عمر سعد؛ وتناقضات أخرى/ رأفت وهيب حرب
نحن نعزف، نتعلّم، نكتب، نمثّل ونعمل للحياة وللسّلام. نرفع قلمًا وكمانًا في وجوه بنادقهم، ولذلك نرفض أن يُحرم الطّالب من مقعده الدراسيّ أو صفّه. نزرع أرضنا ونحميها من جشعهم، ولذلك لا نقبل أن تسرق الأرض من أيدي فلّاحيها. ولأنّنا نقدّر الإنسان والإنسانيّة، كأفرادٍ لها دورها في المجتمع، نرفض أن نكون جزءًا من جهازهم العنصري والمغتصب.
| رأفت وهيب حرب |
التّجنيد الإجباري المفروض على الشّباب من أبناء الطّائفة الدرزيّة منذ خمسينيّات القرن الماضي، أثقَل على أكتاف هذه الطّائفة كثيرًا، وفرضَ على شبابها تبنّي نهج حياة، فكر وأيديولوجيّات جديدة تُلائم الواقع الجَديد. لا أنوي التّطرّق للكيفيّة، ولا للأساليب الممنهجة ضدّ الطّائفة، كغسل الدّماغ وكل ما يتبعه، وما يتبع له من طرق عدّة تصبّ في نهاية الأمر في مصلحة الدّولة، لهدفٍ واحد واضح: فرّق تسد.
الأسلوب الذي تتبنّاه الدّولة في فرض هذا القانون نوقش كثيرًا إلى الآن. نضالات كثيرة قامت من حين فرض القانون إلى اليوم، حتّى من قبل قيام الدّولة، وتاريخ الطّائفة لا يحتاج للشّهادة أو للإشارة. قد نحتاج لأن نسلّط الضّوء الآن على التغييرات الجذريّة في أساليب الرّفض لدى الشّباب، هذا الرّفض الذي يأخذ طابعًا جديدًا من مرحلة لأخرى، وتختلف معالمه من جيل لآخر.
عمر سعد، كما كثيرين غيره من الذين يرفضون التّجنيد الإجباري لأسبابٍ إنسانيّة، وطنيّة وقوميّة، هم الأجدر بالذّكر، وفقًا للرأي العام. والأسباب كثيرة، منها أنّهم الأجرأ على الإشهار برفضهم أمام الإعلام على الصّعيد العام، وأمام البيت والطّائفة كمجتمع على الصّعيد الخاص. ذات المجتمع الذي انصهر داخل دوّامة الخدمة والولاء للدّولة، وحلف الدّم المزعوم. المجتمع الذي ينبذ -في أغلب الأحيان-الرّافضين كأشخاص والرّفض، رغم تعدّد أسبابه، كفكرة.
وهنا لا بدّ من الذّكر أن هناك العديد من الرّافضين الذين يقبعون في السّجون، لفترات طويلة، يخوضون المعركة لوحدهم أمام الجهاز العسكري، وتبقى أسمائهم كما أجسامهم مسجونة. لسببين يتداخلان في جوهرهما؛ فمن جهة واحدة، لا يُشهر هؤلاء عن رفضهم الذي لا يرتقي للأسباب الوطنيّة، لأنّه ينحصر داخل إطار المصلحة الشّخصيّة كالتعلّم والوضع الاقتصادي، ومن جهة أخرى، لا يلتفت الإعلام أو الرّأي العام لهم، لكونهم لا يحدثون ضجّة إعلاميّة كافية تكفي لأن تلفت نظر الشّارع. هذين السببين حسب رأيي، يولّدان الواحد الآخر في عمليّة تعود على نفسها منذ زمن، فلا يجرؤ الرافض في أن يقول أنّه يرفض لسببٍ اقتصاديّ مثلًا، ولا يعطي الإعلام المساحة في معالجة، تحليل، وتغطية هذه الأسباب وشبيهاتها أيضًا.
