مرحلة “العنف”، الّتي لا تفرّق بين اللّكمة والرّصاصة.
|رأفت آمنة جمال|
بعد أن مُنِعَ المفكّر المصريّ الرّاحل د. نصر حامد أبو زيد من دخول الكويت قبل سنوات، بعد أن تلقّى دعوة من إحدى الجامعات هناك، عادَ إلى مصر متسائلًا: تُرى.. مَن يملك أوطاننا؟!
أبو زيد الّذي قال لموظفة المطار حينها: “أبلغي دولتك أنّ قرار المنع هذا تحت قدميّ”، لم يكن يتوقّع –ربّما- أنّ لجان “الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر” هي مَن يحكم بلادنا، وتتجذّر في مفاصل الأمّة العربيّة كالصّهيونيّة تمامًا. تلك الحادثة لم تكن غريبة على المرحوم أبو زيد، الّذي دعت الجماعات الإسلاميّة إلى التفريق بينه وبين زوجته، الدكتورة ابتهال يونس، ولم ترحَمْهُ بعد وفاته، حيث أفتى عدد من مشايخ البؤس، ومهرِّجي الفضائيّات الإسلاميّة بتحريم قراءة الفاتحة على روحِهِ أو المشاركة بعزائه.
يومَها تساءلتُ، وأنا أتابع ما يجري مع أحد أكثر الرّجال المحترمين الّذين أحبّ: هل هذا هو الإسلام؟! وما الإسلام أصلًا؟! ولم تأتِ الإجابة واضحة، فليس ثمّة إسلام واحد وواضح، لا سيّما بتغييب النصّ القُرآنيّ –والّذي يحمل عدّة تأويلاتٍ أصلا- وغَلَبة النصّ الفِقهيّ التّحريميّ.
قبل الخوض في الشّأن الفلسطينيّ، لا بدّ من استحضار موقفيْن يتعلّقان بالحَجْرِ على الإبداع والفكر الحُرّ، الأول، للباحث الإسلاميّ د. سيّد القمني الّذي شكّلت المنظومة الإسلاميّة، متمثّلة بالجماعات هناك، ضغطًا وتحريضًا عليه بعد أن وصمتْه بالكُفْرِ ودعتْه إلى التّوبة، فامتثَلَ واعتزل الكتابةَ، قبل أن يتراجع في السّنوات الأخيرة. أمّا الموقف الثّاني، فهو للباحث المرحوم د. فرج فودة، والذي لم يمتثل للمنظومة ويستسلم لها، فقُتِلَ برصاص الإرهابِ في أحد شوارع القاهرة!
لم يُخطئ السّادات حين قال إنّه “مافيش أخوان مسلمين، وجماعات إسلاميّة، كلّهم واحد”، ذلك صحيح، فالجماعات الإسلاميّة واحدة، قد تختلفُ لأسباب سياسيّة تتعلّق بالمصالح الّتي من شأنها أن تقسم وتفرّق أصحاب المبدأ الواحد فيصيرون فرقًا سياسيّة مختلفة، تتنازع على السّلطة بأنواعها، إلا أنّها، في الواقع، ترتكز على نقطة انطلاق واحدة في ما تعتقد: ضرورة فرض الخطاب الإسلاميّ الخاصّ بكلّ واحدة منها، وفرضه وتغلغله في الحيّز العام.
