“مستوطنة العقاب” في لندن: كلنا رهائن للمنظومة!/ فراس خطيب
وجَّه كافكا سهامه بفلسفة مبطنّة إلى “المنظومة” وبنيتها. منظومة عايشها بنفسه مع بداية القرن العشرين، حين تفجّر فجر الصناعات وتشعبّت الأفكار الرأسمالية فصار الإنسان عبدًا للمنظومة ■ الانحصار في الاستعارات وحدها قد يجردّها من رقيّها الفكري
“مستوطنة العقاب” في لندن: كلنا رهائن للمنظومة!/ فراس خطيب
|فراس خطيب|
قصة “في مستوطنة العقاب” لفرانز كافكا تدور في رقعة معزولة، قاحلة بفعل الطبيعة. لا ناس في المكان سوى سجين محكوم عليه بالإعدام (طاهر نجيب) وضابط مسؤول (عامر حليحل) عن جهاز (آلة) ضخم لتنفيذ حكم الاعدام. يعمل الجهاز في حال دخول المحكوم (من دون محاكمة) إلى قلبه. يمتد عمله لمدة 12 ساعةً يمرّ بها “المحكوم” بخطوات تعذيب حتى النهاية. لكنَّ مبدأ الجهاز الذي بناه “القائد السابق”، لا يعجب “القائد الجديد” كما يبدو. حقيقة تؤرق الضابط المسؤول العالق بين ولائه غير المتناهي للقائد السابق الذي أسس “المستوطنة” والجهاز ومرارته من سلطة القائد الجديد وخططه القاضية بنهاية حياة الجهاز. صراع ينكشف على الخشبة بعد قدوم الزائر (مكرم خوري) إلى المكان. ليس واضحًا ما الذي يريده الزائر؛ أهو مجرد مستكشف أم أنه مبعوث من القائد الجديد ليحقّق؟ ما يظهر أنه جاء المستوطنة بتصريح ليكون شاهدًا على الواقع. بين الجندي والضابط والزائر تدور رحى المسرحية إلى ما لا نهاية.
يستطيع المرء أن يقرأ نصوص كافكا ويغوص في فلسفته ليجدها، رغم مرور قرابة القرن على وجودها حيةّ في كل مكان. “في مستوطنة العقاب” التي كتبت في العام 1914 ونشرت في العام 1919 ملأى بالاستعارات، وقد يأخذها المرء إلى تجربة الاحتلال إن شاء، وقد يحلق معها أيضًا إلى أوروبا التي سبقت الحرب العالمية الثانية. قد يأخذها أيضًا إلى عصرنا الحالي وحرب الدول الكبرى ضد “الإرهاب” وسجن “غوانتامو”، فهناك أيضًا يعيش سجناء من دون محاكمة في مستوطنة كلّها عقاب خارجة عن حدود الولايات المتحدة لكنها خاضعة لها بنفس الوقت. استعارات كثيرة تعلو من النص والمسرحية، لكنَّ الانحصار في الاستعارات وحدها قد يجردّها من رقيّها الفكري. هناك حاجة للتمحيص بما يجمع الاستعارات كلّها، السياسية منها والاجتماعية، ولعلّ الأمر الجلي هنا، أنَّ كافكا وجَّه سهامه بفلسفة مبطنّة إلى “المنظومة” وبنيتها. منظومة عايشها بنفسه مع بداية القرن العشرين، حين تفجّر فجر الصناعات وتشعبّت الأفكار الرأسمالية فصار الإنسان عبدًا للمنظومة. فالنص الذي كتب آنذاك، لم تسقطه حسابات الزمن، بل أحيته أكثر مع السنوات، حين تحول الانسان في العالم إلى تفصيل صغير في جهاز كبير، من دون تأثير أو مكان. فكاتب “المحاكمة” لا يبحث عن العدالة بمقدار ما يضعها في صلب التساؤلات. والعدالة -وإن عرفت- فإنها مفقودة، والانسان عبدٌ (أو ضحية) للمنظومة.