لو أنّنا فقط أعطينا المجال لأنفسا في أن نرى الصّورة بعدسة أكبر من الذي يستعملها الإعلام في الدّاخل، لوجدنا أنّ الأعداد التي نتصوّرها عن عدد الرّافضين للخدمة يفوق التوقّعات. الأسباب ليست في تلك الأهميّة في مجتمع يحاول أن يرفض قانونًا جائرًا نُصّ بحقّه بكلّ الطّرق، بغضّ النّظر عن التّخاذل من قياديّي الطّائفة، فالاختلافات وتعدّد الاسباب أمر طبيعيّ وصحّي. المهمّ في الوضع الرّاهن هو أن نتقبّل كرافضين فيما بيننا وكمناهضين وجود الأسباب الأقلّ إنسانيّة أو وطنيّة عنّا، ونفهم أن الأسباب الاجتماعيّة أيضًا ما هي إلّا طريق -عند التطرّق إليها وحلّها-لتبنّي الأسباب الوطنيّة لدى الرافضين مستقبلًا.
إستطاع عمر يوم سلّم نفسه أن يصل لكلّ بيت يهمّه الأمر، وأن يرنّ اسمه في آذان المسؤولين. فاليد التي تعزف للسّلام لن تحمل سلاحًا، كما هو الأمر لليد التي تحمل قلمًا أو منجَل أو مصروف عائلتها -وهنا لا بدّ لي أن أشكر عمر على الرّقيّ الذي أبداه، وأن أدعمه في مشواره-. ما لم يستطع عمر أن يفعله هو أن يصل للشّباب الدروز المقبلين على التّجنيد، أن يحاكيهم، أن يحمل الهمّ العام في ظهوره، همّه وهمّهم. لم يستطع عمر أن يرفع سقف التطلّعات لدى الشّباب إلى المستوى العام، بل حاصرهم، مع التّغطية التي شاركته، في شخصِه كرافض لا كفكرة أو مبدأ. ولم يستطع الإعلام (ومواقع التواصل الاجتماعي) أن يستنبط الفكرة، الأسباب والأهداف من رفض عمر التّجنيد، ولا أن يتعدّاه لدرجةٍ يكون قادرًا فيها على دعم وفرض فكرة لا شخص.
حقّنا ليس رأي عامّ، ورفضنا ليس ضربًا من الجنون الـ “إيجويستيّ”، رفضنا ليس “غريزة حيوانيّة” تسكننا وتجعل منّا روبوتات، لا نرفض لأسبابٍ شخصيّة لا أساس تاريخيّ لها، وأيّ محاولة لتخصيص مبدأ الرّفض لأشخاص غير مقبول. لن نقبل أن نجعل من أنفسنا أبطال خارقين، ولا أنبياء العصر أو عناوين المرحلة، فالواجب صامت منذ وُجد.
قانون التّجنيد الإجباري لا يهدّد مبادئنا فحسب، بل يهدّد ثقافتنا، اقتصادنا، تاريخنا، شهاداتنا، تقدّمنا وتطوّرنا كطائفة في القرن الواحد والعشرين، عليها أن تلحق ركب التطوّر لا الجهل وتبنّي سياسة القطيع، طائفة تفتح لأبنائها أبوابًا جديدة للحياة غير البدلة العسكريّة. وكلّ جانب من الجوانب الذي يهدّدها هذا القانون في حياتنا هو جانب مقدّس، ورفضه مقدّس ولا تتفاوت قداسة واحدٍ عن الآخر.
نحن نعزف، نتعلّم، نكتب، نمثّل ونعمل للحياة وللسّلام. نرفع قلمًا وكمانًا في وجوه بنادقهم، ولذلك نرفض أن يُحرم الطّالب من مقعده الدراسيّ أو صفّه. نزرع أرضنا ونحميها من جشعهم، ولذلك لا نقبل أن تسرق الأرض من أيدي فلّاحيها. ولأنّنا نقدّر الإنسان والإنسانيّة، كأفرادٍ لها دورها في المجتمع، نرفض أن نكون جزءًا من جهازهم العنصري والمغتصب.
عمر اليوم لأنّه يستحقّ. اليوم، الأمس وغدًا، عمر ونحن جميعًا، لأنّنا نستحقّ.
فتحيّة لك في سجنك، تحيّة لمبادئك، تحيّة لرقيك، لمشوارك، لصوتك ولعزفك، تحيّة لاسمك وللإنسان الذي فيك.