المسألة ليست مصريّة فقط، وليست الأسماء المذكورة إلا مثالًا على عصر الرّدة عن العقل، غيض من فيضٍ عربيّ وإسلاميّ جارِف، يصلُ بنا إلى ما يجري في السّنوات الأخيرة داخل الأرض المحتلّة من حملاتٍ “إسلاميّة” مشابهة لتلك الّتي في مصر والوطن العربيّ، لضرب الحركة الإبداعيّة والفنيّة، وتفريغ الشّعوب من الحِسّ القوميّ والوطنيّ، حَملات لا تزيد المجتمع الفلسطينيّ إلا تفكّكًا وضياعًا، فالفاشيّة الإسرائيليّة الّتي ينشغلُ بها البعضُ مؤخّرًا، انتصارًا للفنّ والإبداع الفلسطينيّ، بعد كلّ المحاولات لكمّ أفواه الفنّانين ومنع بعض الأعمال المسرحيّة والسّينمائيّة، ليست حالة قد طرأت فجأة على المشهد الفلسطينيّ، بل هي حالة ملازمة منذ اللحظة الأولى للاحتلال، إذ لم تبدأ الفاشيّة الإسرائيليّة الان لنكتشفها فجأة فنُصدَم بواقعٍ يُهدّد إبداعنا وثقافتنا الفلسطينيّة، حيث أنّ تاريخ هذه الفاشيّة –في تصدّيها للفنّ ومحاربته- ممتدٌّ مذ كان الاحتلال يُحاربُ قصيدة راشد حسين ولوحة ناجي العلي وقصّة غسان كنفاني، وصولًا إلى أغنية أبو عرب ومسرح بشّار مرقص مؤخّرًا.
نحن، إذن، أمام فاشيّة اعتدناها منذ سنوات طويلة على كلّ الأصعدة، وليس على الصّعيد الفنيّ والثّقافيّ فقط، حين تُرجِمَت باعتقال فنّانين وأدباء فلسطينيّين في السّابق، وعلى اغتيال بعضهم حتى صاروا شهداء للكلمة الحُرّة والقلم الصّلب..
فاشيّة مُحْتَلٍّ لا تقبل التّجزئة والتّعامل معها كما لو أنّها استثناء في دولة تمنحنا الحريّة الكاملة، وتحرمنا منها فنيًّا.
ولمّا كان من الضّروريّ والبديهيّ أن نتصدّى لكلّ هذه المخطّطات الصّهيونيّة والحفاظ على مسرحنا وقصيدتنا وتراثنا الفلسطينيّ، كان لابدّ من الالتفات إلى ما هو أكثر خطورة، وهو الفاشيّة الدّاخليّة، دون تأتأة أو خوفٍ من نشر غسيلنا القذر، وفضح فاشيّتنا نحن، ذلك أنّ أعداء الدّاخل أخطر من أعداء الخارجِ وأشدّ فتكًا بفلسطينيّتنا. وليست الفاشيّة الدّاخليّة وليدة اليوم، فالفاشيّة الفلسطينيّة الّتي حاربت الفنان الشّهيد ناجي العلي بسبب أعماله، مضى عليها أكثر من 30 عامًا، والفاشيّة الإسلاميّة الّتي كفّرت الشّهيد راشد حسين بسبب قصيدته “الله لاجئ” والّتي تصدّى من خلالها إلى قانون مصادرة أملاك الغائبين من الفلسطينيّين، قد مضى عليها أكثر من 50 عامًا! هي نفسها الّتي اعتبرت الشّاعر سميح القاسم “كافرًا” حين رحل في العام الماضي. نحن، إذن، في الحالة الفلسطينيّة أيضًا، أمام فاشيّة اعتدناها، تلتقي بها فاشيّة المحتَلّ (فاعلًا) مع فاشيّة المحتلّ (مفعولًا) لتشكّلا فاشية واحدةً لا تنفصلُ في النّتيجة الّتي يكون ضحيّتها الإنسان الفلسطينيّ، مبدعًا أو متلقٍّ، يسدّد فاتورة الرّجعيّة والاستعمار، الّتي تصنع مجدها الباطل من خلال قمع ونبذ الآخر، الّذي لا يسير مع تيّارها المعتمَد، ويغرّد خارج السّرب، ويرعى أمام القطيع.
في الفترة الأخيرة، استوحشت الفاشيّة الإسلاميّة في الدّاخل الفلسطينيّ، وارتفعت نبرة التّحريم للفنّ والأفكار، حتى باتت خطابًا سائدًا مُعتمَدًا بجهلٍ مضلِّلٍ، وممارسةً تشكّل خطرًا على شريحة كبيرة من أبناء الشّعب الفلسطينيّ، تتجاوز مرحلة “الوصم”، حيث يُوصَم الإنسان بالكُفر، إلى مرحلة “العنف”، الّتي لا تفرّق بين اللّكمة والرّصاصة.
