“علشان مَليش غيرك”/ رأفت آمنة جمال
قبل أشهر سكت فريدُه إلى الأبد. ليلة وفاته انتظرتُ حتى نام الجميع لأستمع إلى فريد بصوت منخفضٍ جدّا وأبكي دون أن يلحظ أحد ذلك… كان ينبعثُ من الراديو صوت القرآن الكريم وابتسامةٌ تعلو وجهي وقد تخايلتُ أن يضع أحدهم خطأً شريطًا لفريد الأطرش، ولا أخفي أنّني تمنّيتُ ذلك للحظات
“علشان مَليش غيرك”/ رأفت آمنة جمال
|رأفت آمنة جمال|
أحيانًا، بعضُ الّذين نحبّهم يكونون أشخاصًا عاديّين، نُحبّهم دون أن يكون ثمّة سبب لهذا الحُبّ.
وحدهم الّذين علّمونا أنْ نُحبّ، وكيف نُحبّ، لم يكونوا قَطّ عاديّين، فقط برحيلهم ننتبه إلى أنّنا أحببناهم يومًا، أنّ ثمّة أشياء كانت تربطنا بهم، أشياء افتقدناها حين رحلوا، تاركين كُلّ شيء خلفهم على غير حاله، وأحيانًا يأخذون معهم كُلَّ شيء، كلّ شيء .. مخلّفينَ لنا يُتم لهفتنا القاسي.
كأنّنا بالكتابة ننبشُ قبورَهم، بحميميّة مفرَطةٍ نعيدهم إلى تفاصيل حياتهم أمواتًا ممدّدينَ على طاولات كتابتنا كجُثث معدَّةٍ للتّشريح أو للغسيل على طاولات غسل الموتى. ولكن، وحدها الكتابةُ تفوح منها رائحة حياة عصيّون شخوصها على الموت ولو حتّى ذاكرةً.
.
كنتُ أراقبه من النّافذة المطلّة على ممرّ ضيّق يفصل منزله عن منزلنا. كان منزله قديمًا بحيث يكون الحمّام (والمطبخ أحيانًا) منفصلًا عن باقي غرف المنزل المتّلاصقة ببعضها البعض. ينبّهني صوت عكّازه المتردّد في تفحّص طريقه إلى الحمّام أو إلى ركن ملائم ليجلس فيه القرفصاء كعادته. فأتقدّم من النّافذة لأراقبه.. يسير متّكئًا على ذلك العكّاز، وبيده الأخرى على الحائط. أحيانًا يدندن بأغنية (لفريد الأطرش دومًا)، وأحيانًا يفلتُ لسانه شاتمًا الله تارةً، ومستغفرًا الله ذاته من الشّيطان الرّجيم تارةً أخرى.
ضريرٌ يحفظ زوايا بيته جيّدًا، ولا يرى سوى مشاهد أفلام فريد الأطرش الّتي لم تغادرْ ذاكرتَه، فيسرد بعض المشاهد كما لو أنّه فرغ لتوّه من مشاهدة الفيلم. مرّة كان يستمع إلى أغنية “زينة”، فيبتسم وهو يستحضر مشهد الرّقص الّذي أدّته هند رستم أمام فريد الأطرش وشادية، حتّى بتّ أشعر كلّما سمعتُ الأغنيةَ أنّني أجلس معه على أرضيّة غرفته القديمة أشاهد هند رستم وهي ترقصُ في تلك المساحة الّتي بيننا.
.
أذكر ذلك اليوم جيّدًا، كنت طالبًا في المرحلة الابتدائيّة حين ناولتني والدتي سبعة شواقل لأشتري شريطَ “نجوم الليل” لفريد الأطرش بعد أن طلبه هو منها. وضعت النقود في كفّي: “أنا كنت موصّيتهم عليه، نجوم الليل لفريد الأطرش واللي فيه غنويّة بساط الريح، روح شوف إذا جابوه واشتريه”.