عامر حليحل (إذا قال يوسف/ خادم السيدين/ بمزيد من الحزن والأسى)، المشارك البارز في أعمال فريق “شبر حر”، مرة أخرى تراه حاضرًا بقوّة على الخشبة. فالممثل الذي أتقن دائمًا أدوارًا متنوعة، ينطق هذه المرة نصّه بما ينسجم مع تعابير جسده وملامحه التي تغيرّت مع صراعات النص. لم يسقط حليحل في فخ “قسوة” الضابط، ولا رمادية “الولاء المزدوج” (للقائدين) بل أتقن التعقيدات الكامنة بينهما بعمق ومهنيّة. وكذلك طاهر نجيب (لا لم يمت/ الزير سالم)، قد يكون من الممثلين القلة الذين يتقنون التحكم بالجسد إلى هذا الحد. شاب نحيف، قوي البنية يفرض حضوره من خلال جسده الذي تحرّك باتقان. صامت، لكن جسده الذي يحكي غطّى على صمته. أما مكرم خوري، العائد إلى خشبات لندن بعد مشاركته أخيرًا عملاً مع المخرج بيتر بروك (11و 12(، يعود هو أيضًا بحضور قوي على الخشبة ليؤدي دورًا صعبًا، لشخصية لم يحدّد ملامحها كافكا في قصته الأصلية. صاحب الخبرة الكبيرة على الخشبة يسرق الأنظار أحيانًا بهدوئه وحضوره معًا وموقفه الذي تحاول طيلة المسرحية تفكيكه.. فلا تفككه.
الفضاء المسرحي أسود، يكسره حضور الجهاز الذي يبدو مثل بيت خشبي. لكنَّ مصمم الديكور (أشرف حنّا) عمل أيضًا هو وفق الاستعارات، واستبدل شمس المكان القاحل بزهور صفراء (عبّاد الشمس) منتشرة على طرف الخشبة الأيمن؛ زهور جميلة، لكنّها خاضعة للعقاب في ذلك المكان لا تضفي على المكان جمالية بمقدار ما تضفي تساؤلاً.
يغازل هذا الانتاج الوعي ويفتح الآفاق نحو التفكير بالواقع وربطه ربما بالأدب العالمي. لقد كتب كافكا قصته القصيرة (وثمة من يعتبرها رواية قصيرة) عن واقع إنساني في نقد المنظومات الحديثة، والعمل الذي أداه طاقم “شبر حر” الفلسطيني يمتاز هو أيضًا بمهنية خالصة، تبدأ باختيار النص والاخراج والتمثيل، مستحضرًا كافكا من دون الوقوع في فخ المقارنات بين ما رواه كافكا وبين ما يعيشونه اليوم، بل جعلوا العمل مفتوحًا على مصراعيه في قالب مسرحي راق للتفكير. وقوة الثقافة أصلاً تكمن بالتفكير الواسع وليس من خلال حصر المشاهد في فكرة واحدة مباشرة من دون وعي لما يدور حولها.
“في مستوطنة العقاب” عمل يستدعي التأمل، ليس فقط بما دار على الخشبة، أنما بما يدور أيضًا بين سطور النصّ في عالم صار كله رهينة للمنظومة والاستهلاك. فحين يموت البشر في الحرب ويعذبون، ثمة، في بلاد أخرى، يموت الناس وهم أحياء، حين يتحولون عبيدًا للمنظومات.
(لندن)
في “يانغ فيك”
مستوطنة العقاب تعرض في لندن في هذه الأيام تحديدًا، على مسرح “يانغ فيك” ضمن مهرجان “شبّاك” للثقافة العربية المعاصرة في العاصمة البريطانية. ومن المفترض أن يقدم طاقمها 15 عرضًا بين 11-23 تموز. العمل بدعم وتعاون من مؤسسة “القطان” و”الصندوق العربي للثقافة والفنون”، وهو صاحب العروض الأكبر نظرًا لتعاون سابق بين مسرح “يانغ فيك” وفريق “شبر حر”. ففي العام 2010 عرض “شبر حر” أيضًا “إذ قال يوسف” على نفس الخشبة.
في مستوطنة العقاب ■ من مجموعة “شبر حر”، بناءً على رواية “مستوطنة العقاب”؛ تأليف: فرانز كافكا؛ إعداد وإخراج: نزار أمير زعبي؛ ترجمة: علاء حليحل؛ تمثيل: مكرم خوري، طاهر نجيب، عامر حليحل؛ تصميم ديكور وملابس: أشرف حنا؛ موسيقى: ريمون حدّاد، إضاءة: جاكي شيمش؛ إدارة تقنية: إياس ناطور.