لا جماعات إسلاميّة في الداخل الفلسطينيّ، إنّها حركة إسلاميّة واحدة، وإن انقسمت سياسيًّا فأصبحت شقًّا شماليًّا وآخرَ جنوبيًّا، فالاسمُ واحدٌ، العقيدة واحدة، وحد التّطبيق ما يختلفُ لضرورات سياسيّة تبيح ما حَظَرَتْهُ الأولى على الثّانية، الّتي تحاولُ أن تظهر أكثر تحرّرًا وانفتاحًا وقبولًا للـ “آخر”، دون أن نغفلَ اسمها الّذي يعزّز الطّائفيّة ويتّخذُ من الدّين سياسةً!
في الجرائمِ الّتي تُرتَكَب لمحاربة الفنّ والإبداع والثّقافة وشرائح المجتمع المختلفة (كالنّساء والمثليّين وغيرهم) تصمتُ الفرقتان، لا إدانة، لا احتواء للموقف، ولا حتى تضامنًا من باب أضعف الإيمان!
قد تكونُ الحركة، بشقّيْها، بريئة، بمعنى أنّه لم يصدر عنها أيّ أوامر بالاعتداء على مناسبات وعروض وأعمال إبداعيّة، وأنّ الجهات، الّتي تمارسُ القمع والتهديد والاعتداءات، “إسلاميّة” مجهولة، حركات زعرنة من قِبَل أشخاص يغارون على معتقداتهم الّتي يتعارض معها الفنّ والإبداع والحريّة بمفهومها العامّ! لكنّنا، في المجتمع الفلسطينيّ، لا نعرفُ جهة إسلاميّة غير الحركة الإسلاميّة الّتي، شاءت أم أبت، ستتّجه أصابع الاتّهام نحوها، عند كلّ حادثة مؤسفة! فالّذين صمتوا حيال الاعتداء على الوقفات الاحتجاجيّة في قضيّة مناهضة قتل النّساء قبل سنوات، هم أنفسهم الّذين صمتوا على إلغاء ومنع عرض فيلم “المخلّص” لأغراض طائفيّة إقصائيّة، وعلى منع عروض “وطن ع وتر” السّاخرة في أكثر من قرية وبلدة عربيّة، وهم الّذين صمتوا على رصاصات أُطلِقَت نحو السيّدة حنين راضي، سبقتْها تهديدات لها ولكلّ النّساء والفتيات المشاركات في ماراتون الطّيرة، هم أنفسهم الّذين صمتوا على الاعتداءات الّتي تعرّض لها المشاركون في مؤتمر أصوات للنّساء المثليّات في حيفا قبل سنوات، وهم الّذين صمتوا على منع وإلغاء عرض سناء لهب في باقة الغربيّة، وأمسية الفنانة أمل مرقص في كفر قرع قبل سنوات وما أحاط بذلك من تهديدات لم يمنعهم الشّهر الفضيل عنها، والتحريض على رواية “أورفوار عكا” وعلي مواسي،! والكثير من الأحداث الّتي لا ننساها في صراعنا مع هذه الفاشيّة الّتي ترمي إلى النّيل من إنسانيّتنا والمتاجرة بكرامتنا.