كم امتلأت بالفرحة يومها، عدتُ إلى المنزلِ ملوّحًا بالشّريط كطالب مجتهد يلوّح بشهادة علاماته العالية. طلبت منّي والدتي أن أذهب لإعطائه الشّريط، لتبدأ قصّة الحُبّ بيني وبين فريد الأطرش الّذي صرت أقتني أشرطة أغنياته في وقت لم نكن نعرف فيه لليوتيوب والإنترنت طريقًا. كنت أضعُ أشرطة فريد وأقوم بقلب الشّريط مجدّدًا بعد الأغنية الأخيرة. مرّة شاهدته يتّكئ على حافّة شبّاكنا المنخفض من جهة بيته، هو لم يكن يراني،و لم أسمعه يدندن. كان قصير القامة، لكنّ بروز حطّته وعقاله كان كافيًا لكي أراه من بين أصُص الورد الموضوعة على الشّبّاك. بعد أن توقّف فريد عن الغناء، انتظر قليلًا، طمعًا بأغنية أخرى قبل أن يعودَ أدراجَه إلى غرفته الصّغيرة، ثمّ يطلق العنان لصوت فريد ويبدأ الغناء معه. تبادُلٌ بالأدوار كنّا نمارسه معًا، متنافسَيْنِ على الأغاني، ولكنّه الفائز دومًا، هو الضّرير الّذي يتحسّس الشّريط ليتعرّف على الأغاني الّتي يتضمّنها قبل أن يضعَه في الجهاز، على الرّغم من عشقه لكلّ ما قدّمه فريد، إلّا أنه كان يصرّ على اختيار أغنية ما بعينها حين يروق له سماعها. كان يعجزُ أحيانًا، فيناديَني لأختار له الشّريط الملائم ويصرّ أن أجلس ليحكي لي فصلًا إضافيًّا من علاقته مع فريد الأطرش، الّذي لم يلتقِه سوى على شاشات السّينما القديمة في فلسطين -كما أخبرني- وعبر أجهزة الرّاديو.
في إحدى المرّات غضب منّي كثيرًا، كاد يبكي وهو يدافع عن صوت فريد الأطرش بعد أن أخبرته حول إعجابي بصوت عبد الحليم أكثر من صوت فريد، لم يقتنع بأنّني أتحدّث عن الصّوت فقط، معتبرًا كلامي في ما بعد حول عدم حبّي لعبد الحليم مجرّد تكفير عن الذّنب الّذي اقترفته، ولكنّه نسي غضبه حين بدأتُ أحكي له عن آراء بعض النّقّاد الّذين قرأت لهم في كتاب أعدّوه عن فريد الأطرش، فكان يهزّ رأسه للكلام الجميل قائلًا أحيانًا: “هاذ الزلمي فهمان، بحكي صح” وأحيانًا يعدّل بعض المعلومات ليُظهر لي أنّ لا أحد غيره يعرف فريد كما يجب. وكم بدا فخورًا حين قال لي مرّة: “مات أبوي مع فريد الأطرش بنفس اليوم”، فيصمتُ كما لو أنّه ينتظر سؤالي الأهم: “على مين حزنت أكثر؟” ليردّ سريعًا وبؤبؤ عينيه الثّابت يحملق في الأعلى: “معلوم على فريد، أبوي شو عمل بحياته؟ فريد عمل أكثر”. ثمّ يضحك بصوت عالٍ قبل أن يتذكّر أن يترحّم عليهما وعلى “جميع أمواتنا”.
لم يكن يغادر منزله إلا نادرًا، يأتي أبناؤه لأخذه إلى منازلهم البعيدة قليلًا عن حيّنا. كنتَ تعرف أنّه بعيد أو مريض حين كان فريدُه يسكُتُ لأيّام متتالية لا يردّ فيها على فَريد(ي) ولا يحرّضه على الغناء. قبل أشهر سكت فريدُه إلى الأبد. ليلة وفاته انتظرتُ حتى نام الجميع لأستمع إلى فريد بصوت منخفضٍ جدّا وأبكي دون أن يلحظ أحد ذلك. لم يكُن قد ووريَ الثّرى بعدُ، كان لا يزال في المستشفى، والجميع يتهامسون ويعدّدون مناقبه، فيما كنتُ أسلّط نظري على شبّاكه الحديديّ الّذي كان يضعُ على حافّته جهاز الرّاديو ويسند ذراعه فوقه. كان ينبعثُ منه صوت القرآن الكريم وابتسامةٌ تعلو وجهي وقد تخايلتُ أن يضع أحدهم خطأً شريطًا لفريد الأطرش، ولا أخفي أنّني تمنّيتُ ذلك للحظات.
.
قبل أشهر مررتُ بمحاذاة قبره، مساحة من الرّخام الأبيض حُفِرَ عليها اسمُهُ، تعلوهُ كلمة: “الفاتحة”.
بين أن أقرأ له الفاتحة وأن أغنّي له، اخترت قراءة الفاتحة، قبل أن أتقدّم أكثر وأغنّي -دون صوت- مقطعًا من “يا ريتني طير لاطير حواليك”.
قبل أن أغادر المقبرة تملّكتني رغبة بكتابة مقطع من أغنية لفريد الأطرش على قبره. ولكنّني تراجعتُ وقد خطر لي أنّ كثيرين يعرفون أنّ فريد كان يربطني به.
أغادرُ تاركًا له قلمي على تلك المساحة الكبيرة من البياض ليكتب عليها أغنيات فريد الأطرش، متناسيًا أنّه كان ضريرًا ولم يكن يجيد القراءة والكتابة، كان فقط يجيد الاستماع إلى فريد والغناء معه.
.
زرتهم في العيد، كنتُ أتفقّد أغراضه، عكّازه في مكانه، أشرطة فريد الأطرش القديمة مرتّبة بمحاذاة جهاز الراديو الأسود القديم. أمدّ رأسي بخبث لأتفحّص الأشرطة، بعضها كان لي، أهديته ايّاها خلال “علاقتنا”، بعضها كان قديمًا جدّا لا أحرف عليه، والبعض الآخر جديد، جاءه دون علمي! ما يميّز الأشرطة أمر واحد، كانت كلّها تحمل الاسمين ذاتهما فقط: فريد الأطرش و أسمهان.
أفتقده كثيرًا، كلّما سمعتُ أصوات الصّبيان المزعجين في الشّارع، كلّما جاء بائع متجوّل كان يطرح عليه السّلام في مكبّرات الصّوت فلا يبالي به كثيرًا هو المنشغلُ بطقسه الموسيقيّ الجميل.
كانَ صوت فريد يملأ الشّارع، فتشعر كما لو أنّك تسكن في حيّ شعبيّ من أحياء القاهرة.
أحيانًا يختلط صوت فريد مع صوت المؤذّن. وكان صوت فريد أجمل، لأنه كان أصدق.. وكنتُ أصغي إليه يغنّي مع فريد ويردّد : الله الله!
منذ أن رحل، لم أعد أستمع إلى صوت فريد الأطرش بصوت عالٍ كعادتي، لعلّني صرت أخجل، خصوصًا أنّ أبناءه لم ينفّذوا وصيّته الّتي ردّدها أمامي مرّتيْن: “لمّا أموت بدّيش يحطّوا قرآن.. بدّي صوت فريد الأطرش”.
أحيانًا .. حين أستمع إلى فريد وأغنيتيْ “بساط الرّيح” و “أضنيتني بالهجر” أفتح النّافذة، أرفع الصّوت.. لأطمئنه: أنتَ لا زلتَ هنا.
.
28 سبتمبر 2015
من اجمل ما قرات في حياتي. وصف بديع لحالي في عشق فريد الاطرش.
25 أغسطس 2014
الى عبدالله احمد عبدالله.. جزاك الله خير و نفع بك .. تحياتي.