ولعلّ المقالة الّتي نشرها السيّد كمال خطيب (نائب رئيس الحركة الإسلاميّة) قبل أيام حول زواج المثليّين، تضعُ الحركة الإسلاميّة وغيرها من حركاتٍ سياسيّة وأحزاب وجمعيّات ومؤسّسات حقوقيّة على المحكّ، فما معنى أنْ يتمنّى قياديّ بارز، ورجل دين أنْ يُصابَ المثليّون بالأوبئة والإيدز مستعملًا عبارة “قرف يقرفكو” في خطابِهِ الّذي يحطّ من قيمة الإنسان لمجرّد اختلافه عن كاتب المقالة بالميول العاطفيّة والهويّة الجنسيّة؟ فهل تعبّر المقالةُ المذكورةُ عن موقف الحركة الإسلاميّة؟ إذا كانت الإجابة:” نعم”، علينا حينها أن نعي جيّدًا أنّ الحركة تحمل خطابًا معاديًا لنا جميعًا، مثليّين وغير مثليّين، ويشرعنُ أيّ محاولة اعتداء على أيّ مثليّ أو مثليّة، حصرتهم مقالة كمال خطيب في دائرة الوصم الّتي سبق وأنْ أشرتُ إليها كمرحلة ترتبط بالتعنيف والمحاربة، وإن سبقتها. لذا، فإنّ الأمر يستوجِبُ –بالضّرورة- تحرّكًا من الأحزاب والحركات الوطنيّة الّتي تُشاطِرُ الحركةَ الإسلاميّةَ لجنة المتابعة والحركة القياديّة في البلاد، وإلا فإنّنا أمام مجموعة من الفاشيّين والمتخاذلين المهزومين، لتكمن الأزمة هنا، في صمت النّخب من مثقّفين وسياسيّين وحقوقيّين ورجال دين مستنيرين، ارتأوا الصّمت على الإدانة، ليشكّل صمتهم ضوءًا أخضرَ أمام تنامي هذه الفاشيّة وتغلغلها في مجتمعٍ لا ينقصه التّشرذم والتفكّك والانكسارات المتتابعة.
لست هنا بصدد كتابة ردّ على مقالة السيّد خطيب الّتي ردّ كثيرون عليها، ولكنها مثالٌ أستعرِضه في سياق الحديث عن محاولات تهميش الإنسان الفلسطينيّ سواء أكان فنّانًا، أم غير ذلك من أشخاص “مختلفين”، يفكّرون بحريّة ويمارسون حياتهم في مساحاتهم الشّخصيّة الّتي لا تروق لمَن نصّبوا أنفسهم أوصياء على الفكر والعقل والقلب، كما لو أنّهم تسلّموا مهمّة الله في الكشف عن قلوب العِباد، ومحاسبتهم!
إنها حالة من الخيبة قبل الذّعر، والنّفور من الدّين الّذي حوّله البعضُ مطيّة لتحقيق مآربهم الداعشيّة، وخيبة ممّن خانوا “إرادة شعبٍ” لم يعرفوا كيف يحتوونَ غضبه، وحماية كرامته المُهانة من ذوي القُربى من أبناء هذا الشّعب الّذي لم أعد أعرفه أصلًا!
في فيلمها الجميل “هلأ لوين؟”، الّذي يتناول الطّائفيّة في لُبنان، تصرخ المخرجة والممثّلة نادين لبكي في وجه مجموعة من المسلمين والمسيحيّين الّذين اندلعت الفتنة بينهم: “كفّرتونا بـ الله”! إشارة إلى أنّ ما يُرتَكَبُ باسمِ الله مسيئ، مسيئ إلى درجة الكُفرِ بذاتنا قبل ربّنا.
ولستُ أدري.. ألهذا يسكُنُ الله سبع سماوات طباقًا، بعيدًا عنا؟!
18 يونيو 2015
رائع يا رأفت، كلام دقيق وفي الصميم
17 يونيو 2015
التعليقكلّ الاحترام، علينا أن نواجه ما يخطّئنا، وما يحرمنا من حياتنا الحرّة الكريمة؛ جريء ومن عائلة جريئة
17 يونيو 2015
مقال رائع وجريء جداً ….كفى للسكوت والمهادنة امام ما تطرحه الحركة الاسلامية وتوجهاتها الرافضة للغير بكل الوسائل …مقال المدعو كمال خطيب خطير حداً وضوء احمر وخطير وهو دعوة مبطنة للعنف بكل اشكاله
17 يونيو 2015
رأفت من القلال الّي بيعرفوا يحطّوا إيدهن عالجرح الحقيقي، ويوخز بقلمه قلب قلب المشكلة.رائع
17 يونيو 2015
رائع رأفت احييك واحي كلامك الثاقب.