26 مارس 2013
راااااائع رااااائع لقد صدقت كل شيئ لانكَ كنت تروي عني انا وعن كل عشاق فريد الاطرش ولكن عتبي عليك بمصطلحات التي ذكرتها عن ذكر الله والآذان ولك مني كل الشكر والتحيه
7 فبراير 2013
نصّ جميل.. بكلّ المقاييس والمعايير “الفنّيّة”..
إنّه يحكي قصّة حبّ.. وعِشق.. ووفاء.. مؤثّرة.. ومعبّرة..
ويصوّر موقفاً إنسانيّاً رائعاً.. وعواطِف ومشاعِر غاية في النّبل..
كلّ ذلك .. في بناء قصصيّ محكم.. وبأسلوب آسِر .. يعكس صدق القاصّ.. وتفاعله مع الشّخصيّة.. والحدث.. تحقيقاً للمتعة الفنّيّة الّتي ينشدها القارئ.
ولعمري.. فلقد أصاب الهدف.. بأسرع الوسائل.. وأقرب الطّرق..
فليتقبّل منّي رأفت آمنة جمال جزيل الشّكر وجميل العرفان..
ومزيداً من العطاء والتّألقّ
29 يوليو 2012
نص جميل ومعبر ولكن انا اعتب علي الكاتب الجميل استخدام فقرات لايجب ان تكون لأنها قد يشتم منها نوع من الاستهتار بالدين الحنيف كقوله ( شتم الله ) استغفر الله , وقوله ( اذا مت لااريد قرآنا اريد صوت فريد) مالداعي لذلك وشتان بين الامرين كان يستطيع الكاتب ان يقول ( اذا مت اريد صوت فريد) هذه العبارة اجمل وهي تؤدي الطلوب دون الدخول في شئ لايجوز . كذلك لاحظت قوله ( يجب صوت فريد علي صوت الاذان لأن صوت افريد اصدق ) هنا لابد ان يحدد ان الغير صادق هو المؤذن وليس الآذان كأن يقول ( كم تمني في اعماقه لو ان الآذان بصوت فريد) مثلا .
عموما افضل تعديل هذه الفقرات والابتعاد عن مثلها مستقبلا , الكاتب متميز بافكار رائعة
فريد اصبح من تراث الشعوب العربية يدخل في ابداعاتها قصة وشعرا كما دخل في عواطفها وحكايات غرامها .
عبدالله احمد عبدالله – بنغازي – ليبيا
12 يوليو 2012
علشان هالنّص كان يصرخ بألحان فريد
كان يصرخ بملامحك وهي كلها
عم بتغني لتزرع بكل كلمة إحساس ،
لتوصل لهفة وفرح ع جوهر روح
حزن ودمع ع غياب وعتاب ،
كنت أسمع فريد ، وأُغني فريد
أصبحتُ أُصغي فريد ،
أحببتَني فريد بغيرِ طريقة
بغير طريقةٍ يا صديقي ..!
مُتعبة ! تؤلفُ ألف نجمةً ونجمة
أبدعت وإلى الأمام
أٌهنئك ، في كلِّ مرة تفاجئني
بالأجدد والأرقى
11 يوليو 2012
كمية مبالغ فيها من المشاعر وتضخيم للمواقف تجعلك تنزعج من القراءة وتعطيك شعورًا بعدم الصدق واللا-واقعية.
11 يوليو 2012
نصك يا صديقي المبدع يلامس شغاف الروح بعمقه وسرياليته
دام نزف قلمك الحر
11 يوليو 2012
اسرتني بالاسلوب … رائع رائع .. بالتوفيق
9 يوليو 2012
جَميلٌ هُو الفن والطرب حين يُعَبَّر عَنهُ بِأُسْلوبٍ كَهذا، وَجَميلٌ هو فَريد حين يوصَف “كالفريد” بِلُغَةٍ كهذه…. وعظيمٌ هو النثر حين يُعَنوَنُ بِإسمك…… رائع يا رأفت، وإلى الأمام
9 يوليو 2012
جميل جدا يا رأفت , أهنئك وأهنئ نفسي بصداقتك .
الى الأمام عزيزي